يبدو أن الحوار بين الفرقاء الليبيين أخذ منحى جديداً خاصة بعد التناقضات الأخيرة التي طغت على الملف برمته، فرغم تعقيدات المسار العسكري والترتيبات الأمنية، حققت لجنة العشرة (اللجنة العسكرية 5+5) تقدماً لافتاً أفضى إلى توافقات وقرارات ساهمت في تنقية الأجواء وتهيئة الأرضية للحل الشامل، فيما عجز المسار السياسي إلى الآن في كسر حواجز الجمود المترتب عن تعنت بعض الأطراف المشاركة في الحوار ومنهم رئيس برلمان طبرق عقيلة صالح، ما يعني أن سريان وقف إطلاق النار لا يكتسي أي أهمية في ظل تعثر العملية السياسية.
ففشل البعثة الأممية إلى ليبيا إلى الآن في فرض توافق بين أعضاء لجنة الحوار السياسي الليبي حول مقترح لاختيار الآلية التي سيتم اعتمادها لاختيار القيادة السياسية القادمة التي ستدير المرحلة الانتقالية المقرر انتهاؤها بإجراء انتخابات في نهاية العام القادم بعد مقاطعة ثلث المشاركين للتصويت، دفع بعقيلة صالح رئيس برلمان طبرق للتحضير لخطة بديلة في حال استمرار فشل المحادثات في تونس.
تعثر المسار السياسي
نتائج التصويت التي أعلن عنها مؤخرًا أعطت مؤشرات بفشل المفاوضات بين المتحاورين، حيث لم يحصل أي من مقترحي البعثة الأممية بقيادة الأمريكية ستيفاني وليامز على نسبة التمرير بعد مشاركة 50 عضواً ومقاطعة 23 ووفاة واحد.
فقد صوّت 36 منهم على اعتماد نسبة تصويت بـ 61% مع 50+1 عن كل إقليم، بينما صوت 14 عضواً فقط لصالح الثلثين، وامتنع 21 عضواً عن التصويت بسبب اعتراضهم على المقترحين، معتبرين أنه تم تفصيلهم على مقاس أشخاص بعينهم، في إشارة إلى عقيلة صالح المرشح لمنصب رئيس المجلس الرئاسي.
وكان أعضاء الملتقى الليبي، تلقوا، اقتراحاً من بعثة الأمم المتحدة يتضمن خيارين لتخفيض نسبة 75% المطلوبة لاعتماد أحد مقترحين بشأن آلية الترشح واختيار رئيس المجلس الرئاسي ونائبيه ورئيس الوزراء، حيث يعتمد الخيار الأول على نسبة 66%، أي ثلثي الأعضاء من القاعة (أعضاء لجنة الحوار المجتمعين) ككل، إضافة إلى 50% + 1 من كل إقليم من أقاليم ليبيا الثلاثة (طرابلس وبرقة وفزان)، فيما يعتمد الثاني على 61% من عدد أعضاء القاعة، إضافة إلى 50 بالمئة + 1 من كل إقليم.
وصوت ملتقى الحوار، في 5 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، على 12 مقترحاً بشأن آلية الترشح واختيار رئيس المجلس الرئاسي ونائبيه ورئيس الوزراء.
الآليات التي أقرتها البعثة الأممية إلى ليبيا لاقت انتقادات واسعة، حيث اتهم 30 عضواً مشاركاً بملتقى الحوار، البعثة بعرقلة مسار التصويت لحسم آلية الترشح للرئاسي والحكومة بتقديمها مقترحات وتعديلات مصممة لأشخاص بعينهم، وفق تعبيرهم.
وطالب الأعضاء في رسالة إلى المبعوثة الأممية ستيفاني وليامز، بعدم الاستمرار في اتخاذ أي خطوة بشأن المقترحين الأخيرين واستكمال التصويت عليهما دون إضافات أو تعديل، وجاء فيها أنه “بعد قطع الحوار السياسي شوطاً كبيراً ووصوله لمرحلة متقدمة، لا ينبغي إعاقة استكمال الخطوات الأخيرة لاختيار الآلية المناسبة”.
كما أبدى الأعضاء الثلاثون استغرابهم لتجاهل فريق البعثة لما توصل إليه أعضاء الحوار بتصويتهم على حزمة الآليات التي طرحتها البعثة للتصويت منذ أيام، مبدين رفضهم أي محاولة لما سموه التفافاً أو تراجعاً أو تجاهلاً لتصويت الأغلبية بمنتدى الحوار، مستغربين “وضع شروط معرقلة بحجة التوافق في تجاهل للمخاطر الحقيقية جراء الاتجاه لهذا الأسلوب الذي بدأ يولد صراعات سياسية واجتماعية أعمق تغذيها تدخلات أجنبية مباشرة وغير مباشرة”.
