د. عبدالعزيز بن حبتور*

تدخل منافسات الصراع الإنتخابي الأميركي الحاد ساعاتها وأيامها الأخيرة. لذا، يستخدم طرفا الحملة الإنتخابية جميع الأسلحة المسموحة والممنوعة في حملات الدعاية الإنتخابية بين الحزبين المتنافسين الجمهوري والديموقراطي لوصول أحد المرشحين إلى سدة الحكم لقيادة أميركا، وربما جزء كبير من العالم، فإما أن يفوز الرئيس الجمهوري الحالي، دونالد ترامب بولاية ثانية، وإما أن ينال نائب الرئيس الأميركي الديموقراطي السابق، جو بايدن، فرصة الفوز. وبطبيعة الحال، هذه الحملات سياسية وإعلامية ودعائية شرسة، يستخدم فيها كل طرف جميع أوراقه ضد الطرف الآخر.

ففي اليومين الماضيين، عمد البيت الأبيض الأميركي ووزارة الخارجية التي يسيطر عليها الجمهوريون إلى إطلاق ملفات وأوراق من العيار الثقيل، وذلك بالإفراج لوسائل الإعلام الأميركية والعالمية عن رسائل هيلاري كلينتون “السرية”، حين كانت وزيرة للخارجية زمن الرئيس باراك أوباما، وهي الرسائل التي فضحت دور وزارة الخارجية والإدارة الأميركية معاً في دعم وتعزيز النشاط السياسي والحزبي والإستخباراتي لحركة “الإخوان المسلمين” في الوطن العربي، في ما سمي آنذاك بثورات “الربيع العربي”، نهاية العام 2010 ومطلع العام 2011.

كانت هذه الرسائل بمثابة “نشر غسيل قذر” للإدارة الأميركية الديموقراطية السابقة، والهدف من إخراجها في هذه المرحلة من المعركة الإنتخابية هو تسجيل النقاط الإنتخابية، بهدف كسب جولة الإنتخابات الحالية. تصوروا أن ديموقراطيتهم في الغرب الليبرالي “الحر” وحملاتهم الإنتخابية يدفع ثمنها المواطنون البسطاء في عالمنا العربي من أرواحهم ودمائهم، ومن أشلائهم المتناثرة في الشوارع والطرقات والساحات، مع مصير مجهول لمستقبلهم ومستقبل الأجيال اللاحقة.

يجمع المراقبون على أن أية حركة سياسية حزبية تنظيمية من حقها الطبيعي أن تناضل في أوساط أعضائها وجماهيرها بشتى السّبل والطرق السلمية للوصول إلى السلطة، مع التحريم المطلق لإستخدام السلاح للوصول إلى الحكم. هذا ما يقره العقل السياسي والمنطق الطبيعي لفلسفة الحكم ومضمون التداول السلمي للسلطة في الدول التي تؤمن بشكل حقيقي بالديموقراطية وآليات الإنتخابات واحترام القانون والدستور معاً.

أيضاً، نستطيع القول إنه في عالم السياسة، في أي مكان في هذا العالم، يمكن الوصول إلى السلطة بطرق وأساليب متعددة. ومن بين تلك الطرق هو المبدأ “البراغماتي” النفعي الذي سيؤمن لذلك الحزب أو غيره الوصول الآمن إلى سدة الحكم، لكن بعض مفكري “الإخوان المسلمين” وساستهم عادة ما يركبون صهوة الدين والعقيدة الإسلامية السامية للوصول إلى أهدافهم، وهنا مربط الفرس في خلافهم مع خصومهم من الأحزاب والقوى السياسية الأخرى. وحين تتحدث كسياسي وتلوح بورقة الدين الإسلامي تجاه خصومك، فتلك هي الطامة الكبرى التي تجعل الكل يحتشد ضدك وضد سياساتك وبرامجك.

