عملت السلطات الروسية منذ وصول الرئيس فلاديمير بوتين إلى الحكم (بعد الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي) على وضع استراتيجة سياسية – امنية جديدة، تختلف عن الاستراتيجية السائدة في فترة الايديلوجية الشيوعية حيث حاول تغليب المصلحة العامة واتباع سياسة برغماتية في علاقته مع مختلف الفواعل الدولية، وهذا لتجنب الصدام والابتعاد عن الطابع الايديلوجي والهوياتي الذي يتحكم في العلاقات والذي تسبب في تفكك الاتحاد السوفيتي سابقاً.

فعلى الرغم من وجود فترات اضطراب وتوتر في علاقة كل من روسيا والأطراف الغربية، الا أن الرئيس بوتين حافظ على روابط عديدة اقتصادية وسياسية مع هذه الدول لتفادي الصدام، وللتركيز على النهوض من الداخل بدل من الدخول في صراعات ستقف امام عودة روسيا إلى الساحة الدولية من جديد. لكن هذا لم يمنع وجود سياسة روسية مختلفة عن السياسية الليبرالية، حيث حافظت موسكو على طابع معين في توجهاتها ونظرتها لاقليمها؛ بداية مع رفضها التمدد الامريكي تحت اطار حلف شمال الأطلسي – الناتو، وهذا للابقاء على النفوذ الروسي في الجمهوريات السوفياتية السابقة، وعلى الرغم من ادعاء روسيا في مختلف المحافل الدولية انها تحترم القوانين الليبرالية إلا أن مسألة المساس بمجالها الحيوي قادها نحو استخدام القوة الصلبة، لتكون هذه نقطة تحول في العلاقات الروسية الغربية.

فمند ان أطلقت روسيا عمليتها العسكرية في أوكرانيا، تبعتها ردود فعل غاضبة من عدة دول على رأسها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الاوروبي، مع وجود مطالبات لتشديد العقوبات الاقتصادية والسياسية على موسكو لردعها والتقليل من تداعيات الحملة العسكرية التي شنتها على اوكرانيا. فهل ستعيش روسيا عزلة سياسية مفروضة من الغرب؟

دعوات لعزل روسيا سياسيا ودبلوماسياً

تمحورت اغلب الردود السياسية الغربية بين رفض وتهديد مباشر لروسيا في حالة استمرارها بعمليات العنف، حيث دعت كل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي مختلف الأطراف للمشاركة في توقيع عقوبات على روسيا، والبداية مع واشنطن حيث فرضت على موسكو عقوبات اقتصادية، وأقرّت قيوداً على التصدير إلى روسيا، وقال الرئيس جو بايدن إن 4 مصارف روسية إضافية ستُدرج على قائمة العقوبات، كما سيتم حرمان روسيا من أكثر من نصف وارداتها من المنتجات التكنولوجية المتطورة، معتبراً أنّ هذا سيكبّد الاقتصاد الروسي تكاليف باهظة، على الفور وعلى المدى البعيد في آن واحد.

من نفس السياق، أعلن الاتحاد الاوروبي عن فرض عقوبات على العديد من المسؤولين الروس رفيعي المستوى، بينهم وزير الدفاع سيرغي شويغو، بالاضافة إلى بريطانيا حيث أعلن رئيس وزرائها، بوريس جونسون، عن فرض عقوبات على أكثر من 100 فرد وكيان روسي – بعد أن اندلاع الحرب بين موسكو وكييف – قائلاً أمام البرلمان “بشكل عام، سوف نجمد أصول أكثر من 100 كيان وشخصية أخرى بالإضافة إلى مئات الكيانات والشخصيات التي تم الإعلان عنها”.

في المقابل، لم تلتزم كل الدول الاوروبية بتطبيق هذه العقوبات، حيث لم تلتزم صربيا بدعوات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة للمشاركة في توقيع عقوبات على روسيا، مبررة ذلك بمصالحها الوطنية.

ومع استمرار الغزو الروسي والتوسع تتزايد نسب العقوبات الغربية، وترتفع حدة الرد من تنديد إلى خطوات وسياسات اخرى اكثر حزماً واكثر تأثيراً.

