بعد أقل من أسبوعين على استهداف سفينة شحن إسرائيلية تحمل علم ليبيريا كانت في طريقها بين تنزانيا والهند بصاروخ إيراني، تعرضت سفينة “إيران سافيز” لهجوم بلغم بحري في موقعها الثابث في البحر الأحمر قبالة السواحل اليمنية، وحسب تحقيق لصحيفة “وول ستريت جورنال”، 12 مارس/آذار 2021، فإن 12 حاملة نفط إيرانية كانت في طريقها إلى سوريا تعرضت لهجمات إسرائيلية منذ نهاية العام 2019،. وفي المقابل، أعلنت إسرائيل عن هجومين على سفن شحن تابعة لها، الأول في 25 فبراير/شباط 2021 حيث تعرضت السفينة M.V Helios Ray لهجوم في خليج عمان، وبعدها بشهر كامل وفي 25 مارس/آذار أعلنت إسرائيل أيضاً عن استهداف سفينة تملكها شركة XT Management بصاروخ إيراني في منطقة بحر العرب.

يُشير هذا التسلسل على مدار أكثر من عام تقريباً إلى تكتم الطرفين، الإيراني والإسرائيلي، على أعنف مواجهات خاضها الطرفان سراً فيما عرف بـ “حرب الظل” لكن خروجها إلى العلن مؤخراً بعد أن كشفت عنها وسائل الإعلام الأمريكية يحمل العديد من الدلالات الكاشفة عن تطور معادلة الاشتباك بين الطرفين على المستوى الثاني والتي يصاحبها تطورات ذات صلة على المسرح الإقليمي بشكل عام. وهو ما يمكن تناوله في إطار الأبعاد التالية:

تطورات مرحلية متشابكة

ترتبط حادثة “سافيز” بأكثر من تطور يؤكد على أنها ربما ستشكل مفترقاً نوعياً في مسار “حرب السفن” بين إسرائيل وإيران، فمن المؤكد أن المسلسل الطبيعي لحرب السفن يشير إلى أن من الطبيعي تعاقب الهجمات ما بين هجمة إسرائيلية تعقبها هجمة إيرانية مضادة أو العكس، لكن السياقات الحالية والأجواء التي تمت فيها الحادثة تعطي مؤشرات مختلفة بالنظر لعدة اعتبارات وأبعاد تحمل رسائل كاشفة على النحو التالي:

• تزامن حادث الهجوم (الثلاثاء 6 أبريل/نيسان) مع انطلاق جلسة الحوار الأولى الخاصة باستنئاف سريان العمل بـ “خطة العمل المشتركة” (5+1) في فيينا، والتفاؤل الذي أبدته الخارجية الأمريكية تعقيباً على هذا التطور يشير إلى أن هذا المسار ربما يكون في طريقه للنضوج رغم التقديرات الإسرائيلية التي تحذر من تساهل واشنطن بشأن تلك المفاوضات، بينما تتحفظ إسرائيل من الأصل على الاتفاق منذ تم إبرام الاتفاق العام 2015، وبالتالي فإن هناك رسالة إسرائيلية في اتجاهات متعددة ليس فقط في اتجاه طهران بأنه في حال العودة للاتفاق لن تتخلى إسرائيل عن سياسة التصعيد في إيران بشكل عام. وكذلك رسالة بالمضمون ذاته إلى واشنطن مفادها أن التساهل أو التخلي عن شرط اقتران عودة واشنطن للاتفاق بتراجع طهران عن سياسة التمدد الإقليمي سيدفع إسرائيل في المقابل إلى تبني المواجهة والتصعيد ضد إيران بغض النظر عن التسوية الأمريكية – الإيرانية للملف النووي.
• ووفقاً لتقارير إسرائيلية، فإن إسرائيل انتظرت عبور حاملة الطائرات الأمريكية “أيزنهاور” من البحر الأحمر بجوار السفينة “سافيز”، في مؤشر على أن إسرائيل حرصت على إبعاد الولايات المتحدة عن دائرة الاشتباه في التورط في الهجوم. وفي المقابل، فإن مسارعة مسؤولين أمريكيين إلى التصريح لصحيفة “نيويورك تايمز” بأن إسرائيل أبلغت واشنطن بالهجوم على السفينة، وأن الولايات المتحدة لا علاقة لها به، مؤشر آخر على رغبة واشنطن في تفادي التورط بتلك الحرب. بغض النظر عن الموقف الأمريكي الدائم حول ترتيبات الأمن في الشرق الأوسط، والحاجة الى خفض التصعيد في تلك المنطقة، هناك تفسيرات باتت مكررة لهذا التوجه تشير إلى أن واشنطن تسعى إلى التراجع عن عملية “القيادة” في الشرق الأوسط، وليس عملية “الاهتمام” في ضوء المصالح والشراكات؛ وفي المقابل، يمكن أن تتولى القوى الإقليمية عملية القيادة الإقليمية في إطار ما ستسفر عنه الدينامكيات الإقليمية الحالية من معادلات التوازن والاشتباك على المدى المتوسط.
• المتغير الجيوسياسي لمعادلة الاشتباك الإسرائيلية الإيرانية: هناك متغير ملموس في معادلة الاشتباك الإسرائيلية – الإيرانية الحالية، في ضوء حادثة “سافيز”، فبالإضافة إلى التطورات المشار إليها سلفاً، جاءت تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس، في اليوم التالي للحادثة (الأربعاء 7 أبريل/نيسان) وخلال الاحتفال بمرور 10 اعوام على تشغيل منظومة القبة الحديدة، ليشير إلى أن إسرائيل تطور منظوماتها الدفاعية، ولكنها لن تنتظر حتى تهاجم من الخارج بل ستقوم بالهجمات الخارجية وفقاً للتهديدات التي تتعرض لها، مؤكداً أنه لن يكشف عن طبيعة تلك الهجمات؛ في المقابل، فإن إيران وخلال مناوراتها البحرية الواسعة التي أجريت في الخليج وبحر عمان (يناير/كانون الثاني 2021) أعلنت أنها ستسير دوريات بحرية في اتجاه باب المندب بالبحر الأحمر. وكان أول هجوم على السفنية الإسرائيلية M.V Helios Ray في نفس موقع المناورات. بينما نقلت إسرائيل هي الأخرى الاستهداف إلى البحر الأحمر، حيث تتواجد السفينة “سافيز” في منطقة تتوسط المساحة بين اليمن وجيبوتي تقريباً.

