تمثل الصين التهديد الاستراتيجي، والمنافس الأهم للولايات المتحدة الأمريكية، وقد ورثت إدارة الرئيس دو بايدن العلاقات معها، وهي في أدنى مستوياتها منذ عقود، حيث شهدت حالة من التوتر والتعقيد خلال إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، التي اتخذت العديد من السياسات والمواقف الصارمة تجاه الصين، مما دفع إدارة الرئيس الجديد لتقييم ومراجعة السياسة الأمريكية تجاه الصين.

وعلى الرغم من أنها ما زالت قيد الدراسة الشاملة، إلا أن التحركات والتصريحات والإشارات الصادرة عن الرئيس بايدن وإدارته توضح بعض الملامح المبدئية لهذه الاستراتيجية، فما هي إذن؟

1. إرث ترامب: شهدت العلاقات الأمريكية – الصينية حالة من الاضطراب والتوتر واحتدام التنافس الذي خشي البعض أن يصل إلى حد الصراع بسبب السياسات الصارمة التي اتخذتها إدارة ترامب تجاه الصين بشأن العديد من القضايا، ومنها الممارسات التجارية للصين، ورفع الرسوم الجمركية على الواردات الصينية، واتهامها بانتهاك حقوق الملكية الفكرية، وسرقة التكنولوجيا الأمريكية، ووضع مجموعة الاتصالات الصينية “هواوي” وشركات صينية أخرى على اللائحة السوداء للولايات المتحدة لرؤيتها أنها تشكل خطراً على الأمن القومي الأمريكي، فضلاً عن انتقاد محاولة الصين إمداد الدول الأخرى بتكنولوجيا الجيل الخامس لشركة “هواوي” ووصفها بأنها تشكل تهديداً للديمقراطية، وسيتم التجسس من خلال هذه الشبكات، هذا إلى جانب تصاعد الخلاف بشأن تمدد النفوذ الصيني في بحر الصين الجنوبي والأوضاع في هونغ كونغ، وإقليم شنيجيانغ، واتهام ترامب للصين بالتستر على منشأ فيروس “كوفيد – 19”.

2. تحركات إدارة بايدن: وفي نفس السياق أظهر فريق إدارة بايدن مؤشرات بأنه سيحافظ على موقف صارم تجاه الصين. فعقب تنصيب بايدن، أعلنت المتحدثة بإسم البيت الأبيض، جين بساكي، أن واشنطن في منافسة جادة مع بكين، وأن الرئيس سيتعامل مع الصين بـ “صبر”. كما عكست تصريحات وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكين، تأييده لنهج ترامب الصارم تجاه الصين، وأنها تشكل التحدي والتهديد الاستراتيجي الأكبر، رغم تأكيده عدم الاتفاق مع أساليب ترامب، ودعا إلى مسار يركز بشكل أكبر على حلفاء واشنطن والعمل ضمن أطر متعددة الأطراف، كما انتقد الصين لافتقارها الشفافية في الكشف عن كيفية ظهور فيروس “كورونا”، ووصف العلاقة بأنها “معقدة”، تحتوي على مزيج من الأبعاد “العدائية” و”التنافسية” و”التعاونية”، والتي يجب التعامل معها من موقع قوة.

كما أشار وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، إلى أن الصين تعد “أهم تهديد”، وأن استراتيجية الدفاع الوطني لعام 2018، والتي تنظر إلى الصين وروسيا على أنهما تهديدان خطران على المسار الصحيح تماما، وأكد أن واشنطن بحاجة إلى استجابة أقوي للصعود الصين المتزايد في مجال الذكاء الأصطناعي وغيره من التقنيات الناشئة. وفي نفس السياق، أكد جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي، أهمية التعامل مع الصين بحزم، وعمل أمريكا على إصلاح ديمقراطيتها لمواجهة الصين على نحو أفضل.

