تشن الولايات المتحدة الأميركية ومن معها ما يسمى بـ “الحرب الناعمة” على المجتمعات التي ترفض نموذجها وهيمنتها. من سمات هذه الحرب أن راعيها والمتحكم بمسارها والمستفيد الأكبر منها لا يغامر بدماء أبنائه لأنه يعتمد على تمزيق النسيج الإجتماعي وتدمير الإنسان والبنى التحتية، من خلال توظيف الهويات الفرعية والعصبيات المذهبية والطائفية والجهوية ومكامن الفساد عبر تنظيمه عملية تدمير ذاتي.
السلاح الأخطر والأفتك الذي تم توظيفه بفعالية في هذه الحرب هو الإعلام: تشويه الوقائع، وتحريك الهواجس والغرائز، وإثارة المخاوف، تبرير التبعية والفساد.. مهام تقوم بها فضائيات وصحف ووسائل تتمتع بقدرات إعلامية ضخمة على الصعيدين العربي والدولي وبتنسيق مدهش في ما بينها. والملاحظ بصورة عامة أن الأطراف التي ترعى وتنفذ تدمير المجتمع، تعمل بجهد ومثابرة وتظهر فعالية كبرى في بلوغ أهدافها، في حين أن الأطراف المتضررة وصاحبة المصلحة الأكبر في تفشيل خطط تمزيق النسيج الإجتماعي والقضاء على عناصر المناعة فيه نراها في موقع المتلقي لسلبيات هذه الحرب، وفي حالة عجز كامل عن التصدي لها.
تشهد الساحة اللبنانية العربية ولادة مؤسسات إعلامية متنوعة مدعومة أميركياً وعربياً، بينما إعلام محور المقاومة يواجه صعوبات وأزمات وإنحساراً، والمواجهة حادة ومتصاعدة بين إعلام الحرب الناعمة وإعلام المقاومة. تمتاز الحرب_الناعمة بدهاء خارق في توظيف مختلف أنواع العصبيات والإنتماءات الفرعية من دينية ومذهبية وإثنية وأنواع الهواجس والمخاوف كافة، وتتوسل الفساد في أخطر وأحط مظاهره.
إن القدرات الفكرية التي وظفت في شن هذه الحرب هي الطرف الأقوى والأخطر الذي يجب التصدي له. هذه المواجهة تحتم رصد وتنظيم وتفعيل الطاقات الفكرية للنخب المثقفة لجميع المتضررين من هذه الحرب، خاصة في غياب أحزاب وتنظيمات سياسية مفترض منها إمتلاك الوعي والكفاءة والفعالية للقيام بمثل هذه المهمة.
الطريقة التي يمكن من خلالها تفعيل القدرات الفكرية وتوظيفها ضد هذه الحرب تبدأ من التصور الأولي التالي:
تنظيم شبكة حكماء تضم إختصاصيين في الإعلام وفروعه المكملة، تعمل بداية لتكوين تصور كامل لأهداف ودوافع جميع القوى الفاعلة في هذه الحرب، وتركز على جمع المعلومات عن نقاط الضعف والقوة لدى هذه الأطراف وكيف يمكن مواجهتها والتعامل معها، ثم تنسيق الطاقات الإعلامية المقاومة وتنظيم فعاليتها على المستويات الدولية والإقليمية والمحلية.. وضع خطة شاملة لمقاومة وتفشيل مخططات محركي الحرب على المجتمع في تحقيق أهدافهم، وبخاصة كيفية معالجة التمزق الاجتماعي نتيجة إنتشار الخطاب الديني/المذهبي التقسيمي الإرهابي التكفيري، وتجاوز حالات اليأس والتبعية والفوضى، وبلورة خطاب وطنيّ مدنيّ بديل كأساس لوعي قومي جديد.
الإعلام اليوم، ليكون فاعلاً، بحاجة إلى فكر وطني متجدد وأساليب عمل وتوعية مبتكرة وعلمية ووسائل ووسائط تواصل حديثة من أجل خلق رأي عام يعي مخاطر هذا التمزق الاجتماعي ويدين ويحاسب المسؤولين عنه ويضعف قدراتهم على الاستمرار بما يفعلون، من خلال الإعلام بأشمل مجالاته: المشاهَد والمسموع والمكتوب وجميع وسائل التواصل الإلكترونية، وكل ما له تأثير في صناعة الرأي العام، بما في ذلك الأعمال الفنية والأدبية من مسرح وشعر (عامي وفصيح) ومسلسلات تلفزيونية وأفلام.
لتحقيق أهداف الإعلام المقاوم، مطلوب إشراك الإعلاميين والمفكرين المبدعين بعيداً عن الخلفية الأيديولوجية، ولكن يجب أن تكون دوافع العاملين على تحقيق هذه الأهداف على إنسجام مع قواعد العمل. تضم الشبكة الطاقات الوطنية العاملة في مجال الإعلام بعامة، وأصحاب حيثية وتأثير بالرأي العام من خلال المؤسسات التي يعملون فيها وكذلك خبراء في مجال التواصل الإلكتروني وأصحاب إختصاص في علوم تساعد في توضيح رؤية شاملة للعلل واستراتيجية لكيفية علاجها.
