د. حسن حمادة*
حضرة الرئيس،
أود في البدء توجيه تهنئة حارة لك على صدقك. فلم يخب ظني بك لكونك ذهبت مباشرة في الموضوع إلى النقطة الأخيرة منه وهي النقطة المركزية التي لا تحتاج إلى زينة أبجدية أو لفظية لإخفاء حقيقتها لطالما هي السبب المباشر لفوزك بالمهمة في لبنان، وأقصد بذلك موضوع سلاح المقاومة.
فلم يطل بالك كثيراً حتى اعترفت جهاراً بنصف ما يهمك من أمر لبنان. وأما النصف الآخر فيلخص بهاجس الفوز بعقود استملاك لما تبقى من ثروة غير منقولة للدولة وللشعب من المرفأ الشهيد إلى المطار المهدد بالمصير نفسه، إلى الكهرباء، إلى المياه، إلى الهاتف النقال، إلى البنى التحتية وصولاً طبعاً إلى ما تختزنه أرض لبنان اليابسة ومياهه من نفط وغاز حيث لشركة الطاقة العملاقة “توتال” مركز الصدارة. وما عدا ذلك من عبارات ذات بعد إنساني وإصلاحي وأخلاقي، فلا تتعدى حدود ووظيفة التبرج والأناقة. وأما الذين توقعوا منك عكس ذلك ففوجئوا مفجأة إعتبروها غير سارة فتلك مشكلتهم لأن الوعود في قاموس الدول لا تلزم سوى من يصدقها.
وإلى جانب التهنئة لا بد من الخوض معاً، كل من معسكره، في موضوع المواجهة المباشرة مع القوى الرافضة للحملة الإستعمارية التدميرية التي أطلق عليها عنوان “الربيع العربي”. وللتذكير يا حضرة الرئيس أن هذه العبارة سبق واستخدمتها الحكومات الفرنسية قبل 172 عاماً حين قالت أن تأسيس شركة “بوديكور” المشؤومة هي بداية لربيع الشعوب. وكانت مهمة هذه الشركة تقضي بإقتلاع اللبنانيين الموارنة من أرضهم ونقلهم إلى الجزائر.
فعلى طريقتك في إختصار المسافات، جاء مؤتمرك الصحفي، 27 سبتمبر/أيلول 2020، ليؤكد على ما سبق لك أن أعلنته قبل ساعات من زيارتك الثانية للبنان، فأضفت سحابة كثيفة من الغموض في فضاء العلاقات اللبنانية – الفرنسية تضاف إلى الحقبات الغامضة التي كنت قد أشرت بها إليك سابقاً والتي تقود إلى قراءة مختلفة لمسيرة العلاقات بين البلدين ما يجعلها بعيدة كل البعد عن الدعاية المحيطة بتلك الأسطورة من العشق والحنان. هذه المرة، أعدتنا بالذاكرة إلى زمن يفترض به أن يكون قد انتهى لكنك أنت فيه اليوم أقرب إلى “مفوض سامي” ولكن بصلاحيات أقل من تلك التي كان يتمتع بها أسلافك في هذا المنصب حيث كانت مرجعيتهم باريس فيما مرجعيتك الفعلية تقع في مكان ما من “العالم الجديد”.
هذا ليس غريباً عنك على الإطلاق، فأنت إبن نهج سياسي يختار فرنسا الأوروبية على فرنسا الفرنسية. وإذا ما خُيرت بين أوروبا الأوروبية وأوروبا الأطلسية يذهب خيارك إلى أوروبا الأطلسية. ولن أذهب إلى حيث يصل البعض في القول عن تفضيل الإنتماء إلى الولايات المتحدة على الإنتماء إلى أوروبا الأطلسية. وربما هذا هو السببب الذي يجعلك لا تتوقف، ولا للحظة، عند موضوع خطير كموضوع المقاومة التي تحمي ما استطاعت لبنان من الوحش العنصري الصهيوني فيما أنت تضع بمصافي الخطيئة المميتة عدم احترام ذكرى المقاومة الفرنسية.
