كانت الأمة اليونانية دوماً، وعلى مر العصور، ترزح تحت ضغوط إقليمية مستمرة تدفعها بشكل دائم إلى أن تحافظ على جاهزية عسكرية عالية، وهو الوضع الذي تكرس في التاريخ المعاصر بشكل أكبر، بعد الغزو التركي لجزيرة قبرص، يوليو/تموز 1974، وما نتج منه من انقسام الجزيرة إلى قسمين يوناني وتركي، ومن ثم تصاعد الخلافات بين الجانبين على ملكيّة الجزر الموجودة في النطاق الحدودي بينهما في منطقة بحر إيجه.
هذا التوتر تصاعد بشكل أكبر خلال الأعوام الأخيرة، على خلفية اكتشافات الغاز شرق المتوسط، ونشوء خلافات جديدة بين الجانبين على كيفيّة تحديد المناطق الاقتصادية الخالصة لكلّ منهما. هذا الوضع فرض على أثينا، مؤخراً، الانفتاح بشكل غير مسبوق على تحديث تسليح قواتها المسلحة، وخصوصاً على المستوى البحري، مستفيدة من التحسن المطرد في علاقاتها مع بعض الدول، مثل فرنسا، ومن رفع الولايات المتحدة، سبتمبر/أيلول 2020، حظر التسليح الذي كان مفروضاً على القسم اليوناني من جزيرة قبرص.
من أهم المؤشرات على التوجه اليوناني الجديد في هذا الصدد، رفع الحكومة اليونانية، أواخر العام 2020، ميزانية وزارة الدفاع بنسبة تتجاوز 50%، لتصل إلى حدود 5.5 مليار دولار، وذلك بهدف رئيسي وهو تمكين الوزارة من تنفيذ برنامجها لتحديث التسليح، والذي يركّز على سلاح البحرية وسلاح الجو.
تحسن في العلاقات العسكرية مع تل أبيب
كانت إسرائيل من الوجهات التي اتّجهت إليها أثينا بصورة مباشرة لتحسين قدراتها العسكرية الحالية وتقليص الفجوة بينها وبين تركيا في هذا المجال. بوادر هذا التوجّه بدأت في أكتوبر/تشرين الأول 2019، حين تحدثت الصحافة اليونانية عن بدء مباحثات بين وزارة الدفاع اليونانية وشركة “إيروناوتكس” الإسرائيلية لأنظمة الطائرات من دون طيار، من أجل شراء 4 طائرات من دون طيار من نوع “إيرو ستار” بقيمة 13 مليون دولار.
هذه المباحثات لم تفضِ في النهاية إلى تفعيل كامل لهذه الصفقة، نظراً إلى تفضيل أثينا حصر النفقات العسكرية في هذه المرحلة. في مايو/أيار 2020، توصّلت وزارة الدفاع اليونانية إلى اتفاق مع وزارة الحرب الإسرائيلية لاستئجار عدد غير محدد، ربما 2، من الطائرات الاستطلاعية من دون طيار “هيرون” لمدة 3 سنوات، مع إمكانية شراء هذه الطائرات في نهاية مدة الاتفاق.
والجدير بالذكر هنا أن رئيس الوزراء اليوناني، كيرياكوس ميتسوتاكيس، كان قد أجرى خلال زيارته لتل أبيب، يونيو/حزيران2020، سلسلة من المباحثات مع عدة شركات عسكرية إسرائيليّة، من بينها شركة “إلبيت” للأنظمة القتالية، التي بحث معها تفاصيل عقد لإنشاء مركز تدريب لطياري سلاح الجو اليوناني يجري تدشينه في مدينة “كالاماتا”، ويتضمّن بناء مركز طيران دولي للتدريب فيها. ومن المتوقع أن تبلغ كلفة المنشأة الجديدة 1.4 مليار يورو على مدى 20 عاماً، ويتضمن العقد ترقية أنظمة تدريب طائرات الهليكوبتر وصيانة الطائرات وتحديث أجهزة المحاكاة.
وقع الجانبان، يوليو/تموز 2020، اتفاقية مهمة في مجال الأنظمة الجوية إذ فازت شركة “إلبيت” الإسرائيلية للأنظمة الجوية بعقد بلغت قيمته 34 مليون دولار لتحديث المروحية القتالية الأساسية في سلاح الجو اليوناني، وهي مروحيات “أباتشي”.
وينص هذا العقد على تحديث أنظمة 19 مروحية من هذا النوع، وتحديداً أنظمة إدارة النيران والأجهزة البصرية المخصصة للرؤية الليلية، والأنظمة المثبتة على خوذات الطيارين، إلى جانب تسليح هذه المروحيات بالصواريخ المضادة للدبابات “سبايك” التي تنتجها شركة “رافائيل” الإسرائيلية، علماً أن سلاح الجو اليوناني سوف يعمّم هذه الصواريخ على أنواع أخرى من المروحيات القتالية، وخصوصاً المروحيات البحرية “أس – 70 بي”.