تتناول هذه الحملة، على سبيل المثال لا الحصر المواضيع التالية:
1. تفكيك أساليب الذهنية الرجعية وخطابها المذهبي الذي تعتمده والممارسات المنفرة لعملائها على الأرض، من خلال إستغلالها الدين وإستصدار فتاوى تحض على الإرهاب والكراهية.
2. فضح حالات الفساد بأحقر وأخطر مظاهره لإستغلاله الفقر والجهل لدى شرائح واسعة، مما يقسم المجتمع ويعزز عجزه وفشله ويعيق وحدته ونهوضه.
3. التركيز على نقد الأنظمة السائدة لجهة إبتعادها عن الديمقراطية والمشاركة الشعبية في الحكم، وحكم القانون، ومراعاة حقوق الإنسان وبخاصة حقوق المرأة، ومحاربة الفساد، وكل ما يتوق إليه الشعب في المساواة والعدل والتنمية.
4. إشراك النخب الوطنية في مواجهة حرب الإستنزاف والدمار الإجتماعي والسياسي الذي تتعرض له المجتمعات المقاومة وإقتراح وتفعيل ما يرونه ضرورياً لهزيمة العدوان وبناء وحدة المجتمع والوطن وصنع المستقبل.
أمام هذه المهام والتحديات، هل نستطيع إبداع طريقنا المستقل في مواجهة “الحرب الناعمة” لنكون شركاء فاعلين في بناء الحضارة الإنسانية من دون التخلي عما هو أصيل في تراثنا وإيجابي في واقعنا؟
كيف نقيم دولة مدنية عصرية قوية عادلة، دولة تستعيد وتحمي حقنا القومي في أرضنا وتحصن وحدة المجتمع ضد كل أشكال التقسيم والتجزئة، وتفعل المجتمع المقاوم ضد الإحتلال والإستكبار والهيمنة والتبعية. دولة ترعي بناء الإنسان الجديد، المثقف، المنتج، الحر؟
التحدي الحقيقي هو كيف يحافظ المجتمع على الإستقرار والإزدهار والدور ومقاومة الهيمنة الخارجية والمطامع الإسرائيلية، ويبني دولة راشدة عادلة مقاومة تطلق مشروع نهضة جديدة ذات بعد إنساني.
من أجل بلورة وصياغة وتفعيل هذا المشروع، لا بد من منابر إعلامية ثقافية فكرية إستراتيجية تسهم في تثبيت هذا المسار.
منابر تؤمن بحرية الحوار وصراع الأفكار وإبداع آليات عمل تنفيذية من أجل نشر الوعي وتعميق الثقافة وإشراك الإنسان العنصر الأساسي في عملية المقاومة والنهضة. منابر مفتوحة لتفاعل مفكرين وإعلاميين من مختلف الإتجاهات والمشارب القومية والليبراليّة واليسارية والإصلاحية الدينية ليكونوا شركاء في المقاومة على قدر عطائهم وإبداعهم وتضحياتهم. منابر تعيد الروح إلى الوطنية الديمقراطية القادرة على مواجهة مشاريع التفتيت المذهبي والإنقسامات الإثنية عبر وعي الهوية الوطنية والتضامن القومي والمشاركة الإنسانية. منابر يشارك فيها كتاب وصحافيون ومثقفون ومفكرون من أجل مواكبة الأحداث والتحولات العالمية والعربية وتحليلها وقراءتها على ضوء رؤية معاصرة تستند إلى القواعد التالية:
1. المقاومة الشاملة هي طريقنا المستقل والخاص في مواجهة الهيمنة.
2. النهضة الجديدة التي تشمل تطوير المؤسسات وتحديث البنى الإقتصادية الإجتماعية التربوية وتوفير العلم والثقافة والعمل حتى يمتلك الإنسان المعرفة والحرية.
3. بناء دولة مدنية على قاعدة تطوير وإصلاح القوانين ومحاربة الفساد وتعزيز سلطة القضاء وبناء نظام جديد.
إن عملية تفعيل الإعلام المقاوم مرتبطة عضوياً بتغيير النظام وتتلازم وتتحصن بوحدة المجتمع وتفعيل دور المواطن عبر المشاركة في حركة التحديث والتغيير والبناء والمقاومة.
* كاتب وناشر لبناني.
المصدر: جريد الأخبار اللبنانية.
مصدر الصور: وكالة القدس للأنباء – جريدة النهار.
موضوع ذا صلة: الإعلام ما بعد “الربيع”: ما يطلبه المحرِّضون ــ المموّلون