وبالتالي وسّع طرفا “حرب السفن” من مسرح الحرب البحرية، فلم يعد يتوقف فقط على منطقة شرق المتوسط قبالة السواحل السورية، وإنما أصبح يمتد إلى مدخل الخليج مروراً بالبحر الأحمر، وهو مسرح الاشتباك الجديد، وهو ما يستدعي التوقف كثيراً عند هذه المنقطة ليس على المستوى الجيو – سياسي فقط، وإنما بالنظر إلى طبيعة المنظومة الأمنية في هذه المنطقة، فإيران وافد على المنطقة تماماً، ومن اللافت والمستغرب في الوقت ذاته أنها كانت حريصة في تعقيبها على الحادث أن “سافيز” هي سفينة “مدنية” لمواجهة الحملة بشأن تبعيتها للحرس الثوري الإيراني وأنها في مهمة تجسسية في البحر الأحمر لصالح العمليات العسكرية التي يقوم بها الحرس الثوري الإيراني في اليمن.

وفي واقع الأمر، هناك وجاهة لهذه الاتهامات؛ فبالإضافة إلى أن التقارير الإسرائيلية التي تناولت هذا السياق لا تشكل سابقة، فهناك سيل من التقارير حول الشبهات الكثيرة لدور هذه السفينة منذ أعوام في هذا الموقع، ومعظمها تقارير أمنية للحكومة اليمنية الشرعية والتحالف العربي، والتي تتضمن إشارات وأدلة واضحة على دور تلك السفينة في عمليات الإمداد اللوجستي للحوثيين وكمرتكز عمليات للحرس الثوري في اليمن. ومن المؤكد أن موقع السفينة لم يتم اختياره بشكل عشوائي، فموقعها حيث تظل في موقع استراتيجي للعب دور لوجستي متعدد، سواء بالنسبة للحرب في اليمن أو بالنسبة للملاحة في المنطقة، وليس كما تزعم إيران أنها بالفعل في مهمة لوجستية لمكافحة أعمال القرصنة، وخلال الأعوام السابقة لم تقدم إيران تقريراً واحداً يؤكد هذه الفرصية.

الحرب على مسرح مكشوف

في السابق كان هناك تنافس إسرائيلي – إيراني دائم – غير معلن – على الانتشار في سواحل القرن الإفريقي، ودائماً ما يشار إلى أن هناك بنية تحتية لمراكز التجسس ونقاط تحرك لمجموعات قوات نخبوية تعمل على مهام معينة. وفي المرحلة الحالية، تطمح إسرائيل إلى أن تعمل بشكل علني في ضوء التطبيع الخليجي، في تلك المسارح بلا تكتم أو سرية؛ وفي المقابل، طموح إيران هي الأخرى إلى الخروج من مضيق هرمز وصولاً إلى شرق المتوسط ومروراً بالبحر الأحمر دون قيود كقوة إقليمية، والمستغرب أنها تسعى إلى إظهار غطاء عسكري لهذه التحركات من خلال نشر حاملة المروحيات البحرية “مكران” (الأكبر من نوعها لدى البحرية الإيرانية) لإسناد المجموعات البحرية في المياه البعيدة ومنها مضيق باب المندب والبحر الأحمر (وفقاً لما أكدته قيادات من الحرس الثوري الإيراني لوكالة أنباء فارس 12 يناير/كانون الثاني 2021 خلال المناورات البحرية).