عزل كروي وإلغاء عقود رعاية

لم تتأثر روسيا سياسياً واقتصادياً فقط بسبب غزوها لأوكرانيا بل حتى رياضياً، بداية مع الهجوم على الروسي رومان أبراموفيتش، مالك نادي “تشيلسي” الإنجليزي، والمطالبة بتجريده من ملكية النادي، لينتهي به المطاف مستقيلاً من منصبه، حيث سلّم “إدارة ورعاية” النادي إلى مؤسسة أمناء النادي الخيرية. وقام نادي “مانشستر يونايتد” بالغاء الرحلات مع شركة طيران روسية، بالاضافة إلى مطالب رئيس وزراء إنجلترا بعدم السماح لروسيا باستضافة أحداث كروية، حيث قال “أعتقد أنه من غير المعقول إقامة بطولات دولية كبرى لكرة القدم في روسيا، بعد غزو دولة ذات سيادة” أيضاً، أكد نادي “شالكه” الألماني – على حسابه في “تويتر” – أنه أزال شعار شركة “غازبروم” الروسية من قمصان فريقه بعد التطورات الأخيرة. وعلى المستوى الفردي، انتقد الكثير من الرياضيين التحرك الروسي وساندو اوكرانيا في حربها المشروعة .

على الرغم من القوة الروسية العسكرية أمام اوكرانيا إلا أن المواجهة لا تقتصر عليهم فقط، بل موسكو وضعت نفسها أمام تحدٍ مواجهة عالمية وغضب كبير أدى إلى سياسات عدائية ستكون لها اثارها طويلة الأمد على موسكو وحتى عالمياً.

تداعيات العزلة السياسة والاقتصاية على روسيا

تمتلك روسيا حق النقض – الفيتو بصفتها عضو دائم في مجلس الأمن مما يجعلها تمتلك أفضلية سياسية كبيرة في كثير من القضايا، كما لم تستخدم روسيا ثقلها السياسي في أية فترة من الفترات خارج مجالها الحيوي ولم يكن لها قرارات مضادة عكس التيار الغربي وهذا لوجود مصالح مشتركة.

وعلى الرغم من موقفها الصعب إلا أنه قابل للتغيير عن طريق التفاوض، حيث توجد الكثير من نقاط التقاطع في المصالح الروسية – الامريكية والروسية – الاوروبية في عدة مناطق من العالم على رأسها الشرق الاوسط وحتى إفريقيا، لهذا مهما زادت حدة العداء فالقطيعة السياسسة لن تكون الحل الانسب.

لقد حافظت روسيا على حيادها في كثير من القضايا، لكن موقفها ثابت فيما يخص التمدد الغربي بقيادة الناتو نحو الشرق الاوروبي، فجمهويات الاتحاد السوفيتي سابقاً هي امتداد طبيعي لها وتدخل في اطار أمنها القومي.

ففي ظل ما يعتبر اعتداء وتمدد امريكي على حدود روسيا الطبعيية تبعه رد روسي عسكري، هل ستحافظ موسكو على توجهها الحيادي في القضايا الاخرى أم أنها ستعلن حربها السياسية على كل من ينتقد سياستها تجاه أوكرانيا؟

على الصعيد السياسي، إن التوغل الروسي العميق في أوكرانيا والعقوبات الغربية التي تحد من الصادرات الروسية ستمثل أسوأ سيناريو عالمي، وستهدد بأزمة خبز في الشرق الأوسط ودول إفريقيا، الأمر الذي قد يؤدى إلى موجات من الاحتجاجات الشعبية، قد تغير من المعادلة السياسية في تلك البلدان.

من الممكن أن تتغير الخارطة السياسية الغربية، وسلّم الأولويات والعلاقات الدولية؛ فالأزمة الاوكرانية من المحتمل أن تجر معها ازمات اخرى في محيطها وفي البحر الأسود، وحتى في دول أوروبا الشرقية.، وتأثير هذا الدومينو سيؤثر على روسيا بشكل أكبر إذ أن التحكم بأي انفلات أمني واسع في مناطق عديدة سيكون صعباً خاصة في ظل الغضب العالمي، ما يعني غياب أية مساعدات لروسيا ولا حتى دعم سياسي.

