د. ملحة عبدالله*

اعتمد النقاد والكتاب والمفكرون من صفوة المجتمعات على أن المنهج التفكيكي ما هو سوى تجول في جوانب النصوص الأدبية، فتراكمت على أرفف الجامعات صفوف من الدراسات في هذا المنهج؛ لكنها لم تخرجه من دوائره ذات الصلة إلى علم الاجتماع؛ لأننا نجد أن الأثر الاجتماعي هو ما يحتاج الدراسة والتنويه والتنوير.

هل تصدى أي منا لما تطرحه تلك الفلسفات العالمية وخاصة المعاصرة منها ليخرجها من مدارات النص الأدبي أو الفلسفي إلى انعكاساتها على الواقع الاجتماعي؟ وهذا أمر معروف لدى دارسي الفلسفة وذوي (الإنتليجنسيا)، لكن تغافلهم عنها وعن تناولها بدراسة انعكاساتها على الواقع الاجتماعي وإخراجها من مدارات النصوص الأدبية إلى علوم السياسة والاجتماع هو ما أودى بنا إلى كل هذه الاضطرابات في عالمنا العربي وربما امتدت إلى المجتمع العالمي أيضاً.

ذلك لأن كل نظرية فلسفية، لا بد أن يتردد صداها بين حنايا البشر ودوائر السياسة دون رقيب أو شارح أو تعريف وتلك هي سمة القرن الواحد والعشرين!

حيث إن البعض يعتقد إن لم يكن الكل، أن المدارس الفلسفية لا تؤثر في البنية الاجتماعية لأي شعب كان، مادام لا يتناولها أو حتى لا يتدارسها، دون ملاحظة ذلك التسرب الوجداني طواعية بين كل طبقات المجتمع وخاصة طبقة البولتاريا (العاملة) ضحلة الثقافة والمعرفة كونها تستقي الأفكار دون ذات أرض معرفية راسخة ترسو عليها الأفكار بتمعن وتحليل وهو دون الإنتليجنسيا بإيقاظ الوعي العام! وهذا التغافل هو أخطر ما في الأمر.

ألم نجد أصداء الفلسفة الاشتراكية والرأسمالية ذواتي النسقين المتعارضين وكيف أنها خلقت مجتمعات متباينة الفكر والفكرة! فهذه الرؤى ما هي إلا أصداء لفلسفات سابقة في بعض المجتمعات الغربية والعالمية، متمثلة فيما طرحه شلنج وفتشة صوراً للمنهج الديالكتيكي كما استخدمه هيغل أيضاً، حينما رأينا فتشه كيف يواجه الأنا بمهمة تتجاوز اللا أنا، وفي فلسفة شلنج نجد فكرة أساسية هي فكرة الأضداد التي تتجمع في وحدة واحدة وبذرة هذه الأفكار تكمن في قائمة “المقولات” عند كانط. كلها لها أصداء اجتماعية شئنا أم أبينا إذا لم نتصدَ لها بما يدعى بالتنوير.

وإذا ما تأملنا كل تلك الرؤى، فسنجد أن سليلها هو ما انتهجه المنهج التفكيكي بإزاحة عنصري الزمان والمكان بما تمخض عما يسمى بالعولمة، وهو ما أنتج ذلك التشظي الواضح في النص الأدبي الذي انسحب بدوره على الواقع الاجتماعي أيا كان جنسه. وفي معرض هذا يقول الأديب واسيني الأعرج في مقال بعنوان الإنتليجنسيا ومجتمع اللا ثقافة والعدمية: “الإنتليجنسيا العربية لم تجد إلى اليوم القنوات المناسبة التي تربطها بمجتمعها.. في الكثير من الأحيان هي في وادٍ والمجتمع في وادٍ آخر.. وكأنها تنتج القيم الثقافية لها وليس لعموم المجتمع”.

