تواجه دول الشرق الأوسط أزمة حقيقية تتعلق بما اصطلح على تسميته في وسائل الإعلام بـ “العائدين”، وهم ليسوا فئة واحدة. فهناك عائدون “متطرفون” من بؤر الصراع في سوريا والعراق، وعائدون كانوا عالقين في دول مختلفة على خلفية إغلاق الطيران بين دول العالم في إطار الإجراءات الاحترازية لمواجهة فيروس “كوفيد – 19″، وعائدون متضررون من فقد فرص العمل في الخارج، سواء لاعتبارات إحلال العمالة الوطنية محل الأجنبية، أو تخفيض نفقات العمالة على خلفية أزمة انتشار “كوفيد – 19″، وعائدون لاجئون قادمون من دول الجوار الجغرافي أو عائدون نازحون من منطقة لأخرى داخل الدولة نفسها لأسباب تتعلق بالعنف المسلح.
وقد اختلفت سياسات دول الإقليم في التعامل مع ملف العائدين، مثل تشكيل لجان استماع للعائدين من بؤر الصراع، وتوسيع نطاق التعاون الأمني والتنسيق الاستخباراتي مع دول الجوار، وخاصة دول الإتحاد الأوروبي، التي صارت مستهدفة من قبل التنظيمات الإرهابية، وخاصة تنظيم “داعش”، وتفعيل غرفة عمليات تابعة لوزارة الهجرة وشئون المغتربين، لتلقي طلبات العالقين الراغبين في العودة إلى بلادهم، والاستعداد المسبق للتعامل مع العمالة العائدة المتضررة من أوضاع ما بعد “كوفيد – 19″، بهدف توفير فرص عمل مناسبة لإمكانياتهم، ودعم شمول اللاجئين بخطة بعض الدول الوطنية بتناول اللقاحات المعالجة للفيروس.
أنماط متعددة
لا يوجد نمط واحد أو كتلة موحدة يطلق عليها العائدون في الشرق الأوسط، بل تعددت أنماطهم، وذلك على النحو التالي:
1. المتطرفون: وتعد الفئة الأكثر خطورة من العائدين، وهم القادمون من بؤر الصراع، وبصفة خاصة في سوريا والعراق، وبدرجة أقل ليبيا واليمن. وتخشى أجهزة الأمن والاستخبارات من تسلل هؤلاء إلى دول الجوار الجغرافي أو الوصول إلى دولهم على نحو يمثل مصدر تهديد للأمن والاستقرار الوطني أولاً، والإقليمي ثانياً. وتحاول الأجهزة الأمنية المعنية التنسيق مع الجهات المناظرة لها للوصول إليهم لاسيما أنهم يمثلون “كنزاً معلوماتياً”. وقد تثير عودة هؤلاء جدلاً واسعاً داخل الدولة، مثلما هو الحال بالنسبة للتونسيين، الذين يشتبه في كونهم متطرفين، إذ يرفض اتجاه سائد داخل المجتمع عودتهم لخطرهم الداهم.
في حين يرى اتجاه آخر ضرورة عودة القادمين من مناطق القتال وبؤر النزاع، وثبت تورطهم في عمليات إرهابية، ومن ثم يتم التعامل معهم وفقاً لثلاثة مراحل هي تقديم الملفات إلى الجهات القضائية ليتم البت فيها، ثم إعداد برامج داخلية لهم في السجن بهدف حماية المحيطين بهم من خطر الاستقطاب، خاصة من خلال عدم وضعهم مع سجناء الحق العام، وتوفير الإحاطة والرعاية اللاحقة بهم بعد خروجهم من السجن حتى لا يمثلوا خطراً على المجتمع. أما في حالة من لا تثبت ضده جريمة ارتكاب أعمال إرهابية، يتم إخضاعه للرقابة الإدارية أو الإقامة الجبرية.
2. العالقون: وهم الفئة التي برزت في أعقاب انتشار جائحة “كوفيد – 19″، خلال العام 2020، ومنهم الزائرون لدول طلباً للعلم أو للسياحة أو للعلاج، ولم يستطيعوا العودة لبلادهم لإجراءات حظر الطيران تحسباً لمنع العدوى خاصة أن الموجة الأولى لانتشار الوباء ارتبطت بالسفر بالأساس. وربما أيضاً ظهرت مشكلة العالقين في سياق الموجة الثانية من الوباء نظراً لعدم التمكن من تحمل تكاليف الإقامة على نحو ما تعرض له مصريون عالقون في دول أخرى ورغبوا في العودة إلى مصر، منذ أول فبراير الجاري.