يتذكر الرأي العام العربي، من المحيط الهادر إلى الخليج “الثائر”، شعارات حركة “الإخوان المسلمين” ومقولاتها حين رفعت يافطات “سامية” مرصعة بكلمات مقدسة لدى المواطن العربي الحر، كمفردات “الثورة والحرية والإنعتاق والمساواة”، ووضعت مبدأ التناقض الحاد إلى درجة العداء المطلق بين المبادئ الإسلامية الحنيفة ومبادئ دولة الإستكبار الأميركي – الصهيوني. وقد صدق البسطاء من عامة الناس مثل تلك الشعارات التي يتم الترويج لها في الجوامع والمساجد والساحات.

وبحكم أن الغالبية المطلقة من مواطني عالمنا العربي مسلمون مؤمنون بالفطرة، فقد كانوا يصدقون بالمطلق ما يتم الترويج له من مبادئ وشعارات وأدبيات في حكم المسلم بها، يستمعون إليها من قبل “الدعاة والخطباء والمرشدين من الإخوان”، ويقبلون بها بإعتبارها تعاليم منزهة ينقلها “وسطاء هم العلماء والفقهاء والخطباء المفوهون”، يعدون من الثقات الأصيلين بما يتحدثون به، ولكنهم يعيشون حالة من الصدمة حين يعرفون أنهم يأتمرون بأمر من السيدة كلينتون، ويأتي التمويل العربي بأمر منها أيضاً. هنا تأتي الصدمة والإرتباك من موقف هؤلاء الإسلاميين ونفعيتهم السياسية؛ وبالتالي، يصابون بالإحباط والتشاؤم إلى حد القنوط.

يعد “الإخوان المسلمين”، على مستوى عالمنا العربي والعالم أجمع، حركة سياسية حزبية منظمة، ولديها مبادئ في تنفيذ نشاطها الحزبي، وتتبع أسلوبين معروفين في النشاط الحزبي، هما تكتيك العمل السري أو العمل العلني. وقد “إقتبس” الإخوان مبدأ “التقية” السياسية الحزبية، أي أنهم يقولون شيئاً في العلن، لكنهم يمارسون شيئاً آخر في الخفاء، وهو ما يعد مثار خلاف حاد بينهم وبين بقية الأحزاب السياسية التي تتحالف معهم.

ولا زلنا نتذكر تحالف الأحزاب اليمنية المعارضة قبيل ما سمي بثورة “الربيع العربي”، بأنهم شكلوا تحالف أحزاب اللقاء المشترك من طيف واسع من الإسلامويين والإشتراكيين والبعثيين والناصريين وحتى الإنفصاليين، ودخلوا في تكتيك سياسي تنافسي حاد مع تنظيم المؤتمر الشعبي العام ورئيسه الراحل، علي عبدالله صالح، وخاضوا الإنتخابات الرئاسية والمحلية معاً، حتى وصلوا إلى أن يقفوا معاً كتكتل سياسي حزبي مع تحالف العدوان السعودي – الإماراتي – الأميركي ضد الجمهورية اليمنية وعاصمتها صنعاء. وهنا تحضر الخيانة للأوطان حين يتم خلط مفاهيم التكتيك والاستراتيجية في البعد الوطني.

ما هي المهام السياسية والإعلامية والدينية، للتوظيف في المعركة القادمة، التي أوكلتها الإدارة الأميركية، وفقاً لبرقيات هيلاري كلينتون، لحركة “الإخوان المسلمين” وحلفائها في المنطقة العربية؟

أولاً، نشر ظاهرة الفوضى “الخلاقة” في المنطقة العربية والشرق الأوسط عموماً، والتي بشرت بها كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، قبل ما يزيد على 15 عاماً، وهي التي رسمت خيوط السياسة الأميركية المرعبة تجاه شعوبنا العربية التي عاشت الأمة العربية مرارتها وآلامها منذ العام 2011.

ثانياً، أثناء زيارات وزيرة خارجية الولايات المتحدة، هيلاري كلينتون، المتكررة للمنطقة العربية، كانت قناة الجزيرة القطرية إحدى محطاتها الرئيسية، وطرحت عليها مشروعها التعبوي الإعلامي للتحضير والتفاعل مع ما سيحدث من تمرد وإعتصامات، وحتى استخدام السلاح من قبل “الثوار” المحتجين في كلٍ من تونس ومصر وسوريا واليمن وحتى العراق، لتدشين مرحلة ثورة “الربيع العربي”، ومنع حدوثها بأي وسيلة في الدول العربية الحليفة. وكمثال على ذلك ما حدث من تدخل عسكري سعودي في مملكة البحرين.