في الجانب البحري، وقع كلا الجانبين خلال زيارة رئيس الوزراء اليوناني الآنفة الذكر اتفاقية للتصنيع المشترك، تتضمن بناء “كورفيت” من فئة “ثيميستوكليس”، وهي فئة من فئات السفن القتالية المتعددة الأغراض، تبلغ إزاحتها الكلية 800 طن، وهي متخصّصة في أعمال الدوريات الساحلية وعمليات البحث والإنقاذ ومكافحة الإرهاب. وتشارك في تصنيع هذا الكورفيت شركتان؛ الأولى يونانية تدعى “أونكس نيوريون”، والأخرى إسرائيلية.
سلاح الجو اليوناني.. نقلة نوعية
في استغلال واضح للتوتّر الذي تصاعد خلال الأشهر الماضية بين أنقرة وواشنطن على خلفية شراء الأولى منظومات “إس – 400” الروسية للدفاع الجوي، بات واضحاً أن الاستراتيجية الحالية لسلاح الجو اليوناني تركز على تشكيل قوة جوية هجومية ضاربة، تسمح لها بالاستمرار مستقبلاً في مواجهة سلاح الجو التركي وردعه.
في أبريل/نيسان 2019، أعلنت وزارة الدفاع اليونانية أنها اختارت مقاتلات “أف – 35″، لتكون بديلاً للمقاتلات التي سيتم إخراجها من الخدمة قريباً من نوع “إف – 4 فانتوم”، والأجيال الأقدم من مقاتلات “أف – 16”. هذا الإعلان تبعه تأكيد من البنتاغون، الذي أعلن أن اليونان واحدة من ضمن 5 دول يمكن اعتبارها عميلاً محتملاً للحصول على هذه المقاتلة الأحدث في العالم.
من جانبها، أكدت اليونان هذا الأمر أكثر، نوفمبر/تشرين الثاني 2020، عبر رسالة أرسلها المدير العام للتسليح والاستثمارات في وزارة الدفاع الوطني اليونانية إلى وزارة الدفاع الأميركية تطلب بشكل واضح حصول سلاح الجو اليوناني على هذا النوع من المقاتلات.
الرغبة اليونانية في هذا الصدد تم تعزيزها خلال زيارة رئيس الوزراء اليوناني إلى البيت الأبيض، يناير/كانون الثاني 2020، إذ أعرب عن رغبة بلاده في الحصول على 20 مقاتلة من هذا النوع والمشاركة في برنامج تصنيعها. وقد ذكر العديد من التقارير الصحافية اليونانية والأميركية أن ثمة مناقشات جرت خلال زيارة وزير الخارجية الأميركي السابق، مايك بومبيو، إلى أثينا، أكتوبر/تشرين الأول 2020، حول حصول سلاح الجو اليوناني على ما يتراوح بين 18 و24 مقاتلة من هذا النوع، وإمكانية تزويده بحلول العام 2022 بنحو 6 مقاتلات من هذا النوع، كانت مخصصة أساساً لسلاح الجو التركي قبل إلغاء الصفقة.
ترى اليونان في هذه المرحلة أنها المرشح الأوفر حظاً للحلول محل تركيا في منظومة الناتو الدفاعية، كما أن علاقاتها المتحسنة بشكل مطرد مع واشنطن، وخصوصاً في المجال العسكري، تجعلها البديل الأمثل الذي من الممكن مستقبلاً أن يستضيف قاعدة جوية مكافئة لقاعدة “إنجرليك” التركية، التي لمحت واشنطن مراراً إلى رغبتها في نقل الجناح التابع لها منها إلى قاعدة أخرى. وقد تكون قاعدة “إيراكليون” الجوية اليونانية هي البديل المقترح في هذا الصدد.
بشكل عام، تشكل مقاتلات “أف – 35” إضافة نوعية مهمة إلى سلاح الجو اليوناني، تضيف إليه قدرات قتالية مستقبلية كبيرة، لكن أثينا تعي جيداً أن حصولها على عدد كافٍ من هذه المقاتلات قد يستغرق سنوات طويلة. لذلك، كانت لديها خطط إضافية لتحسين قدراتها القتالية الجوية.
في أغسطس/آب 2020، أعلنت اليونان بشكل رسمي عن اتفاقها مع باريس على صفقة لشراء 18 طائرة مقاتلة من نوع “رافال”. وقد تم التصديق رسمياً على هذا الاتفاق، ديسمبر/كانون الأول 2020، بقيمة 2.4 مليار يورو، تتضمّن 6 مقاتلات من النسخة الأحدث ” أف – 3″ و12 مقاتلة من النسخ الأقدم.
