مع تركيز صانعي السياسة في واشنطن على الصين، حقق الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، فوزاً استراتيجياً في سوريا.

لم يقتصر دور موسكو على دعم (الرئيس) بشار الأسد، بل ضمن أيضاً حقوق إقامة قواعد في شرق البحر المتوسط الاستراتيجي على الأقل للأعوام الـ 49 المقبلة. وتستخدم موسكو هذا الموقف كنقطة انطلاق لإبراز قوتها في الجانب الجنوبي لحلف “الناتو”، وتعزيز مبيعات الأسلحة، وتكوين تصوّر إقليمي عن قوة عظمى تقف إلى جانب حلفائها. فالخصوم والحلفاء على حد سواء يعتبرون روسيا محاوراً بارزاً يمكنه التحدث إلى جميع الأطراف. وببساطة، فإن روسيا هي واقع عليهم التعامل معه، سواء أعجبهم ذلك أم لا.

في المقابل، في الولايات المتحدة، لم تُظهر ثلاث إدارات متعاقبة حتى الآن سوى القليل عن نتائج تدخلها. فالرئيس الأسد، الذي هو أحد أسوأ دكتاتوريي عصرنا الحالي (بحسب الكاتبة)، لا يزال في السلطة، والمنطقة تقترب شيئاً فشيئاً من قبول هذا الواقع أيضاً. وكان الرئيس باراك أوباما قد وصف علناً التدخل الروسي في سوريا على أنه مغامرة ستجعل روسيا “عالقة في مستنقع”، ولن “تتمكن من الخروج منه”. إلا أن هذا التوقّع لم ينجح.

يُخطئ الجمهوريون والديمقراطيون وصناع السياسة والمحللون (في الولايات المتحدة) في تقدير الرئيس بوتين باستمرار. ولأعوام، كان الكثيرون يواسون أنفسهم بأن الرئيس بوتين هو مجرد انتهازي ومناور لن يدوم حكمه طويلاً، لكن إنجازاته الساحقة تشير أيضاً إلى التزامه برؤية طويلة المدى، ذات محصلة صفرية معادية لأمريكا.

وتُعتبر الحالة السورية خير مثال على ذلك. فبالنسبة للرئيس بوتين، لم يكن تدخل بلاده يوماً يتعلق بسوريا فعلياً؛ بل بإعادة تأكيد المجد الروسي بعد الهزيمة السوفيتية المذلة في الحرب الباردة، وفي خضم ذلك توجيه ضربة لليبرالية الغربية التي يزدريها.

ومن خلال دعم نظير دكتاتوري، عزّز الرئيس بوتين مكانته الشخصية في السلطة. فقد أرغم الغرب على الدخول في حوار وفقاً لشروطه وفي الوقت نفسه رَدَعَ الغرب من خلال إرسائه مكانة استراتيجية في جزء أساسي من العالم لطالما أدرك الحكام الروس أنه مهم لمنافسة القوى العظمى. وكونه غير مثقل بالإيديولوجية الشيوعية، حقق تركيز الرئيس بوتين على المرونة والبراغماية في شرق المتوسط، والشرق الأوسط على نطاق أوسع، أكثر مما حققه الاتحاد السوفيتي – على حساب الولايات المتحدة.

ولأعوام، استخف المعلّقون وصناع السياسة في الغرب بخصمهم وانتظروا ما أَطلق عليه أحد المحللين على نحو ملائم “غودو” التدهور الروسي، بينما كان الرئيس بوتين يعزّز مصالحه. ويستغل الرئيس بوتين، الذي يعتقد أن الغرب ضعيف، التصوّر العالمي بأن الانخراط الأمريكي في الخارج آخذ في التراجع في أحسن الأحوال، أو يمثل قوة تؤدي إلى عدم الاستقرار في أسوأ الأحوال. كما أنه ينتهج استراتيجية تقوم على وسائل محدودة – فهو حريص على عدم الإفراط في استغلال موارده، لا سيما في الشرق الأوسط.

صحيح أننا لم نعد نخوض الحرب الباردة، ولكن من خلال التحريض على الحروب المحدودة والتلاعب بها وما يسمى بـ “الصراعات المجمّدة”، عزّز الرئيس بوتين قوساً من عدم الاستقرار في محيط روسيا كتحصين ضدّ الغرب، ينطلق من أوكرانيا وبيلاروسيا ومولدوفا في الغرب وصولاً إلى الجنوب في القوقاز، حيث يساعد هذا القوس على إدامة الأسطورة التقليدية لروسيا بأنها “قلعة محاصرة”.

وتتجه سوريا، الواقعة في الجانب الجنوبي من هذا القوس، نحو سيناريو صراع مجمّد مماثل. وفي غضون ذلك، يسعى الرئيس بوتين إلى قبول الغرب والاعتراف به كقوة عظمى ذات مجال نفوذ “متميز”.

لقد حان الوقت للتوقف عن الاستخفاف بالرئيس بوتين. فعلى مرّ الأعوام، سحق باستمرار المعارضة الداخلية، بوحشية متزايدة. أما الاقتصاد الروسي فيعاني من الفساد ومشاكل أخرى، لكنه مع ذلك يبقى صامداً بطريقة عجَز عنها سلفه السوفييتي. وبعد أن نشر قواته علناً وسراً في الخارج، رسّخ أتباع الرئيس الروسي مكانتهم بقوة، في حين تُظهر الجولة الأخيرة من الإصلاحات العسكرية الروسية تحسينات فعلية.

وبغض النظر عن رغبة صانعي السياسة في الولايات المتحدة في انحسار دور روسيا لكي يتمكنوا من التركيز أولاً على الصين، إلا أن هذا الاحتمال ليس وارداً ببساطة. على الولايات المتحدة أن تركز على كلا الدولتين في وقت واحد. ولإعادة صياغة ما قاله فرنسيس سكوت فيتزجيرالد (الروائي الأمريكي)، فإن اختبار قوة عظمى من الدرجة الأولى هو القدرة على مواجهة تهديدين عالميين في الوقت نفسه، مع الاحتفاظ بالقدرة على التصرف. ويعني ذلك وضع استراتيجية طويلة الأمد تجاه روسيا، التي هي “قوة عظمى ضعيفة” تاريخياً ركزت على العوامل الجيو – سياسية فوق كل اعتبار، حتى عندما انتقلت الولايات المتحدة إلى مواجهة الإرهاب بعد 11 سبتمبر/أيلول 2001.

وكونه ضابطاً سابقاً في المخابرات السوفيتية، يتقن الرئيس بوتين فن “الخداع والتضليل”؛ لذلك، فهو ليس ضعيفاً أو قوياً كما يريد أن نؤمن. لكن سجل إنجازاته يتطلب من صانعي السياسة في واشنطن الإقرار بالواقعية المتشددة والبراغماتية التي تدفعه لتقويض نفوذ الولايات المتحدة والرد على هذه الواقعية. وبالتالي، فهو باق في الساحة ولن ينسحب في أي وقت قريب.

المصدر: معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى.

مصدر الصورة: لوس أنجلوس تايمز.

موضوع ذا صلة: كيف يجب أن يرد جو بايدن على إستراتيجية روسيا في الشرق الأوسط؟

آنا بورشفسكايا

زميلة “آيرا وينر” في معهد واشنطن – متخصصة في سياسة روسيا تجاه الشرق الأوسط