وفي إطار تبني السياسة الخارجية الأمريكية للدبلوماسية لربط العلاقات الأمريكية مع الدولة الحليفة والمنافسة، جاء اتصال الرئيس بايدن مع الرئيس الصيني، شي جين بينغ، لإعادة فتح حوار مع الصين بشأن القضايا العالقة بينهما، إلا أن هذا الاتصال عكس استمرار التوتر بين البلدين، حيث تطرق “لممارسات الصين الاقتصادية، وحملة القمع في هونغ كونغ، وانتهاكات حقوق الإنسان في إقليم شنيجيانغ، والتمدد المتزايد للنفوذ الصيني في بحر الصين الجنوبي، والتأكيد على أن أمريكا تعطي الأولوية للحفاظ على منطقة المحيطين الهندي والهادىء حرة ومفتوحة”، وهي المنطقة التي تمثل تنافساً رئيسياً واستراتيجياً بين الولايات المتحدة والصين. وهو ما عقب عليه الإعلام الصيني بأن القضايا التي طرحت هي “شئون داخلية للصين، وعلى صلة بسيادة الصين ووحدة أراضيها”.

وفي سياق آخر، أشار بايدن في تصريحات له لقناة “سي.بي.سي” بأنه “لا حاجة لأن يكون هناك صراع بيننا، بل سيكون هناك تنافس شديد”. وفي أول خطاب له حول السياسة الخارجية، وصف الصين بأنها “أكبر منافس”، مؤكداً استعداد واشنطن للعمل مع بكين عندما يكون ذلك من مصلحة أمريكا، وفي موقف أكثر صرامة، حض بايدن في كلمته خلال “مؤتمر ميونخ للأمن” حلفاءه على التعاون معاً للتصدي للتحديات السياسية والاقتصادية الصينية، والعمل معاً ضمن منافسة استراتيجية صارمة وطويلة الأمد مع الصين، وأكد أن واشنطن ستعمل مع المجتمع الدولي لحمل الصين على حماية تلك الحقوق.

وفي إطار ربط إدارة بايدن بين مواجهة الصين وتقوية تحالفاتها، وخاصة التحالفات الغربية والتي تعرضت لضغوط وأزمة كبيرة خلال إدارة ترامب، قامت بتحركات سريعة لتعزيز العلاقات مع الحلفاء الأوروبيين الرئيسيين وحشدهم للعمل في إطار جماعي لاحتواء الصين ومواجهة التحديات الاقتصادية والتكنولوجية الصينية.

كما سارعت إدارة بايدن باتخاذ إجراءات لطمأنة الحلفاء الآسيويين على استمرار الالتزام الأمريكي تجاههم، ففي بحر الصين الجنوبي والذي يظل نقطة ساخنة في العلاقات المتوترة بين البلدين، قامت حاملات طائرات أمريكية بإجراء مناورات حرية التشغيل، والتي تجريها البحرية الأمريكية بانتظام لإظهار وجودها في المياه الدولية التي تطالب بها الصين، كما أبحرت المدمرة الأمريكية “جون إس. ماكين” بالقرب من جزر باراسيل الخاضعة لسيطرة بكين، مما أثار استياء الأخيرة، فضلاً عن تحذير واشنطن لها من استخدام القوة في مياه بحر الصين الجنوبي، وأعادت تأكيد وجهة نظرها بأن الحملة الحازمة التي تقودها الصين في المياه المتنازع عليها غير شرعية، وأعربت عن قلقها بشأن القانون البحري الصيني، وأكدت أن مزاعم الصين بسيادتها على غالبية مياه بحر الصين الجنوبي أمر “غير قانوني”، كما حذرت واشنطن الصين من محاولة ترهيب تايوان بعد دخول طائرات حربية صينية منطقة الدفاع الجوي للجزيرة، وأكدت دعمها لتايوان ضد ما سمته محاولات “الصين لترويع جيرانها”.