إن موضوع مقاومة الإحتلال والدفاع عن الأوطان أمر مبدئي – إنساني – حقوقي – أخلاقي يتمتع بحالة قريبة من القداسة. فهل تعتبر أن من الرصانة بمكان أن تتناوله عندنا كما أنت فاعل؟! أود أن ألفت نظرك إلى أن استخفافك بهذا الشأن الخطير، شأن المقاومة، يقود البعض إلى التساؤل عما كان موقفك الحقيقي من المقاومة الفرنسية ومن “فيشي” لو قدر لك العيش في تلك الحقبة الأليمة من التاريخ الفرنسي. إن كلامك عن المقاومة اللبنانية أتى بمثابة “طعنة خنجر” في صدر العديد من اللبنانيين. ربما لم تكن تقصد ذلك وربما كنت قد أصغيت في هذا الموضوع أكثر من اللزوم إلى مستشاريك وأصدقائك، فورطوك بأمر يؤثر بقوة على التاريخ المشترك بين لبنان وفرنسا حاضراً ومستقبلاً.
حضرة الرئيس،
لم أستغرب إهمالك الكامل لتجربة موريس كوف دو مورفيل، رجل الدولة الفرنسي المحترم، في تعاطيه مع الملف اللبناني. الفارق بينكما فوارق، ليس في الزمن والخبرات والثقافة فحسب وإنما في الانتماء أيضاً، فهو كان في ريعان الشباب حين إلتحق بقائد فرنسا الحرة وصار يعمل في إذاعتها المقاومه وظل مقرباً من الجنرال شارل ديغول طيلة حياته، كوزير للخارجيه ثم كرئيس للحكومة. لذا، كان حريصاً على عدم الدخول كفريق بين اللبنانيين في خلافاتهم؛ وبالتالي، عدم تشجيعهم على تدمير بلدهم. وبطبيعة الحال لم يسمح له تاريخه، في ما بعد، أن يعترض على وجود ونشاط المقاومة التي طردت الوحوش الصهاينة من العاصمة بيروت، أول عاصمة عربية يحتلها الجيش الإسرائيلي يوم لم يكن حزب الله قد ولد بعد. إن حزب الله ولد من رحم تلك المقاومة، نعم من رحم تلك المقاومة المظفرة التي كسرت “أنياب” الوحوش الصهاينة وطردتهم من هذه البيروت التي زرتها أنت وتجولت في شوارعها.
كان يفترض بك أن تتعرف إلى هذه الحقائق التاريخية قبل أن تستخدم تعابير جارحة بحق هذه المقاومة وذلك بغض النظر عن موقفك المبدأي منها بسبب إلتزاماتك الأطلسية – الصهيونية.. ثمة إعتداء على كرامة الوطن اللبناني يفترض منك الإعتذار. من حقك بالكامل أن تكره المقاومة وأن تحاربها، ولكن لا يحق لك التجريح بها فيما أنت تتعاطى في الموضوع اللبناني تحت عنوان الصداقة.
تصور الأمر معكوساً، كأن يقف لبناني في وجهك ويجرح بالمقاومة الفرنسية، ماذا تكون ردة فعلك؟! أتوقع منك أن تثور ثائرتك غضباً، بمعزل عما يمكن أن يكون عليه رأيك الضمني بالمقاومه الفرنسية، وهو أمر يخصك لوحدك. فكيف أن تصور هذه المقاومة اللبنانية كـ “زارعة للرعب” في سوريا، على حد تعبيرك؟!
هذه المقاومة اللبنانية، شئت أم أبيت يا حضرة الرئيس، هي رأس الحربة في التصدي الميداني للإرهاب إبتداء بتنظيمات الإرهاب الاطلسية، أي “داعش” و”النصرة” و”السلطان مراد” و”الزنكي” ومشتقاتها كافة، التي تقع تحت رعاية حلفكم الشمال الأطلسي وبتمويل من الخزائن الخليجيه المحتلة من جيوشكم الأطلسية. أكثر من 170 ألف إرهابي من أوروبا وغيرها أدخلتموهم إلى قلب الجغرافية السورية لتمزيقها من الداخل وذلك في أوحش الحملات الإستعمارية التي عرفها التاريخ على اختلاف حقباته. إنها المنظمات التي “تقوم بعمل جيد”، حسب قول وزير خارجيتكم ذات يوم. لذلك، تجرحون بالمقاومة اللبنانية ربما لكونها أسهمت إسهاماً جباراً في الدفاع عن الوجود المسيحي في أرض سوريا المقدسة فيما حلفكم الذي يتقن جلد الشعوب وإنكار أبسط حقوقها الإنسانية يعمل ليل نهار لمحو آثار المسيحية من أرض الثائر الفلسطيني – الإنساني الأول، السيد يسوع المسيح، رأس الأسرة التي تضم محمد الدرة وأخواته وإخوته.