3. المتضررون من فقد فرص العمل في الخارج: سواء لاعتبارات إحلال العمالة الوطنية محل العمالة الأجنبية، أو تخفيض نفقات العمالة على خلفية أزمة انتشار “كوفيد – 19″، على نحو يفرض تحدياً مزدوجاً بالنسبة للدول التي يحمل جنسيتها العائدون. فمن ناحية، يؤدي إلى فقد دول الاستقبال مصادر للعملة الأجنبية من التحويلات التي ترسلها العمالة الوافدة. ومن ناحية أخرى، يفرض على دول الإرسال توفير فرص عمل للعائدين من الخارج، تناسب تخصصاتهم وإمكانياتهم.
4. اللاجئون: ويعدون أبرز أنماط العائدين في الإقليم، الذين يتضررون من النزاعات القائمة والجديدة، فضلاً عن التأثيرات الحادة للفيروس على أوضاعهم المعيشية. ويعتبر اللاجئون السوريون أكثر الحالات تعرضاً للمآسي، بعد أحداث 2011. وخلال الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الدولي حول اللاجئين السوريين، 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، قال الرئيس السوري بشار الأسد أن “الحكومة السورية تعمل على تأمين عودة ملايين اللاجئين الذين فروا من الحرب في بلادهم، لكن العقوبات الغربية تعرقل عمل مؤسسات الدولة، مما يعقد هذه الخطط”.
وقد كشف مفوض الأمم المتحدة السامي لشئون اللاجئين، فيليبو جراندي، في تقرير له، 9 ديسمبر/كانون الأول 2020، أن عدد اللاجئين والنازحين في العالم تجاوز عتبة الـ 80 مليوناً في منتصف العام 2020، وهو مستوى قياسي، وذلك في خضم مواجهة “كوفيد – 19″، محذراً من أن الوضع قد يتفاقم في حال لم يوقف قادة العالم الحروب، لا سيما أن العالم لم ينصت للنداء العاجل الذي أطلقه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش،مارس/آذار 2020، من أجل وقف إطلاق النار على مستوى العالم خلال الجائحة.
وتجدر الإشارة إلى أن منطقة الشرق الأوسط تعد واحدة من أكثر مناطق العالم التي تتسبب دولها في عمليات لجوء، وخاصة في ظل تمدد العنف في سوريا والصومال واليمن، بخلاف مناطق أخرى في جنوب الصحراء والساحل الوسطى في أفريقيا، حيث يتعرض اللاجئون لانتهاكات عديدة مثل الاغتصاب والتصفية الجسدية والتجنيد في صفوف المليشيات المسلحة والعصابات الإجرامية والتنظيمات الإرهابية.
وتعد حالة اللاجئين الأفغان القادمين من إيران كبؤرة رئيسية لانتشار “كوفيد – 19” معبرة عن التحدي الذي يمثله العائدون دون الخضوع لاختبار ودون مراقبة إلى المدن والبلدات والقرى في جميع أنحاء أفغانستان، الأمر الذي يفسر حالات الإصابة المتعددة في بدايات الموجة الأولى لانتشار للفيروس. وما يزيد الهواجس أن السلطات الإيرانية قامت بطرد العديد من العمالة الأفغانية غير النظامية.
5. النازحون: تشهد دول الإقليم عمليات نزوح داخلها من مناطق أكثر اشتعالاً بالصراعات المسلحة إلى مناطق أخرى أكثر استقراراً، وعندما تهدأ العواصف يبدأ النازحون في التفكير في العودة إلى مناطق سكنهم الأصلية. ولعل ذلك ينطبق على النازحين من بعض المناطق في اليمن وسوريا والعراق. وفي بعض الأحيان، تستخدم بعض القوى الدولية والإقليمية نظام العقوبات والمساعدات الخارجية ووضع عقبات لمنع عودة النازحين إلى المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية.
آليات متنوعة
تعددت آليات تعامل بعض دول الشرق الأوسط مع العائدين، وفقاً لأنماطهم المختلفة، ويتمثل أبرزها في:
1. تشكيل لجان استماع للعائدين من بؤر الصراع: لا سيما في ظل تحمل الدولة الوطنية مسئوليتها تجاه مواطنيها، المتورطين في الانخراط في بؤر الصراع وخاصة في سوريا والعراق، وما تمخض عنها من ضحايا في صفوف الأطفال والنساء وربما أسر بكاملها من جهة، ومطالبات تلك الأسر بإعادة ذويهم من جهة أخرى، والتفكير في آليات التعامل مع الأطفال والنساء، من الناحية التعليمية والنفسية والصحية والاجتماعية، من جهة ثالثة.