ويتوقع أن تصل المقاتلات الست الأولى إلى اليونان، بحلول يونيو/حزيران 2021، على أن يتم تسليم كل مقاتلات الصفقة منتصف العام 2023. يغطّي هذا العقد أيضاً تحديث 10 مقاتلات فرنسية الصنع من نوع “ميراج – 2000″، تعمل حالياً ضمن سلاح الجو اليوناني.
يُضاف إلى ما سبق بدء سلاح الجو اليوناني منذ فترة ببرنامج واسع النطاق لتحديث مقاتلاته العاملة حالياً في سلاحه الجوي، وخصوصاً مقاتلات “أف – 16″ و”ميراج – 2000”. وخلال الأزمة الاقتصادية اليونانية (2008 – 2018)، أجبرت تخفيضات الميزانية سلاح الجو اليوناني على إيقاف تحليق العديد من مقاتلات “أف – 16″، بسبب نقص قطع الغيار وتكاليف الصيانة، لكن منذ العام 2015، بدأت اليونان بشكل تدريجي باستيراد قطع الغيار اللازمة لدعم طائراتها، بكلفة تقديرية بلغت 160 مليون دولار. يُضاف إلى ذلك توقيع الحكومة اليونانية، يوليو/تموز 2020، صفقة لشراء 4 مروحيات مضادة للغواصات من نوع “أم أتش – 60 سي هوك”، وتحديث 11 مروحية تابعة لسلاح البحرية اليوناني من نوع “إس – 70”.
العلاقات الإماراتية – اليونانية في المجال التسليحيّ تلقّت دفعة قوية مؤخراً، وخصوصاً في المجال الجوي، فبعد توقيع الجانبين، نوفمبر/تشرين الثاني 2020، على اتفاقية للتعاون الدفاعي، بدأت أبو ظبي بمساعد سلاح الجو اليوناني على عدة مستويات فنية، تتضمن بيع قطع غيار خاصة بالمروحيات القتالية من نوع “أباتشي”، بقيمة 5 ملايين يورو، إضافة إلى تمويل عدة برامج تدريبية مشتركة بين الجانبين.
سلاح البحرية في طور التحديث التدريجي
تركز البحرية اليونانيّة حالياً على دعم وتحديث ترسانتها البحرية المؤلفة من زوارق الهجوم السّريعة وسفن الدورية الساحلية بشكل أساسي، إلى جانب الفرقاطات. في هذا الصدد، تبحث البحرية اليونانية حالياً العروض المتوفرة لإطلاق برنامج تحديث فرقاطاتها من فئة “هيدرا”، إلى جانب العروض الخاصة بطوربيدات الغواصات، علماً أنها تسلّمت مؤخراً عدة قطع بحرية جديدة، من بينها سفينتان للدورية الساحلية من نوع “بي – 355″، كما أطلقت مناقصة دولية لتوريد ما يصل إلى 29 زورقاً هجومياً سريعاً، بقيمة إجمالية تصل إلى 13 مليون يورو. يضاف هذا كله إلى المفاوضات المستمرة بين اليونان وفرنسا من أجل شراء ما بين 2 إلى 4 فرقاطات فرنسية الصنع.
تضع أثينا في اعتبارها بشكل عام من خلال رؤيتها التّسليحية هذه، المخاطر التي يمثلها سلاحا الجو والبحر التركيان، ويبدو أنها تمكَّنت من تقليص الفوارق الفنية العسكرية مع أنقرة بشكل كبير، وخصوصاً في سلاح الجو، لكن يبقى تساؤل مهم حول إمكانية إدامة أثينا هذا التوجه التسليحي، ودعم صناعتها العسكرية المحلية الواسعة، في ظل تداعيات جائحة “كورونا” التي ضربت اليونان بشدة.
رغم ذلك، تبدو بوادر استمرار التوتر بين واشنطن وأنقرة بمثابة فرصة سانحة أمام أثينا كي تحتلّ الخانة التي كانت أنقرة حتى وقت قريب تشغلها، كلاعب عسكري أساسي في المنظومة العسكرية الأوروبية، وكموضع أساسي من مواضع الثقل العسكري الأميركي في المنطقة.
المصدر: الميادين نت.
مصدر الصور: Pinterest – روسيا اليوم.
موضوع ذا صلة: أزمة شرق المتوسط.. تصعيد سياسي أم تلويح عسكري؟!
كاتب مصري وباحث فى الشؤون العسكرية. بدأ العمل الصحافي منذ العام 2008. حاصل على ليسانس في الأدب الأنجليزي ودبلوم في الترجمة. إنضم لفريق الميادين نت في أبريل/نيسان العام 2016