وأكد وزير الدفاع الأمريكي لنظيرة الياباني الدعم الأمريكي لليابان، وأن جزر سينكاكو في بحر الصين الشرقي، التي تُطالب بها بكين أيضاً وتطلق عليها اسم دياويو، تخضع لمعاهدة أمنية تُلزم الولايات المتحدة واليابان بالدفاع عن بعضهما البعض، هذا إلى جانب معارضتها لأية محاولات أحادية لتغيير الوضع القائم في بحر الصين الشرقي.

وفي السياق نفسه، يشير تعيين بايدن لكورت كامبل، كمنسق لمنطقة المحيطين الهندي والهادىء، علامة على أن واشنطن تضع منطقة آسيا والباسيفيك في مقدمة اولويات سياستها الخارجية، وأنها تتبع نهج متعدد الأطراف للتعامل مع قوة الصين، من خلال بناء تحالفات أفضل في آسيا لمواجهة تحديات الصين المتعددة في منطقة المحيطين الهندي والهادىء، حيث يؤيد كامبل لسياسة “التمحور نحو آسيا” وينظر له على أنه بطل استخدام التحالفات لاحتواء الصين، وله علاقة راسخة مع حلفاء الولايات المتحدة في هذه المنطقة.

كما برزت المواجهة أيضاً في المؤسسات والمنظمات الدولية. فعلى الرغم من عودة إدارة بايدن لمنظمة الصحة العالمية – التي انسحب منها ترامب منتقدا نفوذ بكين بها بسبب فيروس “كورونا”، بدت إدارة بايدن غير راضية عن تحقيق المنظمة في الصين حول منشأ فيروس “كورونا”. وطالبت بكين بالتعاون مع التحقيق وضمان أن تظل بعثة الخبراء مستقلة “وبمنأى عن أي تدخل أو تأثير”.

ومن جانب آخر، تعمل إدارة بايدن على تحسين الوضع الداخلي سياسياً واقتصادياً والعمل على استعادة قيادة أمريكا للعالم لمواجهة الصعود الصيني. وفي هذا الإطار، تجدر الاشارة إلى أنه على الرغم من الانقسام الداخلي في أمريكا إلا أن هناك إجماعا بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي على اتباع سياسة أكثر تشدداً للتنافس الصيني المتزايد.

واتخذت إدارة بايدن خطة لتقوية الاقتصاد الأمريكي، ودعم الصناعة المحلية وتنويع سلاسل التوريد، ومحاولة تقويض هيمنة الصادرات الصينية، ومع كل ذلك فلا يزال من غير الواضح كيف ستتعامل إدارة بايدن مع مسألة الرسوم الجمركية المتبقية بعد توقيع اتفاق المرحلة الأولى التجاري، العام 2020، ولكن البيت الأبيض أعلن أن بايدن لن يسارع إلى تغيير الرسوم الجمركية، وسيتخذ نهجاً متعدد الأطراف للتعامل مع الصين ويشمل ذلك تقييم التعريفات المطبقة حالياً، كما استمرت إدارة بايدن في سياسة الضغط فيما يتعلق بالملكية الفكرية والتنافس في مجال التقنيات الناشئة واستمرار ممارسة الضغط الأمريكي على شركة “هواوي”.

3. تشكيل فريق خاص لتقييم وإعادة رسم السياسة الأمريكية تجاه الصين: في الوقت الذي تصوغ فيه إدارة بايدن سياستها تجاه الصين، اتخذ الرئيس بايدن قراراً خلال زيارته للبنتاغون بتشكيل فريق عمل لمراجعة الاستراتيجية الأمريكية تجاه الصين تحت إشراف وزارة الدفاع، حيث يرغب في تبني استراتيجية عسكرية حازمة تجاه الصين، مؤكداً في الوقت نفسه أن استخدام القوة يجب أن يكون “آخر أداة” للحل، وأكد أن هذه الاستراتيجية تتطلب جهداً حكومياً كاملاً، وتعاوناً من الحزبين في الكونغرس، وتقوية التحالفات الأمريكية لمواجهة التحديات المتزايدة التي تفرضها الصين والدفاع عن مصالحهم في المحيطين الهندي والهادىء والدولي.