في مقابل ذلك، يرى مراقبون أن لأعضاء ملتقى الحوار دور في الأزمة الحالية التي تُهدد المسار السياسي فأقصى ما يطمح إليه المشاركون هو بقاؤهم في هذا الجسم الجديد الذي صنعته البعثة الأممية كسلطة جديدة أو سعيهم لتمرير أسماء حلفائهم في الخارج، مشيرين إلى أنّه لا بديل عن الحوار رغم التعقيدات التي تكتنفه، فأي حل آخر يعني بالضرورة الحرب والعودة إلى المربع الأول من الصراع المسلح، خصوصاً أن الاتفاق العسكري لا يرتكز على قواعد صلبة ولم يتمكن إلى حد اللحظة من إبعاد الطرفين عن مناطق التماس.
البرلمان وعقيلة صالح
إخفاق مجلس النواب الليبي إلى الآن في اختيار رئيس جديد رغم اجتماع 127 عضواً في مدينة غدامس لأول مرة منذ سنوات، يعكس حجم الضغوط التي مورست على بعضهم لإحباط محاولات الإطاحة بعقيلة صالح من رأس برلمان طبرق، فقد كان كافياً اجتماع 91 نائباً لبلوغ النصاب القانوني، لكن تواتر التقارير التي أفادت بتهديد 60 نائباً بالانسحاب من اجتماع غدامس لأسباب متعددة أبرزها، الاختلاف بشأن مكان الجلسة وصراع بين الأقاليم الثلاثة حول من تكون له رئاسة المجلس، وخشية عدم بلوغ النصاب دفع النواب إلى ترحيل خلافاتهم، إلى غاية 21 ديسمبر/كانون الأول الجاري، مع تضمن جدول الأعمال انتخاب رئيس جديد للبرلمان.
وفي ظلّ تواصل الترتيبات لعقد جلسة بمشاركة مختلف النواب في غدامس، على أن تكون هي الاجتماع الموحد الأول لكامل البرلمان منذ عام 2014، دعا عقيلة صالح الانعقاد الكامل لبرلمان طبرق بعد تعطيله الأسبوع الماضي، في محاولة منه لانتظار مخرجات الحوار السياسي ومن ثم سحب البساط من المطالبين داخل المجلس بإقالته.
فإضافة إلى تجديد صالح خلال الجلسة دعوته الرسمية لأعضاء البرلمان المقاطعين لحضور جلساته في مقره الدستوري في بنغازي بشرق البلاد، ما اعتبره المراقبون غزلاً سياسياً لخصومه وتنازل مهم، فقد تصدّر تعديل اللائحة الداخلية لمجلس النواب أعمال الجلسة، وهي الخطوة التي كان يرمي إليها اجتماع أعضاء المجلس في مدينة غدامس (غرب ليبيا)، وتهدف إلى عزل عقيلة صالح والإطاحة به.
في هذا الإطار، يبذل عقيلة جهوده في سبيل إبقاء اسمه كرقم أساسي في المعادلة السياسية الجديدة، وذلك بسعيه لإفشال اجتماع النواب في غدامس عبر إصدار بيانات تطعن في قانونية وشرعية الاجتماع، واستنجاده برؤساء بلديات المنطقة الشرقية وشيوخ قبائل برقة لإصدار بيانين يدعمان موقفه أمام النواب وملتقى الحوار.
ففي كلمة له أمام أعيان درنة، كشف صالح الأطيوش شيخ قبيلة المغاربة والمعروف بولائه لخليفة حفتر عن تمسك القبيلة بأن يكون المستشار عقيلة صالح رئيساً للمجلس الرئاسي الجديد أو الحكومة الموحدة القادمة، مهدّداً بإعلان انفصال إقليم برقة إذا لم يتحقّق ذلك المطلب.
من جهة أخرى، يرى مراقبون أنّ الحوار السياسي الذي ترعاه الأمم المتحدة متعثر وفي حكم المتوقف، بسبب إصرار عقيلة صالح على أن يكون المرشح الوحيد للمنطقة الشرقية برقة لرئاسة المجلس الرئاسي الجديد، فصالح قاطع اجتماعات أعضاء مجلس النواب في مدينة طنجة المغربية، ما دفع الأعضاء إلى اتهامه حينها “بالتضحیة بصلاحیات البرلمان من أجل التواجد في المجلس الرئاسي” بحسب عضو مجلس النواب الليبي، إبراهيم الدريسي لـ”موقع الحرة”.
حفتر.. إستثمار الأزمة
عودة اللواء المتقاعد خليفة حفتر إلى المشهد كان على حساب الأزمة التي يمر بها رئيس برلمان طبرق، حيث أشارت تقارير إلى أن المليشيات الموالية لحفتر هدّدت نواب المنطقة الشرقية، ما أدى إلى تراجعهم بعدما كان المجتمعون قاب قوسين أو أدنى من انتخاب رئيس جديد للبرلمان.