أغلب الظن يا حضرة الرئيس، أن هذا هو السبب الذي جعلك ترى تناقضاً غير مفهوم بين مقاومة حزب الله لإسرائيل وحقه في أن يكون حزباً محترماً في لبنان! يعني كأن يقول لك لبناني أن أية قوة فرنسية تقاوم النازية تفقد حقها بأن تكون حزباً سياسياً محترماً داخل فرنسا! هل يعقل ذلك؟! هذا طبعاً بمعزل عن رأيك الضمني بالفاشية أو النازية، فهو أمر يخصك شخصياً ولا دخل لأحد فيه.
إن شعب المسيح مضطهد كما المسيح. ألم يندد البابا بنديكتوس السادس عشر بالإضطهاد الذي تتعرض له المسيحية في أوروبا؟ إقرأ يا حضرة الرئيس رسالة بنديكتوس بمناسبة يوم السلام العالمي، مطلع العام 2011 الذي أطلقتم فيه “عرس الدم” بواسطة “ربيعكم” العربي. في الفقرة الرابعة عشرة من تلك الرسالة الخطيرة، إعتبر المفكر جوزف راتزنغر ان حواراتكم مع العالم ينقصها الصدق. إقرأ يا صاحب الفخامة هذه الفقرة فقط، فأغلب الظن أنك غير مولع بالمطالعة.
كنت أتأمل بك وأنت تدلي بدلوك في مؤتمرك الصحفي، وشعرت كم هو بارد هذا المؤتمر، على الرغم من لغة الجسد الدائم الحركة. بارد غير معني بالطلب اللبناني الذي سلم إليك، طلب الحصول على صورة لأرض الإنفجار الكبير وفضائه يوم حدوث الجريمة العدوانية المركبة ضد وجود لبنان من أساسه. إن كلامك الذي تفضلت به كله فارغ بلا قيمة طالما أنت تتهرب من تلبية طلبنا لمعرفة حقيقة من أدار التفجير الهيروشيمي لمرفأ بيروت وإزاحته من درب مرفأ حيفا في فلسطين المحتلة. نريد الحقيقة. الحقيقة من أجل لبنان. هل سمعت يا من يسمح لنفسه بتوجيه الدروس لنا، ويتظاهر بشتم سياسيينا اللصوص ليخطب ودنا ويأخذ ثقتنا ويتابع تفاهمه معهم عبر تغييب الفاعل. دائماً يتم رفع الأصوات، فالتعميم، فالسجالات حتى تغييب الفاعل. هذه التقنية يا حضرة الرئيس العزيز تنطلي فقط على من يصدق كلام الدول.
