د. عمران زهوي*

لا شك أن الحروب العسكرية كانت الوسيلة الوحيدة للسيطرة على الدول واحتلالها ونهب مقدراتها لكنها كانت مكلفة جداً. لذلك اليوم (في القرن المنصرم)، تغيرت المفاهيم في ظل وجود حروب الجيلين الرابع والخامس وغيرها، والتي اعتمدتها الإدارات الأميركية ونظَّر لها وطبقها، وأهم أهدافها هو تفتيت الدولة من الداخل ومؤسساتها وتأليب الرأي الداخلي الشعبي ضد السلطة الحاكمة، بالإضافة الى السيطرة على مقدراتها ومن ثم قرارها السيادي والسياسي.

من هنا، تعتبر أحد أهم الخطط الجديدة “الأمن الغذائي”، أي السيطرة والتحكم بلقمة العيش، وعلى سبيل المثال في الحرب العالمية الثانية عندما غزت النازية روسيا مات كثير من العلماء الروس أمام بنك – Pavlov للبذور، والذي كان يمثل ربع مخزون العالم من البذور، وفي أفغانستان ضربوا البنك الوطني للبذور في كابول، كما الذرة في المكسيك، والقطن في الهند.

بالعودة الى المنطقة فكان من قرارات القائد العسكري، بول بريمر، عند احتلال العراق قضية القمح تحت، الفقرة 81، حيث قامت الطائرات الأميركية بقصف مركز أبو غريب للبذور، وقام باستبدال بذور القمح بأخرى مهجنة ومستوردة من أميركا. ايضاً، إن 27% من الأراضي العراقية صالحة للزراعة وتروى بالأمطار بشكل مباشر، والمؤسسة العراقية لتنمية البذور وتحوي 17 مركزاً للبذور وصل انتاجها الى 1,4 مليون طن من الحبوب.

أما في سوريا، فـ 32% من الأراضي صالحة للزراعة و45% من الجمعيات التعاونية، التي أتت كثمرة انتصار على المستعمرين الفرنسي والعثماني، وهي الثروة الوطنية والاقتصادية في البلاد، كما المؤسسة العامة لإكثار البذور وفيها عدد كبير من وحدات التبريد التي تعمل على الاحتفاظ بهذه البذور لمدة طويلة، فالزراعة عبر البذور تنقسم إلى 70% من البذور تأتي من الدولة و30% عبر تبادل البذور بين المزارعين.

القطن، أيضاً، لقي نفس المصير إذ أن صناعة الغزل والنسيج والملابس في سوريا تُشغل 20 ألف مصنع، 40% من الاقتصاد السوري، أي أهم من النفط والغاز، واليوم فقط 1% من هذه المصانع تعمل، لذلك الأيدي العاملة في هذا المجال أصبحت بلا عمل وأيضاً هذه من سياسة التجويع والضغط من الداخل.

بالعودة الى القمح السوري، تحدث موقع الغارديان أن بذور القمح السوري أنقذ الانتاج الأميركي حيث قام باحثون أميركيون في ولاية كنساس وبنتيجة تحليل البذور التي سرقت من حلب – الإيكاردا بواسطة المجموعات الإرهابية المسلحة المدعومة من الأميركي، خلصت أن هذه البذور هي قادرة على مقاومة أكثر من 20 ألف نوع من الآفات والحشرات التي دمرت زراعة القمح في أميركا، فالقمح السوري يزرع في أميركا، وفي منطقتنا استبدلوها ببذور عقيمة ذات الجين المنتحر.

فبداية، يسعد المزارع في عامه الأول بالكم الهائل والجميل، ولكن في العام الذي يليه عليه استيراد المبيدات الحشرية والأسمدة والأدوية كلها من أميركا لكي ينتج، وهكذا سيطر الأميركي على انتاج القمح في المنطقة ولكن هذا القمح ليس بنفس الجودة للبذور الأصلية، والتي هي تراثنا وعمل أجدادنا لعقود من أجل المحافظة عليها وتطويرها بالشكل الطبيعي. ونفس السياسة، طالت القطن في سوريا والهند ومصر وغيرها من دول العالم.

لذا، يجب أن تنخرط هذه الدول في المنظومة النيوليبرالية الأميركية على قاعدة تريد أن تنتج يجب عليك الشراء البذور والأسمدة والأدوية من السوق الأميركي، وليس فقط البيع لهذا السوق.

من أهم هذه الشركات مونسونتو وسونجينتا والباير ووكالة التغذية الأميركية وغيرهم. ولنأخذ مونسونتو، حيث شاركت في أبحاث القنبلة الذرية وكانت المزود الرئيسي للديوكسين الذي استخدمه الجيش الأميركي وتسبب في تشوهات كثيرة عند الأطفال في حرب فيتنام، وحالياً تملك علاقات هامة مع أجهزة مخابرات ومنظمات حكوميه وغيرها مثل – USAID، وعلى رأسها “بلاك ووتر”، ومن أهم العقود المبرمة بينهما هي تعقب العلماء الذين ينشرون أبحاثاً ضد هذه الشركات وخاصة الخطر البيئي، وأخطارها على الإنسان والتربة فيقومون بقتلهم، كما أكدت الكاتبة زينة أبو عناب في كتابها عن مونسونتو بعنوان “مونسونتو تزرع الموت”.

في الخلاصة، إن الاستعمار لدول المنطقة وغيرها بدأ منذ العام 2003 ومستمر الى يومنا هذا عن طريق الأمن الغذائي، والتحكم بلقمة عيش المواطنين في المنطقة، والسؤال هنا: هل نحن وحكومات المنطقة على علم ودراية بكل ما حصل ويحصل؟! وبما ان الرافعة الأساسية للاقتصاد هي الأمن الغذائي، ولمواجهة هذا الاستعمار المقنع يجب على دول المنطقة أن تسعى الى إنشاء بنك للبذور والمحافظة على تاريخ أجدادنا، لكي نستطيع أن نواجه هذا المخطط الشيطاني الذي يسعى إليه الأميركي، ولنتدارك الأمر قبل فوات الأوان لأن الحكومة الهندية العام 2012 اتخذت قرار بمنع استيراد بذور القطن ولكن كانت الواقعة قد حدثت ولم يستطيعوا أن يغيّروا الواقع، ومصر مثال حي في هذا الصدد.

*كاتب وباحث سياسي – لبنان

المصدر: اللواء.

مصدر الصورة: العربي الجديد.

موضوع ذا صلة: الأمن الغذائي ومواجهة الجوع