مثَّلت الهجمات الصاروخية المتوالية التي استهدفت مطار أربيل في 15 فبراير الماضي، ومطار بلَد في 21 من الشهر نفسه، أول اختبار جِدِّي لإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن فيما يتعلق بكيفية تعاطيها مع الوضع العراقي، وعلاقة ذلك بمسعاها لإحياء الاتفاق النووي مع إيران.

وبينما يعتقد بعض المحللين أن إيران حاولت جسّ نبض إدارة بايدن ومعرفة “خطوطها الحمر” بهذه الهجمات، إلا أن التحليل الأكثر معقولية هو أن هذه الهجمات شُنَّت من الميليشيات من دون توجيه إيراني، ولكن أيضاً من دون اعتراض إيراني. ويُرجِّح مايكل نايتس، المتخصص بالشؤون الأمنية في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، أن تكون “عصائب أهل الحق” ضالعة بالهجوم على مطار أربيل، من دون توجيه إيراني مباشر”، بينما اتجهت اتهامات أخرى إلى “كتائب سيد الشهداء”. كذلك جاء الهجوم على المنطقة الخضراء يوم 22 فبراير 2021، ليزيد من الضغط على الإدارة كي تقوم برد فعل.

رد أمريكي محسوب

حاولت الإدارة الأمريكية، من جهة، تجنُّب أي تصعيد من شأنه أن يُخرِّب الجهود الراهنة لاستئناف المفاوضات مع الجانب الإيراني، خصوصاً أن الهجمات لم تتسبب بمقتل أي مواطن أمريكي، كما أنها لا تريد وضع حكومة مصطفى الكاظمي بوضع أكثر حراجة، خصوصاً مع عدم توصل التحقيقات إلى نتائج حاسمة بشأن الطرف الذي قام بالهجمات، لكنْ من جهة أخرى هي تخشى أن يُنظر إلى عدم الرد على أنه علامة ضعف قد تدفع الميليشيات إلى القيام بهجمات أخطر. لذلك، تقرر القيام برد محسوب ومسيطر عليه، ولا يُحرج الحكومة العراقية كما لا يؤدي إلى تصعيد كبير مع إيران. وجاء هذا الرد ليلة 25 فبراير الفائت، حينما تم قصف مواقع في مدينة البوكمال السورية يوجد فيها مقاتلو كتائب حزب الله وكتائب سيد الشهداء. وبحسب معلومات غير مؤكدة أدت تلك الضربات إلى مقتل ما بين 17 و22 من أعضاء هذين الفصيلين، لكن تقريراً لوكالة الأسوشيتد بريس ذكر أن الغارات قتلت شخصاً واحداً وجرحت عدداً من أعضاء الميليشيات. وقد وصف تقرير للبنتاغون الضربة بأنها “دفاعية”، وأن القرار بالقيام بها اتُّخذ كرد على الهجمات ضد الكوادر الأمريكية والدولية العاملة بالعراق، ورافقتها إجراءات دبلوماسية ومشاركات مع شركاء الولايات المتحدة في التحالف.

وقال وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، إنه نصح الرئيس بايدن بالقيام بهذه الضربة، وإنه واثق بأنها استهدفت نفس الجماعات التي قامت بهجوم أربيل، وهو ما يُعد تحولاً نسبياً -وعلى الأرجح غير منسق– في الخطاب الرسمي قياساً بتصريح سابق لنيد برايس، المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، ذكر فيه أن الولايات المتحدة لن تُصدِر “حكماً مسبقاً” حول من يقف وراء هجوم أربيل، وتصريح مشابه من البنتاغون أشار إلى عدم معرفة المسؤولين عن الهجمات الاخيرة.

الحكومة العراقية تحت الضغط

ومن الملاحظ أن أوستن أشار إلى أن التعاون الاستخباراتي مع الحكومة العراقية كان مفيداً في تحديد الأهداف، الأمر الذي أثار الفصائل التي أخذت تُصعِّد في خطابها ضد الحكومة، بينما تصدت كتلة الفتح –كالعادة– لمهمة التنديد ببيان أصدره رئيسها، هادي العامري، مُطالباً الحكومة العراقية “بالتحقيق في الرواية الأمريكية التي تدّعي أن هناك تعاوناً تمّ بين الحكومة العراقية ووزارة الدفاع الأمريكية لتحقيق هذه الضربة”.