أين صور القمر الصناعي يا حضرة الرئيس؟! ما هو المخفي من وراء عدم كشفها؟! عذراً يا حضرة الرئيس إن كنت قد نسيت أن هذه هي قاعدة الشفافية – الديمقراطية – الحقوق إنسانية التي تحاضرون بها بفصاحة لا يجاريها سوى فصاحة المصرفيين العتات، شرواكم يا صاحب الفخامة، حين تقنعون الزبائن بوضع أموالهم وإدخارات عمرهم في خزائن البنوك بحيث يفعل البخار فعله عندما تدق الساعة لتنفيذ النهب الكبير وتدمير الأسر بغطاء من هذه الثورة الملونة أو تلك، تماماً كما حدث ويحدث في لبنان، وأنت من أسياد العارفين يا صاحب الفخامة، وربما لأنك كذلك تجاهلت بالكامل الإعترافات الفظيعة، الفظيعة والفظيعة، التي أدلى بها الدبلوماسي الأمريكي الشديد التهذيب والمحب للسلام والوئام بين البشر والمواكب لعرس الدم اللبناني منذ عشرات السنين، ديفيد هيل، أمام الكونغرس الأمريكي قبل ساعات معدودة فقط من مؤتمرك الصحفي العظيم حيث قال أن إدارته أنفقت على من تثق بهم في لبنان مبلغ 10 مليارات دولار توزعت على منظمات غير حكومية وعلى أتباع صالحين في أوساط السياسة والإعلام المنافق. ويتمم كلامه هذا كلاماً سابقاً للدبلوماسي الأمريكي المواكب أيضاً لمجريات عرس الدم اللبناني منذ سنين والذي أكد بصريح لسانه، ومن المنبر ذاته، أن إدارته المحبة للسلام والكارهة للمذابح والإغتيالات دفعت ذات عام نصف مليار دولار في قلب لبنان من أجل تشويه صورة حزب الله.
آذانهم يا حضرة الرئيس تصغي أولاً إلى زملائك المصرفيين الدوليين وعينهم على المصرف المركزي اللبناني وهم يعتزمون تجريده من حقه الحصري في إصدار العمله، والحجة لتمرير ذلك جاهزة “مصرف لبنان لم يعد مؤتمن على إصدار العمله لذا لا بد من إسناد هذا الإمتياز إلى بنوك خاصة”. وبما أن البنوك الخاصه فقدت مصداقيتها بالكامل، بتواطؤ من حاكم المصرف المركزي (وهو بمثابة ادغار هوفر المالي) وكبار لجنة المصارف الذين يمضون نصف أوقاتهم في باريس بعيداً عن الأضواء الكاشفة لبعض اللبنانيين الوطنيين، لا بد من إسناد الإمتياز الى بنوك دولية. و”بنك أوف نيويورك”، كبير البنوك المالكة للإحتياطي الفدرالي الأمريكي، بات يملك 34% من أكبر المصارف اللبنانية وذلك عبر عملية لصوصية خاطفة في أواسط العام 2019 حجب أمرها الإعلام اللبناني الحر، أي الإعلام الممول من الـ 10 مليارات دولار آنفة الذكر، والمروج لما يسمى بـ “الثوره”، ثورة التدمير الذاتي التي نفذت بإسم محاربة الفساد.
هل يعقل يا حضرة الرئيس، المحاضر بالنزاهة والعفة، أن تتجاهل هذه السرقة الكاملة لشعب بأكمله من قبل المصارف؟! مدهش أمرك يا حضرة الرئيس كيف تنسى أو تتناسى أمراً بهذه الخطورة تماماً كتناسيك للصور الفضائية التي من شأنها أن تسهل بشكل حاسم وقاطع في تحديد المسؤولية عن التفجير الهيروشيمي.
حضرة الرئيس،
صعب عليَّ تصديق الرأي القائل بأنك لست على علم بكل ذلك كما يصعب عليَّ تصديق عدم علمكم بأن طائرات حلفكم الأطلسي تقوم بعمليات إحراق ممنهج لحقول الحبوب والمزروعات الخصبة في سوريا لكي يموت السوريون من المجاعة فيما يحرمهم الحصار الأطلسي من وسائل التصدي لإجتياح الوباء. فيا إبن العالم المتمدن – الحقوق إنساني – الشفاف، وطبعاً وقبل كل شيء الديمقراطي، عليك أن تعتذر. إعتذر من اللبنانيين، منا نحن يا حضرة الرئيس، معيب أن لا تعتذر. لبناننا كان وسيبقى لنا وهو ليس للبيع، وسوريانا كانت وستبقى لنا وفلسطيننا كانت وستعود لشعب السيد المسيح.. شعبنا.
مع تكرار تحياتي.
* كاتب وباحث لبناني – عضو المجلس الوطني للإعلام
المصدر: موقع الإنتشار.
مصدر الصور: إندبندنت عربية – النهار.
موضوع ذا صلة: الإستراتيجية الأوروبية.. بين ماكرون الهجومي وميركل المترددة