أما اقتصادياً، فالوضع يبدو أكثر تعقيداً حيث لن تؤثر العقوبات الاقتصادية على روسيا فقط، بل على كل العالم حيث قالت مجموعة أوراسيا لاستشارات المخاطر السياسية في مذكرة إنّ “من المرجح أن تتسبب الحرب والعقوبات واحتمال اتخاذ روسيا رد فعل انتقامي مؤثر في صدمة ركود عالمي قاسية، فمن المرجح أن تتسبب العقوبات المفروضة على البنوك والتجارة الروسية في اضطرابات خطيرة في التجارة العالمية والعلاقات المالية مع آثار واسعة النطاق”، حيث تنتج روسيا 10% من النفط العالمي وتزود أوروبا بـ 40% من الغاز، علاوة على أنها أكبر مصدّر للحبوب والأسمدة في العالم، وأكبر منتج للبلاتينوم والنيكل، وثالث أكبر مُصدر للفحم والصلب، وخامس أكبر مصدر للأخشاب.

إن العالم ككل سيتضرر من هذه الازمة وعلى رأسهم الدول الأوروبية، فحاجتها لا تشبه بقية الدول وهذا ما سيؤدي إلى ركود اقتصادي وعجز أوروبي؛ والبحث عن بديل في هذه الفترة صعب، ولن يكون قادر على سد فراغ روسيا.

لهذا، لن تتحمل هذه الأخيرة التكلفة لوحدها، بل ستتقاسم التداعيات مع بقية دول العالم. فالرئيس الروسي لن يستسلم للعقوبات الاوروبية بشكل سريع، ومن المرجح ان يعمّق علاقاته الاقتصادية مع القطب الآسيوي وعلى رأسه الصين، وهذا ما سيؤدي لظهور تكتل تجاري صيني – روسي كبديل قابل للتطبيق، حيث يشير الدكتور ممدوح سلامة، إلى أن روسيا، وإن كانت تجد في الاتحاد الأوروبي سوقاً رئيسياً لصادراتها من النفط والغاز، إلا أنها، ونظراً لتوقيع عقود طويلة الأمد مع بكين، يمكن أن تجد في السوق الصينية، بديلاً للأسواق الأوروبية.

على الرغم من محاولات روسيا الحثيثة لاتباع سياسات سلمية وتغليب البرغماتية للحفاظ على علاقات متوازنة مع الغرب، إلا أن الاستفزازات التي تعرضت لها أثّر على سياسة الباب المفتوح لحلف الناتو والدعم الأمريكي والأوروبي لأوكرانيا وتحريضها للصدام مع روسيا، ما أدى إلى اختيار السياسة الصلبة كحل أمثل بالنسبة للرئيس بوتين للحفاظ على مصلحة روسيا القومية، والتأكيد على جديتها فيما يخص قضايا الأمن القومي وخصوصية دول أوروبا الشرقية واهميتهم بالنسبة لموسكو.

إن المراقب للوضع العام والدارس لتداعيات هذه الازمة، سيخمن أن قرار الرئيس بوتين غير عقلاني وان الرد الغربي سيكون قاسياً، لكن على ما يبدو إن إدراك الرئيس الروسي وتوجهه السياسي ومفهومه للعقلانية يختلف عن المفاهيم الغربية، وموسكو تمتلك الكثير من الخيارات السياسية والاقتصادية التي ستعوض خسائر هذه الحرب وتضمن ثباتها كقوة اقليمية وعالمية.

المراجع

1. محمود عماد، وفعلها بوتين.. تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا. الجزيرة. 24/2/2022.
2. سارة فياض، روسيا وأوكرانيا: ما المخاطر التي تحملها الأزمة بين البلدين للدول العربية، وهل من فرص يمكن استثمارها؟، بي.بي.سي نيوز. 23/2/2022.
3. حسين لطفي. تداعيات غزو أوكرانيا.. عزل روسيا كروياً وإلغاء عقود رعاية. العربية. 24/2/2022.
4. د م. صدمة ركود قاسية.. كيف سيؤثر عزل روسيا على الاقتصاد العالمي؟ trt عربية. 25/2/2022.
5. د م. عقوبات أوروبية وأميركية وبريطانية واسعة وقاسية ضد روسيا. العربية. 25/2/2022.

مصدر الصور: إيلاف – إرم نيوز – بي.بي.سي عربية.

موضوع ذا صلة: مقاربة الأزمة الروسية – الأوكرانية وفق المنظور التركي

شروق مستور

طالبة ماجستير علاقات دولية / تخصص دراسات أمنية وإستراتيجية – الجزائر