ثالثاً، الوزيرة كلينتون من دول مجلس التعاون الخليجي التمويل المالي السخي مع حشد إعلامي ودبلوماسي قوي لمؤازرة “ثوار الربيع العربي”، وتم تنفيذ المهمة على أكمل وجه، من خلال ضخ مليارات الدولارات من قبل المملكة السعودية وإمارة قطر ومشيخة الإمارات العربية، لجميع قادة المتمردين، وخصوصاً قيادات “الإخوان المسلمين” وحلفاءهم. وما صرح به وزير خارجية قطر ورئيس وزرائها آنذاك لوسائل الإعلام هو خير دليل على عبث قادة مجلس التعاون الخليجي بدماء أبناء الأمة العربية كلها وأرواحهم ومستقبلهم.

رابعاً، تم البحث بعناية دقيقة عن حامل سياسي وحزبي لما يسمى بثورات “الربيع العربي”، ووجدوا ضالتهم في حركة “الإخوان المسلمين” وحلفائها من بقايا الإشتراكيين والبعثيين والناصريين والقوميين، للقيام بمهمة إسقاط الأنظمة العربية التي كان لها موقف معاد لـ “دولة” الكيان الصهيوني، من خلال الإعتصامات والاحتجاجات، وقطع الشوارع والبقاء في الساحات العامة، وتعطيل الحياة الداخلية في تلك الأقطار العربية المستهدفة.

خامساً، كان الهدف من جميع تلك “الثورات الربيعية” هو تأمين أمن الكيان الصهيوني وسلامته، وجعله قوة إقليمية مهيمنة في الشرق الأوسط، تمتلك ترسانة نووية مدمرة، وأن يزال من جوانبها أية تهديدات لوجودها.

سادساً، حين قرر قائد الثورة الليبية معمر القذافي أن يستثمر ويوظف مدخرات الشعب الليبي من الذهب والفضة والصكوك إلى عملة أفريقية موحدة تماثل وتنافس في قدرتها وسعرها السوقي مقارنة بالدولار الأميركي، إنقض عليه حلف شمال الأطلسي بالتعاون مع حركة “الإخوان المسلمين” في الداخل، إضافة إلى الدعم اللوجيستي والعسكري من إمارة قطر، وعلى الضد منهم تقف الإمارات العربية مع خصوم الرئيس الليبي الراحل، معمر القذافي.

سابعاً، ستتم مكافأة “الإخوان المسلمين” من قبل الولايات المتحدة، من خلال تثبيتهم في السلطة في تلك البلدان التي يسيطرون عليها، إذا ما نجحوا في المهمة وألغوا الجيوش العربية وقطاع الأمن العام والإستخبارات من خلال هيكلتها. وستكون الجمهورية التركية وإمارة قطر هما الحامي والممول لهم.

خلاصة القول، بعد أن إطلع الرأي العام العالمي على الوثائق، رسائل الوزيرة هيلاري، التي نشرها البيت الأبيض الأميركي، إتضح للجميع مؤخراً أن مسرحية ما سمي بـ “الربيع العربي” كانت عبارة عن عمل مسرحي هزلي وسخيف دبره صانعو السياسة الغربية وأميركا المتصهينة تحديداً، وهو فعل أدخل عالمنا العربي في دوامة من الصراع العسكري الأمني والإقتصادي، وكان ثمنها دماء وأرواح وأشلاء بشرية عربية في معظمها مدنية، لا ناقة لها ولا جمل في كل ما حدث. وفوق هذا وذاك، فهي مدفوعة الثمن من مال خليجي عربي سخي، هو المال القطري والإماراتي والسعودي، والهم أعلم منا جميعاً.

*رئيس حكومة الإنقاذ الوطني – اليمن.

المصدر: الميادين

مصدر الصور: العربي الجديد – النهار.

موضوع ذا صلة: إختراق الوعي لدى المتلقي العربي