علي العبدالله*
لم تمر سوى أيام قليلة على تسريب أنباء عن اتفاق طرفي التفاوض الكردي، أحزاب الوحدة الوطنية الكردية، تجمع يضم 25 حزباً صغيراً وحديثاً تعمل تحت مظلة حزب الاتحاد الديمقراطي، والمجلس الوطني الكردي، تجمّع يضم 15 حزباً كردياً عريقاً، على خمسة مبادئ عامة، حتى انبرت شخصياتٌ وقوى سياسية عربية للرد بإصدار بيان مضاد وجهته إلى الرأي العام، يوم 7/6/2020، وقعته عند النشر 836 شخصية سياسية واجتماعية وثقافية، تلاه تحرّكٌ لشخصيات عربية من الجزيرة والفرات بإصدار “نداء”، يوم 23/6/2020، يدعو إلى تشكيل تحالف عربي ديمقراطي في الجزيرة والفرات، وقعته عند النشر قرابة الأربعمائة شخصية سياسية واجتماعية وثقافية. وجاء التحرّك الثالث تحت عنوان “حركة استقلال الجزيرة”، يدعو إلى تشكيل كيان سياسي مستقل، دولة، شرق الفرات؛ تصدره ناشطون من محافظة الرقة.
واضح أن دافع هذا التحرك السياسي والتنظيمي العربي رفض التحرك الكردي لتشكيل موقف موحد، ورفض المبادئ التوافقية التي أعلنت؛ والتعبير عن عدم امتلاك التحرّك الكردي شرعية وغطاء من عرب شرق الفرات، وهم أغلبية ضمن هذه المنطقة، ورفض تحديد المفاوضات الكردية ونتائجها الطبيعة الجيوسياسية للمنطقة، ففي الوقت الذي اكتفى فيه البيان الأول بإستنكار التفاهمات ورفض مخرجاتها، على خلفية “استحالة فرض أي اتفاق، على أرض سوريا، لا يقبل به السوريون”، ومناشدة السوريين، من المحافظات كافة، التضامن معهم في “حماية المنطقة الشرقية من المشاريع الضيقة”.
انطوى الثاني (النداء) على دعوة إلى تأسيس إطار سياسي من عرب الجزيرة والفرات؛ تحت اسم “التحالف العربي الديمقراطي”، من “المؤمنين بخطر هذا الواقع، يقصد سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي على شرق الفرات، وضرورة التحرك العاجل لتغييره”، واعتبار التأسيس “فرض عين” على كل من “بقي لديه شعور بالغيرة والحرص على المنطقة الشرقية وسكانها من الغالبية العربية”، ودعوة عرب عموم سوريا إلى الوقوف “ضد مظلومية إخوتهم العرب في المنطقة الشمالية الشرقية، ضد كل أشكال التمييز والتهجير والتغيير الديموغرافي التي فرضتها وتفرضها حكومة الأمر الواقع”، ودعوة دول الجوار العربي إلى “الالتفات إلى عرب المنطقة الشمالية الشرقية ومساعدتهم في الصمود بوجه سياسات التهجير المبرمج والتذويب والإضطهاد”.