فلقد اعتمد النقاد والكتاب والمفكرون من صفوة المجتمعات على أن المنهج التفكيكي ما هو سوى تجول في جوانب النصوص الأدبية، فتراكمت على أرفف الجامعات صفوف من الدراسات في هذا المنهج؛ لكنها لم تخرجه من دوائره ذات الصلة إلى علم الاجتماع، لأننا نجد أن الأثر الاجتماعي هو ما يحتاج الدراسة والتنويه والتنوير من قِبل علماء الاجتماع وعلماء النفس وعلماء الإنتجلينسيا كل في دائرته لينقذوا المجتمعات من هذه القرضة (الأكلة) في منسأة المجتمعات وهو ما نراه اليوم من تصدع، وموت، وقتل وإرهاب، وصوت الأنا الذي لا ينقطع، ذلك أن هذا المنهج هو ما يدعو إلى تفكيك النص كما يراه الدارسون، لكن في حقيقة الأمر هو بذلك يتسرب إلى تفكيك الحضارات والبنى الاجتماعية بدعوى إعادة صياغتها وتركيبها من جديد في سياق منهج تفكيكي كما أشرنا، حيث إن من أهم بنوده هدم الماضي من أجل إعادة صياغته من جديد – أي إعادة تركيبه – فلم تعد هناك ثقة في الماضي حيث يمكن إعادة صياغته.

إدوارد سعيد وهو من رواد التفكيكية مثله مثل جاك دريدا وفوكو يقول “إنه من البدهي أن الإمبراطورية من وجهة نظره تعني بالأساس حركة جغرافية توسعية.. أنها احتوائية، بمعنى أنها تسعى لصهر بنيات الأمم الأخرى وإعادة تركيبها بما يتوافق والمصالح الإمبراطورية ومن ثم فإن الحركة الجغرافية توازيها حركة ثقافية.. لتناسب الدور الجديد”، وهو ما نراه الآن في الحركات العالمية!

وبهذا نرى أن المناهج الفكرية والفلسفية تلعب دورا مهما في توجيه الفكر الاجتماعي والسياسي مما نتج عنها تلك الغربة، وبالإحساس بالانتماء للعالم وليس لهوية أو قومية وهي من مطالب المنهج التفكيكي على كل حال، على أن يكون الإنسان هو محور العالم، حتى يشعر الإنسان بفقدان الأنس المجتمعي وبالغربة الذاتية والاجتماعية والوطنية!

إن هدم التراث هو أهم مطالب التفكيكية، فلم أكن أصدق نفسي حينما كنت أناقش أحد المثقفين من الشعراء في إحدى القضايا، إذ وجدته لا يعترف بأي مرجع تراثي أو كتاب مرجعي أو مخطوط أو حتى مقتنيات المتاحف ومما يقتات عليه تراثنا وقيمنا، نتاج ما أطلق عليه علماء النفس بالحقن تحت الجلد عبر أنابيب فلسفات متسربة للوجدان الجمعي وخاصة المعاصرة منها كالتفكيكية على سبيل المثال، منهج التشكيك في الماضي هو ما أسست له أصبح منهجاً واضحاً للعيان في حياتنا اليومية حين خرج من دوائر الأدب إلى دائرة المجتمع، هذه القضية تحدث عنها إدوارد سعيد في كتابة (الثقافة والإمبريالية) حين قال متسائلا: “ما إذا كان الماضي ماضياً فعلاً وأنه انتهى إلى غير رجعة أم أنه لا يزال حياً بيننا حتى ولو في شكل مختلف ليصل إلى نتيجة مفادها أن الماضي والحاضر متعايشان ويصعب كثيراً الفصل بينهما وإن كان من اليسير تلمس الصراع الدائر بينهما”.

وبهذا نرى كيف أن المناهج الفلسفية تلعب دوراً مهما في توجيه الفكر الاجتماعي والسياسي إذا ما غاب التنوير.

*كاتبة سعودية.

المصدر: جريدة الرياض.

مصدر الصور: كل الوطن + سطور + صفا.

موضوع ذا صلة: المرأة الليبية وصناعة السلام