وتتألف مجموعة العمل هذه من 15 مستشاراً مدنياً وعسكرياً، وستكون لديها مهلة 4 أشهر لتقديم توصياتها إلى وزير الدفاع لويد أوستن، وسيترأسها المستشار الدبلوماسي السابق لبايدن المتخصص في الصين، إيلي راتنر. ويهدف هذا الفريق لتحديد الموقف العسكري والضروري لنشر قوات عسكرية أمريكية في المحيط الهادىء لمواجهة الطموحات الإقليمية لبكين، وتطوير التعاون مع الحلفاء، وتحديد نوع العلاقات التي ترغب الولايات المتحدة في إقامتها مع الجيش الصيني، أو حتى أنواع الأسلحة التي يمكن أو لا يمكن تطويرها.

ووفقاً لهذه المعطيات، ما زالت تشكيل سياسة أمريكية واضحة تجاه الصين قيد الدراسة، ولكن بكل تأكيد سيتبع بايدن استراتيجية لمواجهة التحديات التي تطرحها الصين بما يخدم المصالح الأمريكية. وبشكل مبدئي، تشير كل التحركات الدبلوماسية والتصريحات التي خرجت من إدارة بايدن منذ تولية منصبه إلى أنها “استراتيجية لعلاقة تنافسية تعتمد على نهج أكثر صبراً وأكثر حزماً والتعامل بدبلوماسية أكثر في الجوانب العدائية والتنافسية والتعاونية للعلاقات بين البلدين، وتعزيز التحالفات الأمريكية، لا سيما في آسيا وأوروبا وحشدهم في تحالف دولي من أجل تشكيل جبهة موحدة لمنافسة الصين واحتواء التحديات الاقتصادية والسياسية الصينية، إلى جانب استمرار المواجهة بشأن ملف حقوق الانسان والديمقراطية والتوسع الإقليمي لضمان استقرار منطقة المحيطين الهندي والهادىء، والعمل على تقوية الاقتصاد ودعائم الديمقراطية الأمريكية، والتأكيد على الدور العالمي لأمريكا في الدفاع عن حقوق الإنسان، والعمل مع المجتمع الدولي لحمل الصين على حماية تلك الحقوق، مع الاستمرار في تبني العديد من سياسات الضغط الصارمة التي انتهجها ترامب تجاه الصين ولكن بأساليب مختلفة في التنفيذ وبنهج أكثر مرونة ودبلوماسية.”

ختاماً، إن شكل وطبيعة العلاقات بين الصين وأمريكا، خلال السنوات 4 القادمة، سيكون لها انعكاساتها بكل تأكيد على خريطة التحالفات العالمية وطبيعة النظام الدولي، حيث تعد سياسة الرئيس بايدن في العالم وتجاه الصين خلال هذه الفترة حيوية لمستقبل الولايات المتحدة، فإما أن تعيد الأخيرة خلال هذه الفترة كتابة قواعد النظام الدولي من جديد ومواجهة “التنين” الصيني، أو يخفق بايدن وتذعن الولايات المتحدة للصعود الصيني في النظام الدولي؛ والتحدي الأكبر هنا: هل يستطيع بايدن حقاً تقوية الاقتصاد الامريكي لمنافسة الصين هذا ما سننتظر حدوثه خلال السنوات القادمة؟

المصدر: السياسة الدولية.

مصدر الصور: فرانس 24 – العربي الجديد.

موضوع ذا صلة: هل تستطيع الولايات المتحدة أن تستعيد مصداقيتها في آسيا؟

د. غادة عبدالعزيز

باحثة متخصصة في العلاقات الدولية