دعا التحرك الثالث (حركة استقلال الجزيرة) إلى تشكيل كيان سياسي مستقل، دولة، شرق الفرات، ودعا مناصريه إلى إظهار تأييدهم “حق تقرير المصير” لسكان الجزيرة وحوض الفرات مجتمعين، بغضّ النظر عن عرقهم أو إثنيتهم أو دينهم أو ثقافتهم، وذلك على خلفية وجود هوية خاصة ومختلفة عن هوية الدولة السورية التي أنشأها اتفاق سايكس بيكو، وشكّل لذلك “مجلس تواصل” لجمع التوقيعات وكتابة وثائق التأسيس التي حدّدها عضو في “مجلس التواصل” بـ”وثيقة الهوية”؛ وهي وثيقة تعرف وتحدد وتشرح هوية سكان إقليم الجزيرة وحوض الفرات المشتركة الجامعة، في إطار تنوّع الثقافات والهويات الفرعية وغناها، “وثيقة الجغرافيا والسكان”؛ وهي وثيقة تثبت حدود دولة الجزيرة وحوض الفرات ومدنها وسكانها وتوزعهم الجغرافي، “وثيقة المساواة وحقوق الأفراد والجماعات”؛ وهي وثيقة تحدّد الحقوق المدنية والسياسية والإقتصادية الأساسية للسكان، أفراداً وجماعات، بما يضمن حقوق جميع السكان أفراداً، أولاً، وجماعات متمايزة في ثقافاتها ودياناتها ولغاتها، ثانياً، ويمنع تغوّل أي سلطةٍ حاكمةٍ عبر خضوعها لمحدّدات فوق دستورية، “وثيقة حق العودة”؛ وهي وثيقة تضمن حق المواطنة للسكان الذين تعود أصولهم إلى الجزيرة، وغادروها منذ اتفاقية سايكس بيكو، “وثيقة الحق في الموارد والقضاء على الفقر”؛ وهي تبيّن موارد وثروات إقليم الجزيرة وحوض الفرات العامة وسبل إنفاقها؛ بحيث يتم القضاء على الفقر نهائياً خلال فترة لا تتجاوز عقدا، حيث إنها من أغنى المناطق بالموارد، نقلاً عن صحيفة القدس العربي (3/7/2020)، فالدعوات الثلاث، على ما بينها من فروق وتباينات، يجمعها هدف واحد: التصدّي للتحرّك الكردي ورفع التحدي في وجهه.
يمكن، ومن دون كبير عناء، تلمّس نزوع صدامي وعصبوي في “نداء” تشكيل تحالف عربي ديمقراطي، فهو؛ وبينما يعارض التوجه الكردي الخاص، يواجهه بتحرك عربي خاص: عروبة الجزيرة السورية، وتقديم صفة العروبة على صفة السورية، وقع أصحاب “النداء” تحت اسم “العرب السوريون في الجزيرة والفرات”، صيغة مطابقة لصيغة الكرد السوريين، وتشكيل جسم سياسي عربي صرف، والدعوة إلى “ضم خيرة الكفاءات وأصحاب الخبرات والشخصيات الوطنية العربية السورية، لا سيما المتحدرة من شرق سوريا، مع قوى المجتمع المدني والوجهاء والأعيان وممثلي القبائل والعشائر العربية وشرفاء العسكريين المنشقين الغيورين على أصالتهم ومستقبل وجودهم، وقبل الكل نساء المنطقة الشرقية اللواتي دفعن أغلى الأثمان، ولم يبخلن، مع الرجال والشيوخ والأطفال، يوماً بتقديم التضحية من أجل بلادهن وشعبهن”، و”الهدف الأساسي من تشكيل التحالف، تحقيق تطلعات ومصالح المواطنين العرب في المنطقة الشرقية وحسب، من خلال السعي إلى تجسيد قيم الديمقراطية والحوار لتحقيق السلام والتنمية والرفاه والعدل لعموم المكونات في الجزيرة والفرات، ولسوريا كلها في المستقبل”، واعتبر “النداء” السريان صنو العرب. وقال: “ولا يميز الداعون لتأسيس التحالف العربي الديمقراطي في نظرتهم إلى تلك الجهات بين عربي وسرياني ممن أسهموا في بناء سوريا عبر السنين، مستمدّين وحدة المصير والمستقبل من التاريخ الواحد للعرب والآراميين في فضاء الجزيرة الفراتية. إسهام جسّدته الثقافتان كخزينة واحدة للحضارات الشرقية القديمة، لا سيما الحضارة العربية والإسلامية التي نهلت من ينابيع القيم الواحدة في القرآن والإنجيل، عبر مسارها الطويل”. علما أن السريان يبحثون عن تجسيد ذاتهم باعتبارهم قومية، سياسياً واجتماعياً وثقافياً، كما العرب والكرد.