مساندة حفتر لعقيلة صالح لم تتوقف عند هذه الخطوة، فاللواء المتقاعد أثنى في وقت سابق خلال اجتماع عسكري بشرق ليبيا، بدور رئيس برلمان طبرق الذي يمر بمأزق قد يعصف بطموحه السياسي، وتعكس هذه الإشادة المفاجئة محاولة حفتر للتقرب من صالح بعد أشهر من الخلاف الصامت كان له تأثيره في المنطقة الشرقية.
ووصل التوتر بين الشخصيتين الرئيسيتين في موازين القوى في الشرق نظراً للحاضنة الشعبية والقبلية التي يمتعان بها، إلى حد شن نشطاء مقرّبون من الجيش حملة ضد صالح تتهمه بالتخوين ومراعاة مصالحه الشخصية على حساب مصالح الشرق الليبي، في المقابل رد نشطاء ينحدر أغلبهم من قبائل المنطقة الشرقية حملة ضد حفتر وأبنائه متهمين إياهم بالفساد وتبديد الأموال في وقت يعيش فيه أغلب الليبيين وضعاً اقتصادياً صعباً.
تنقية الأجواء في الشرق الليبي بين حفتر وصالح على المستوى السياسي، لا يُخفي مساعي حفتر للاستعداد عسكرياً في حال فشل المسار السياسي الذي تدعمه الأمم المتحدة، فمنذ 23 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، تاريخ وقف لإطلاق النار، لم تتوقف مليشيات حفتر عن خرق الهدنة، حيث رصدت حكومة الوفاق تحشيداً عسكرياً متواصلاً في مناطق سرت والجفرة والجنوب، وذلك بالإضافة إلى رصد هبوط طائرة عسكرية روسية محملة بأسلحة وذخيرة وعتاد وجنود في قاعدة القرضابية بسرت.
مبعوث جديد
في ظل ضيق أفق التسوية السياسية بين الفرقاء الليبيين، وافق مجلس الأمن الدولي على إعطاء الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الضوء الأخضر لتعيين البلغاري نيكولاي ملادينوف مبعوثاً للأمم المتحدة لدى ليبيا خلفاً للبناني غسان سلامة.
ويأتي تعيين ملادينوف بعد عشرة أشهر من شغور منصب مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا بعد تخلي سلامة لدواعي أرجعها لاستيائه من عدم التزام العديد من أعضاء الأمم المتحدة، بمن فيهم أعضاء في مجلس الأمن الدولي، بقرارات كانوا هم أول من وافق عليها.
ويشغل ملادينوف منصب مبعوث الأمم المتحدة إلى الشرق الأوسط منذ 2015، وخلال مهمته هذه واجه العديد من التحديات، حيث عرف ملف القضية الفلسطينية والصراع مع الاحتلال فترات من التوتر بين غزة و”إسرائيل” وتسارع الأنشطة الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة والانقسامات الداخلية بين الفلسطينيين وتدهور الوضع الإنساني في غزة.
ويمكن القول إن تعيين البلغاري مبعوثاً جديداً لليبيا جاء بعد أن باتت أيّام الأمريكية ستيفاني ويليامز في هذه المهمّة معدودة، خاصة بعد إخفاقها في الوصول إلى حلّ جذري للأزمة وإلى حالة الانسداد الواضحة في المسار السياسي الذي ترعاه بعثتها، لذلك من المرجح أن يحاول ملادينوف إيجاد مخرج بعد أن فشل الحوار، سيما وأنه يحظى بدعم من الاتحاد الأوروبي مما يمنحه ثقل في التعامل مع الأطراف الليبية.
يذكر أن موافقة المجلس على تقلد ملادينوف رئاسة البعثة الأممية، تزامنت مع دعوته كل المرتزقة والمقاتلين الأجانب إلى مغادرة الأراضي الليبية، حيث طالب الأعضاء الـ15 في بيانهم بـ”انسحاب جميع المقاتلين والمرتزقة الأجانب من ليبيا بما ينسجم واتفاق وقف إطلاق النار الذي توصّلت إليه الأطراف الليبية في 23 تشرين الأول/أكتوبر، والتزامات المشاركين في مؤتمر برلين في كانون الثاني/يناير، وقرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة.
بالنهاية، يبقى التنازع بين الأطراف الليبية على مناصب السلطة التنفيذية الجديدة والخلافات بشأن الشخصيات المقترحة، أهمّ العقبات التي تقف أمام نجاح وانتهاء الحوار السياسي الليبي في تونس الذي بدأ قبل شهر، وتهدد ببعثرة أوراق جهود التسوية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة، لكن التدخلات الدولية والإقليمية هي أيضاً ضمن أهم العراقيل التي تواجه الحل السلمي، لذلك فإن أي انفراج في الملف رهين بتوافق القوى الفاعلة على الأرض.
*محرر في نون بوست.
المصدر: نون بوست.
مصدر الصور: أرشيف سيتا + نون بوست.
موضوع ذا صلة: كوب ليبيا الناقص!