وقد أصبحت هذه المنطقة من الحدود العراقية-السورية هدفاً معتاداً للهجمات الأمريكية والإسرائيلية، نظراً لانتشار عدد كبير من الميليشيات التي يديرها الحرس الثوري فيها، وهي تستهدف تأمين ممر بري لنشاط المحور الإيراني، كما أن وقوعها في الأراضي السورية يجنّب الأمريكيين الحاجة إلى أخذ موافقة الحكومة العراقية، وقبل ذلك، كان رئيس الوزراء العراقي ثاني مسؤول عربي يتلقى اتصالاً هاتفياً من الرئيس بايدن بعد تسلمه منصبه، فيما بدا أنه محاولة لدعم وتشجيع الحكومة العراقية على اتخاذ خطوات أكبر في مجال ضبط الميليشيات.

وفي سياق متصل، وبطريقة مفاجئة، أعلن الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ في منتصف فبراير الفائت أن الحلف قرر توسيع مهماته في العراق بزيادة عدد الأفراد بثمانية أضعاف، من 500 عنصر إلى 4000 عنصر. وأوضح ستولتنبرغ أن هذه الزيادة تأتي لغرض دعم القوات العراقية، والتأكد من عدم عودة تنظيم “داعش”، وأنها ستضمن توسُّع برامج الناتو لتشمل المزيد من المؤسسات الأمنية والعسكرية في العراق وخارج نطاق العاصمة بغداد.

ويمكن وضع الإعلان باعتباره محاولة منسقة بين الولايات المتحدة وأوروبا لتوزيع المسؤوليات وتخفيف الضغط على القوات الامريكية، وتوفير غطاء أكثر مقبولية للوجود العسكري الأمريكي في العراق. ومع ذلك، لا يبدو أن هذه الخطوة قد نُسقت بشكل كافٍ مع الحكومة العراقية، فقد وُوجهت باعتراضات من بعض القوى الشيعية باعتبارها محاولة لتكريس الوجود الأجنبي في العراق، كما أن وزارة الخارجية الإيرانية اعتبرت في تصريح للمتحدث باسمها أن زيادة القوات الأجنبية في العراق “يُعد سبباً لعدم الاستقرار وزعزعة الأمن”. لكن مستشار الأمن الوطني والعضو المعتدل في منظمة “بدر”، قاسم الأعرجي، قال إن مهام جنود الناتو هي “مهام تدريبية ولا تشمل القيام بأي أعمال عسكرية”، مما يعكس قبولاً ضمنياً بفكرة توسيع عدد منتسبي قوات الحلف. وقد تبع الأعرجي هذا التصريح بتنظيم ندوة في مركز النهرين للدراسات الاستراتيجية التابع لمستشارية الأمن الوطني، حضرها رئيس أركان الجيش ونائب قائد العمليات المشتركة ووكيل وزير الخارجية والسكرتير العسكري للقائد العام للقوات المسلحة، لشرح طبيعة مهمة الناتو في العراق.

وكان وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، قد أعلن بعد اتصال مع نظيره العراقي، فؤاد حسين، نهاية شهر يناير الماضي، عن رغبة إدارة بلاده في مواصلة الحوار الاستراتيجي مع العراق، بما يتضمن مناقشة وجود القوات الامريكية في العراق. وصرّح وكيل وزير الدفاع الأمريكي، جون كيربي، بأن الولايات المتحدة لم تتخذ بعدُ قراراً بشأن مستوى وجودها العسكري في العراق وأفغانستان وأنه في الوقت الحالي لا توجد تغييرات بخصوص الـ2,500 جندي أمريكي الموجودين في العراق.

أخيراً، كانت الهجمات الأخيرة على مطاري أربيل وبلد والمنطقة الخضراء، أول اختبار لإدارة بايدن فيما يتعلق بكيفية تعاطيها مع الملف العراقي، وبينما تحاول الإدارة تجنُّب أي تصعيد من شأنه أن يخرب الجهود الراهنة لاستئناف المفاوضات مع الجانب الإيراني، فإنها تخشى أن يُنظر إلى عدم الرد على أنه علامة ضعف قد تدفع الميليشيات إلى القيام بهجمات أخطر.

المصدر: مركز الإمارات للسياسات.

مصدر الصور: أرشيف سيتا.

موضوع ذا صلة: الإعتداء الأمريكي على الحدود السورية – العراقية: التوقيت – الرسائل – الدلالات