طوني فرنسيس**

عشية التغيير المرتقب في الإدارة الأميركية، سجلت موسكو نقطتين لصالحها: الأولى في القوقاز والثانية في سوريا. وفي الحالتين، كان الهاجس الروسي تكريس أولوية دور موسكو على حساب تركيا في الحرب الأذرية – الأرمينية، وعلى حساب تركيا وإيران معاً في سوريا، وتوجيه رسالة في الوقت ذاته إلى حليفيها، الأرميني والسوري، تفيد بأن روسيا ليست مجرد منظمة خيرية، وهي تنتظر أن يبادلها الحلفاء بالمثل.

إختارت القيادة الروسية إنتهاء الإنتخابات الرئاسية الأميركية لتتحرك نحو فرض وقف لإطلاق النار في ناغورنو كاراباخ، ولتعقد في دمشق مؤتمراً لعودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، عملت على إعداده طوال السنتين الماضيتين من دون كبير نجاح.

وليس التزامن بين الخطوتين مستغرباً؛ ففي روسيا، يشبهون التدخل في القوقاز بنظيره في سوريا نهاية صيف العام 2015، ويذهبون أبعد من ذلك للقول إنه مثلما أنقذت موسكو نظام (الرئيس) بشار الأسد، قبل خمس سنوات، تمكنت أوائل هذا الشهر من إنقاذ أرمينيا من هجوم أذربيجاني كاسح كان يمكن أن يطال أراضيها بعد الإنتهاء من إقليم ناغورنو كاراباخ.

وفي هذا القول الكثير من الصحة، فعملية “الإنقاذ” في البلدين تمت في مواجهة خصم واضح مثلته “تركيا الأردوغانية” بشكل خاص، بدعمها وتحريضها أذربيجان على أرمينيا، وبرعايتها منذ بداية الإنتفاضة الشعبية في سوريا، الإخوان المسلمين والتنظيمات الإرهابية المتطرفة كافة ودفع الإنتفاضة إلى حرب طائفية. ولو أتيح لـ (الرئيس التركي رجب طيب) أردوغان أن يكمل تحركه في سوريا لتمكن من وضع يده عليها، أو على الجزء الأكبر منها، لكن الروس أوقفوا مشروعه السوري الكبير، وهذا ما فعلوه في القوقاز، حيث بلغ الأمر بالأتراك حد التفكير بجيش “تركي” يمتد من جنوب الإتحاد السوفياتي السابق إلى بحر إيجه.

وفعلاً، لم يخف خلوصي أكار، وزير الدفاع التركي خلال جولته نهاية الشهر الماضي في آسيا الوسطى، سعي حكومته إلى “إنشاء جيش موحد للشعوب التركية”، بحسب ما جاء في صحيفة “تركيا”.

وبحث أكار هذا الأمر مع وزير الدفاع الكازاخستاني في تكرار لمحاولات سابقة جرت فور إنهيار الإتحاد السوفياتي، وليس خافياً أن “تركيا الأردوغانية” تطمح إلى إنشاء إتحاد تركي كنواة لما يسمى بـ “العثمانية الجديدة”، إلا أن ما يعيقها هو إستمرار إرتباط الجمهوريات ذات الأصول التركية بروسيا، عسكرياً وإقتصادياً، بما فيها أذربيجان نفسها، فيما تلتزم كازاخستان وطاجيكستان وقرغيزستان بمنظمة معاهدة الأمن الجماعي كأعضاء إلى جانب موسكو ويريفان.

كانت حرب كاراباخ فرصة لتركيا. كثيرون في أرمينيا وروسيا، ذهبوا إلى إتهامها بقيادة هذه الحرب بهدف محاصرة الأولى وشل الثانية وإحكام السيطرة على أذربيجان، ما يسمح لأنقرة بإقامة قواعد على بحر قزوين والتحكم بطرق النفط والغاز، فيما وقفت إيران موقف المتفرج إلى حد كبير، هي التي تتمتع بعلاقات جيدة مع يريفان وتعيش فيها جالية أذرية كبرى. فطهران لا تمانع في إضعاف أي قوة على حدودها، ولا يعنيها كثيراً لو خرجت موسكو من هذه المعمعة أكثر ضعفاً وعزلة. وهي في ذلك تلتقي أنقرة، ما يمكن أن يساعدهما لاحقاً على إقتسام مريح للجبنة السورية.

بدت روسيا مرتبكة مع تصاعد الحرب التركية – الأذرية ضد أرمينيا، التي سيطرت بعد تفكك الإتحاد السوفياتي على أراضٍ أذرية حول إقليم كاراباخ تساوي مساحة الإقليم الأرميني ذاته. ولم تعترف أي دولة بإستقلال ناغورنو كاراباخ، بما في ذلك أرمينيا نفسها.

وفي أرمينيا، التي تستضيف قاعدة عسكرية روسية رئيسة، راقبت موسكو بإستياء غزل يريفان برئاسة رئيس الوزراء الحالي، نيكول باشينيان، مع الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي، مطمئنة إلى أن أمنها ستحميه موسكو في أي ظرف طارئ. إنتظرت روسيا بلوغ الهجوم الأذري – التركي ذروته، وكشفت عن إستعانة أنقرة بمئات المقاتلين من تنظيماتها في سوريا، قبل أن تتحرك لتفرض إتفاقاً سترعى تنفيذه على الأرض بقوات خاصة، أرسلتها إلى منطقة القتال.

خلاصة التدخل الروسي كانت وقف التقدم الأذري – التركي وإنتشار قوات حفظ سلام روسية، من مهماتها السيطرة على الممر بين أرمينيا وناغورنو كاراباخ، والممر الآخر بين أذربيجان وجيب ناخيتشيفان الأذربيجاني. في المقابل، لم تحقق تركيا ما كانت تطمح إليه، ولم تتمكن من إستتباع باكو، التي قبلت بالحل الروسي النقيض لرغبات أنقرة .

ثمة أوجه تشابه كثيرة بين التدخل الروسي في القوقاز وفي سوريا. في الحالتين، كانت تركيا شريكاً متعباً وخصماً في الوقت ذاته، لكن ما يتردد في موسكو همساً وأحياناً صراحة، وما قيل سابقاً بشأن (الرئيس) الأسد ويقال الآن عن المسؤولين في يريفان، يعني شيئاً واحداً: “المبدأ الأساس للسياسة الخارجية الروسية هو مبدأ المعاملة بالمثل، ينطبق على الأصدقاء والأعداء على حد سواء”، بحسب ما كتب معلق روسي كبير.

كيف سيترجم الروس هذا المبدأ بعد تجربتيهما القوقازية والسورية؟

الواضح أنه بعد الحسم في الأولى، ستكون هناك خطوات ما في سوريا، كان مؤتمر اللاجئين إختباراً تمهيدياً لها لإثارة إهتمام العالم بالدور الروسي المركزي في بلاد الشام، إلا أن وجهة هذا الدور النهائية لن تعرف قبل إتضاح صورة السياسة الأميركية في الأيام المتبقية من ولاية الرئيس دونالد ترمب، أو ستنتظر تسلم خليفته جو بايدن مهامه.

*العنوان الأساسي “من سوريا إلى القوقاز.. روسيا تستخلص الدروس: لا صداقة من طرف واحد”

* *إعلامي وكاتب ومحلل سياسي – لبنان.

المصدر: إندبندنت عربية.

مصدر الصور: New Europe – Daily Sabah.

موضوع ذا صلة: القوقاز.. الجغرافيا القاتلة