واضح من النص أنه يستهدف وضع الكرد خارج تركيبة المنطقة. إنهم الوزة السوداء، كأنهم جاؤوا من المريخ، وليست لهم صلة وشيجة بتاريخ المنطقة وبالقرآن والإنجيل (؟!!)، كما برزت في حديث “النداء” عن تبعات تشكيل الإدارة الذاتية الكردية نزعة تمييز واضحة ضد الكرد بقوله: “وكان من نتائجه نشوء أمر واقع استهدفهم، يقصد العرب، بإسم ديمقراطية مزيفة مستندة إلى قوة السلاح، سلبتهم حتى الحق بتقرير المصير”، في حين هو ينكر على الكرد المطالبة بحق تقرير المصير. كان يمكن لموقف أصحاب “النداء” أن يكون أكثر معقوليةً لو أنهم دعوا الكرد إلى الجلوس إلى طاولة التفاوض كسوريين يسعون وراء حل سوري يساوي بين كل السوريين، بغض النظر عن قوميتهم أو إثنيتهم أو ديانتهم أو مذهبهم، “فتحقيق السلام والتنمية والرفاه والعدل لعموم المكونات في الجزيرة والفرات، ولسوريا كلها في المستقبل”، وفق “النداء”، يستدعي الدعوة إلى كلمة سواء على قاعدة الوطنية السورية وعقد اجتماعي أساسه مواطنة حقيقية.
أما أصحاب دعوة استقلال الجزيرة، وتشكيل كيان سياسي مستقل، دولة، شرق الفرات، وتبرير دعوتهم بالتلطّي خلف مظلوميةٍ حاقت بالمنطقة على يد الحكومات السورية المتعاقبة منذ تشكيل الدولة السورية الحديثة، بموجب اتفاقية سايكس بيكو، وربطهم خيارهم بوجود هوية خاصةٍ للمنطقة، هوية فلاحية، وفق ما نشر في وسائل الإعلام والشبكة العنكبوتية، فمنطقهم ضعيف، ذلك أن الانفصال لا يشكل حلا للمظلومية الاجتماعية، والقيم والتقاليد الفلاحية لا تستغرق الهوية السياسية، فالهوية السياسية مركبة وتحكمها توازناتٌ محدّدة ودقيقة، يتصدرها وينسق بينها، في كل مرحلة، عامل رئيس موجه ومقرر.
يتفق أصحاب المواقف الثلاثة في رفضهم التوجه الكردي الداعي إلى حل يمنح الكرد حقوقهم القومية عبر صياغة عقد اجتماعي سوري جديد، على قاعدة دولة اتحادية، وفي توجههم المحلي الضيق، وتكريسهم، بدعواتهم ومواقفهم الصلبة، لانقسام عمودي يخدم سردية دعاة انعدام فرص العيش المشترك في الاجتماع السوري، وتجاهلهم طبيعة الخيار السياسي التي تفرض منح المساواة في حق الاختيار لكل إنسان أو جماعة، فما تطلبه لنفسك يجب أن ترضاه لغيرك.
في الختام، لا بد من الإشارة إلى أن مواقف القوى شرق الفرات بنت ثقافة سياسية سائدة، هي مزيج من سياسة الهوية وسرديات ومظلوميات عمقتها لدى الطرفين ممارساتٌ سياسية تمييزية، ما رتب انعدام ثقة عميقاً. كان على الإدارة الذاتية، وهي القوة المسيطرة، التحرّك بحذر وروية، بعيدا عن العقلية الانتقامية والإستحواذية والقهرية وقوة السلاح، وألا تثير مخاوف شركاء الوطن بالسيطرة على مساحات شاسعة وضمها للإدارة الذاتية، وتجنيد أبنائها عنوة، مع أن سكانها ليسوا من الكرد، ولا يتبنون خياراتها السياسية، فالطريق إلى بلوغ الحقوق بحاجة إلى إدارة مرنة ومنفتحة، لتأليف القلوب وجسر الهوة والتأسيس لحل توافقي يخرج المنطقة من الإحتقان والصراع المفتوح نحو أفق سلام ووئام.
*كاتب سوري
المصدر: العربي الجديد
مصدر الصور: مركز حرمون للدراسات المعاصرة – سبوتنيك.
موضوع ذا صلة: ما هي الخيارات الكردية في الشمال السوري؟