ولعل الحالة المعبرة عن ذلك ما تقوم به اللجنة النيابية الاستطلاعية، التي شكلها في ديسمبر/كانون الأول 2020 مجلس النواب في المغرب (الغرفة الأولى في البرلمان) من الاستماع، على نحو ما جرى في 3 فبراير/شباط 2021، في مقر المجلس الوطني لحقوق الإنسان، بهدف الحصول على معلومات كافية حول أوضاع مئات المغاربة العالقين في مخيمات بشمال سوريا بوجه خاص، فضلاً عن معرفة كيفية التحاقهم بتنظيم “داعش” في سوريا، ووسائل عودتهم إلى المغرب.
ووفقاً لما نشرته بعض وسائل الإعلام، 5 فبراير/شباط 2021، فإن تلك اللجنة سوف تلتقي بعدد من المنظمات الدولية المعنية بهذا الملف، بخلاف لقاءات عقدت مع وزير الخارجية ناصر بوريطة، ولقاءات أخرى مرجحة خلال الفترة المقبلة مع وزير الداخلية، عبد الوافي لفتيت، ورئيس النيابة العامة، محمد عبد النباوي، وعدد من الخبراء في الشأن الديني. ومن المتوقع أن تعد اللجنة في ختام أعمالها المقررة في أبريل المقبل تقريراً حول أوضاع العالقين، ويعرض مضمونه على الرأي العام، ويتضمن توصيات للحكومة حول كيفية التعامل مع هذا الملف.
2. توسيع نطاق التعاون الأمني والتنسيق الاستخباراتي مع دول الجوار: ولا سيما دول الإتحاد الأوروبي، التي صارت مستهدفة من قبل التنظيمات الإرهابية، وفي مقدمتها تنظيم “داعش”، وخاصة تحديد الممرات التي يسلكها الإرهابيون، وهوية الأشخاص الذين يرافقونهم في التنظيم، والأهداف التي يتم اختيارها لتوجيه ضربات إرهابية لها.
3. تفعيل غرفة عمليات تابعة لوزارة الهجرة وشؤون المغتربين: وذلك لتلقي طلبات العالقين الراغبين في العودة إلى بلادهم، وهو ما تقوم به وزارة الدولة للهجرة وشئون المصريين بالخارج، لمتابعة أوضاع هؤلاء العالقين، عبر تسجيل بياناتهم بالتفصيل، وخاصة اسم الدولة الموجودين فيها، واسم شركة السياحة التي سافروا من خلالها، عبر روابط محددة وكذلك موقع “فايسبوك”، والتنسيق مع وزارة السياحة والآثار للتفاوض مع شركات السياحة لبحث مدى إمكانية عودة المواطنين الراغبين من دول الترانزيت على الشركات نفسها التي سافروا من خلالها.
4. الاستعداد المسبق للتعامل مع العمالة العائدة: خاصة المتضررة من أوضاع ما بعد “كوفيد – 19″، وهو ما تقدمه الحالة المصرية عبر التنسيق بين وزاراتي التخطيط وشؤون المصريين بالخارج، وجهاز تنمية المشروعات المتوسطة والصغيرة، بهدف تقديم كافة الخدمات المالية والفنية والتدريبية للعائدين من الخارج بما يؤدي إلى مساعدتهم لإقامة مشروعات صغيرة تناسب خبراتهم في مختلف المجالات، في إطار تنفيذ مبادرة “نوّرت بلدك”، وتم وضع أولوية لهم لتخصيص الأراضي الشاغرة المتاحة في المناطق الصناعية والسياحية والمجتمعات العمرانية وأراضي الاستصلاح الزراعي.
5. ضم اللاجئين لخطط توفير اللقاحات المضادة لفيروس “كوفيد – 19”: وهو ما طبقته الأردن، وتتجه أيضاً لبنان إلى تطبيقه، بعد وضعها على سلم أولويات اللجنة الوطنية لإدارة اللقاح، بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية ومنسق الأمم المتحدة لشئون اللاجئين.
ملف ضاغط
خلاصة القول، إن ملف العائدين لم يعد، كما كان في فترات سابقة، قاصراً على القادمين من بؤر الإرهاب مثل العائدين من أفغانستان أو ألبانيا أو البوسنة أو الشيشان أو العراق، بحكم محورية دورهم في العنف العابر للحدود الرخوة، بل صار يشكل عبئاً من نواحٍ مختلفة ترتبط بتوفير فرص عمل، وتنسيق لعودة عالقين غير قادرين على توفير تذكرة العودة لبلادهم، وتدبير حياة كريمة لعودة اللاجئين والنازحين من مقرات إقامتهم في مخيمات إلى وطنهم الأم. فالعائدون ملف ضاغط على دول الشرق الأوسط من جهات مختلفة.
المصدر: مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة
مصدر الصور: سي.أن.أن عربية – الحرة.
موضوع ذا صلة: ترحيل اللاجئين من تركيا: ضغط إقتصادي أم تنفيذ للتفاهمات؟!