تداعيات مستقبلية: ترتيبات الأمن في البحر الأحمر

من المتصور أنه في أي مرحلة من المراحل في إطار تسوية الصراعات أو ترتيبات الأمن الإقليمي بشكل عام، أن يكون من حق أي طرف التحرك في المسرح البحري الذي تدور عليه فصول “حرب السفن” حالياً؛ لكن بالوضع الحالي، يمكن القول إن كلاً من إسرائيل وإيران يسعيان إلى فرض نفوذ إجباري في تلك المنطقة كأمر واقع وليس مجرد تطور لمعادلة الاشتباك، على الرغم من أن هذه المناطق ليست مجرد مناطق نفوذ لدول مشاطئة لهذه السواحل، وإنما هي مناطق سيادة، فالهامش المحدود لإطلالة إسرائيل على البحر الأحمر – عبر ميناء إيلات – لا يمنحها كل هذا النفوذ.

ولكن استعراضها للعمليات العسكرية على هذا النحو، هو استعراض قوة وتوسيع لدئراة النفوذ في نفس الوقت. كذلك، فإن من المستغرب عدم التحرك العربي في ظل وجود سفينة مشبوهه لأعوام منذ اندلاع حرب اليمن، بينما تقر هيئة الملاحة البحرية هذا الوجود وفقاً لما ورد في إعلان الخارجية الإيرانية أن الهيئة تم إبلاغها بهذا الوجود. وإجمالاً، فإن هذا السياق في الحالتين كاشف عن هشاشة ترتيبات الأمن في البحر الأحمر من جانب الدول صاحبة النفوذ الأصلي فيه، ما يفرض على هذه الدول ضرورة مراجعة تلك الأوضاع، وأهمية التفرقة بين فرض ترتيبات أمنية “متغيرة ومرنة” يمكنها أن تستوعب أنشطة العديد من القوى الإقليمية في تلك المناطق لا سيما البحر الأحمر وفق ضوابط تتضمنها منظومة أمن البحر الأحمر التي تضعها الدول صاحبة النفوذ والسيادة لتلك المنظومة.

في الأخير، من المتصور أن إسرائيل وإيران تخوضان منذ عامين، حرباً مفتوحة في المنطقة خرجت عن سياق أجواء المسرح التقليدي في لبنان وسوريا إلى حرب ظل دارت رحاها في العراق جواً لفترة من الفترات وفي البحر المتوسط بحراً، لكنها تحولت إلى حرب استنزاف متبادلة في نطاق جيو – سياسي أوسع، ما يؤكد أن الطرفين لا يزالان حريصين على استمرار إبعاد الصدام المسلح إلى الساحات الإقليمية، كواحد من الدروس المستفادة من الحرب العراقية – الإيرانية بالنسبة لإيران؛ أما بالنسبة لإسرائيل، فإنها لا تسعى إلى المغامرة بحرب مفتوحة ستكون لها تداعياتها على إسرائيل بالتأكيد، لكن تسارع الضربات في المرحلة الحالية (4 هجمات متبادلة في الربع الأول من العام 2021 مقارنة بـ 6 ضربات العام 2020)، ما قد يخرج هذه المعادلة عن السيطرة وينقلها إلى مربع آخر في المستقبل سيفرض على قوى إقليمية أخرى الانخراط بشكل اضطراري في ظل توسع المدى الجيو – سياسي لتلك المعركة.

كذلك، فإن الطرفين يؤكدان بشكل مبكر أن عملية تقليص التمدد الإقليمي في المدى المنظور ليست واردة، على نحو ما كان مأمولاً في سياق مفاوضات الملف النووي، أو في إطار الصورة التي سعت الإدارة الأمريكية الجديدة إلى تصديرها، لكنها في واقع الأمر لا تملك الرؤية أو الأدوات لفرضها، وستترك القوى الإقليمية ترسم معادلات وموازين القوى التي ستسفر عنها نتائج الحروب والصراعات الدائرة على المسرح الإقليمي مثل “حرب السفن”.

المصدر: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية

مصدر الصور: الشروق – النهار العربي.

موضوع ذا صلة: تفجير “نطنز”: اختراق أمني وضربة للمفاوضات مع الغرب

د. أحمد عليبة

رئيس وحدة التسلح – المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية