دخل الرئيس جو بايدن البيت الأبيض مصمماً على استعادة ثقة العالم بالولايات المتحدة. وتكتسب هذه المهمة أهمية خاصة في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ التي أصبحت تلعب دوراً محورياً لا يقل عن أهمية دور أوروبا إبان الحرب الباردة. ووجود الولايات المتحدة وتأثيرها فيها قد أصبحا في خطر، وتعزيزهما سيكون مهمة شاقة. فبرنامج الصواريخ النووية مستمر في كوريا الشمالية، ودول جنوب شرق آسيا تتطلع لعقد اتفاقيات بعيداً عن الولايات المتحدة، والصين تتمدد في اتجاهاتٍ عديدة.

وأضف إلى كل ذلك سياسات الرئيس السابق دونالد ترامب المسيئة؛ فإخفاق إدارته في التصدي للجائحة، والتمرد الأخير في مبنى الكابيتول قد أضر كثيراً بصورة وسمعة الولايات المتحدة بين صانعي السياسة الآسيويين، وشعوب المنطقة بشكلٍ عام. ولاسترجاع مكانة بلاده وحضورها سيحتاج فريق الرئيس بايدن إلى سياسة جريئة وبعيدة النظر.

وقد واجهت الولايات المتحدة تحديات مشابهة في المنطقة من قبل، وتمكنت من اجتيازها؛ ففي الحرب العالمية الثانية حطَّم الرئيس فرانكلن روزفلت، صورة اليابان التي لا تقهر من خلال غارة “دوليتل” على طوكيو العام 1942، وفي السبعينيات عكس ريتشارد نيكسون التراجع الأمريكي من خلال الانفتاح على الصين، وقلَب الرئيس رونالد ريغن الطاولة على السوفييت بعد غزو أفغانستان وكمبوديا من خلال الاتفاق مع اليابان لمنع السوفييت من التمدد في المحيط الهادئ.

تلك كانت خطوات جريئة، وإلى حدّ ما خطيرة؛ ولكنها أكدت القوة والحزم والزعامة الأمريكية. وسيتعين على بايدن أن يظهر طموحاً مشابهاً. وربما لن تتاح له الفرصة لاتخاذ خطوات استراتيجية مثل روزفلت ونيكسون؛ ولكن هنالك على الأقل 4 مسارح يمكنها أن تستعيد مكانة وقيادة ومصداقية الولايات المتحدة في المنطقة؛ وهي: الاقتصاد، البنى التحتية، التحالفات، والدفاع.

الاقتصاد

في المنافسة الاقتصادية، فقدت الولايات المتحدة مؤخراً قدرتها على الاعتماد على حجم اقتصادها وجاذبيته في المنطقة لدفع الدول للعمل ضمن القواعد والأنظمة الدولية التي تحددها وتقودها هي؛ فالصين أصبحت تزاحمها على مكانتها كمصدر أول للاستثمارات، ووجهة نهائية للصادرات الآسيوية، وبالتالي كمرجع اقتصادي لحكومات المنطقة. وقد أبرمت دول المنطقة مؤخراً اتفاقيتَين تجاريتَين في غاية الأهمية لم تكن الولايات المتحدة طرفاً في أي منهما.

والولايات المتحدة بحاجةٍ ماسة للعودة إلى اللعبة الاقتصادية في المنطقة، ولتحقيق ذلك يجب على الإدارة أن تضع خطة طموحة للعمل مع الاقتصادات الآسيوية على أساس مبادئ النمو المشترك والازدهار المستدام والابتكار المسؤول. وبدلاً من التركيز على مواجهة الصين، يجب أن تستهدف تعزيز رفاهية الطبقات الوسطى في دول المنطقة، ولفعل ذلك على بايدن معالجة المسائل ذات الاهتمام الإقليمي الواسع؛ مثل قضايا الصحة العامة، وعدم المساواة في الدخل، والتغيرات المناخية.

يمكن للولايات المتحدة تأكيد قيادتها الاقتصادية في المنطقة من خلال تأكيد قيم العدالة والشفافية والمساءلة التي تتعارض ممارسات الصين تجاهها مع مصالح دول المنطقة. فإدخال القيم الأمريكية إلى اقتصاد المنطقة لن يخدم الولايات المتحدة فقط، بل سيساعد في مواجهة تأثير الصين “الخبيث” فيها.

ويتعين على الولايات المتحدة أن تتخذ خطوات عملية في هذا المجال؛ كالعمل على اتفاقية التجارة الرقمية، والدفع باتجاه تحالفٍ بين القطاع الخاص والحكومات، يركز على تعزيز الاستثمارات الأمريكية في البنى التحتية في آسيا، وفي مشروعات الطاقة النظيفة، وكذلك تنظيم مبادرة آسيوية لوضع قواعد للمنافسة بين الدول، والعمل بشكل وثيق مع طوكيو. كما يمكن للرئيس بايدن الانطلاق في قيادة اقتصاد المنطقة من خلال استضافة منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ، العام 2023، والعمل مع نيوزيلندا وتايلاند اللتين تترأسان المنتدى، خلال عامَي 2021 – 2022؛ للوصول إلى مجموعة من الاختراقات الكبيرة.

البنى التحتية

أصبح الاستثمار في البنى التحتية ساحة أخرى للمنافسة، وقد استخدمت بكين مبادرة “الحزام والطريق” بشكل فعال جداً في توسيع نفوذها، واستثمرت أكثر من 100 مليار دولار في مشروعات النقل والطاقة والمشروعات الرقمية؛ بهدف ربط آسيا بأوروبا، وتنوعت هذه المشروعات من مترو أنفاق في جاكرتا إلى ميناء في كمبوديا إلى شبكة الكابلات الضوئية في باكستان، ومحطات الطاقة في بنغلادش. والولايات المتحدة لا تملك القدرة ولا الموارد الكافية للمنافسة بشكل مباشر في هذا المجال.

وقد حاول ترامب مواجهة الحضور الصيني بأساليب مبتكرة، ولكنها لم تكن كافية. فللولايات المتحدة عوامل قوتها؛ فهي تتفوق في مضمار المعايير العالية في تصميم وتنفيذ المشروعات الكبرى وفي توفير التمويل والإدارة عالية الجودة لهذه المشروعات. وقد بدأت أستراليا واليابان بالفعل بالعمل مع الولايات المتحدة على هذه الجهود، ويجب توسيع هذه الشراكة لتضم الهند وكوريا الجنوبية وأوروبا وغيرها.

كما يجب على بايدن عقد قمة عالمية نصف سنوية حول البنى التحتية تشارك فيها الصين أيضاً؛ بحيث تتمكن الولايات المتحدة من خلق وقيادة محادثات عالمية حول البنى التحتية، تركز على التمويل والقدرة على السداد وتصميم المشروعات والعمالة وحماية البيئة والتعاون الدولي. الفكرة هنا ليست المنافسة المباشرة مع الصين؛ بل خلق أطر عمل وحوافز ترفع مستوى مشروعات مبادرة “الحزام والطريق”، وتسمح للولايات المتحدة بالدخول إلى اللعبة بطريقةٍ فاعلة ومستدامة.

لقاء الشرق والغرب

لقد حان الوقت للولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين لبناء استراتيجية مشتركة تجاه الصين؛ فقد أصبحت وجهات النظر الأوروبية تجاه الصين أكثر صلابة، وأصبح الاتحاد الأوروبي يعتبرها منافساً منهجياً، وتشترك الولايات المتحدة وأوروبا في القلق من المقاربة الصينية للاقتصاد وحقوق الإنسان وتغير المناخ، وكذلك تتشاركان الرغبة في الوصول أكثر إلى الأسواق الصينية، وتحقيق تكافؤ الفرص فيها. والاتفاقية الشاملة حول الاستثمار بين الصين والاتحاد الأوروبي لا تتجاوز كونها مطباً أمام الصين، وليست حاجزاً يقطع الطريق؛ وهي لا تزال بحاجةٍ إلى موافقة البرلمان الأوروبي والمجلس الأوروبي، حيث تشكل مصدر خلاف داخل الاتحاد، والآن هو الوقت المناسب لإدارة بايدن لطرح مسألة الأجندة المشتركة والعمل الجماعي المجدي.

يجب أن تتركز الجهود على القضايا المتفق عليها بين الولايات المتحدة وأوروبا؛ مثل الاقتصاد والتكنولوجيا والمناخ وحقوق الإنسان، والابتعاد عن محاولة تشكيل وحدة اقتصادية على مستوى الاتحاد الأوروبي. كما يمكن التركيز على المسائل التي حظيت بتوافق وتغطية جيدة؛ مثل موضوع اتصالات الجيل الخامس – G5 أو قواعد خصوصية البيانات، وهذا سيوصل رسالة إلى بكين مفادها أن الولايات المتحدة وأوروبا متحدتان حول مبادئ حرية التجارة والحكم الديمقراطي والحل السلمي للنزاعات.

وكلما كانت هذه الجهود أكثر فاعلية، وَجَب على الولايات المتحدة وحلفائها الاستعداد بشكل أفضل لردود الفعل السلبية من الصين. كما يجب على واشنطن أيضاً أن تستكشف بهدوء آفاق التعاون العسكري والاستخباراتي الذي يركز على الصين، فمع أن معظم الدول الأوروبية لا ترى مصالح أمنية كبيرة لها في المحيطَين الهندي والهادئ، إلا أنها تشترك في مصلحة الحفاظ على حرية الملاحة واحترام القانون الدولي.

نقطة القوة الأساسية

مع أن الاستراتيجية الأمريكية المستدامة في منطقة المحيطين الهندي والهادي يجب ألا تقتصر على الأمن فقط، فلا يمكن لواشنطن أن تتجاهل دورها الفريد كمزود مركزي للأمن الإقليمي، ويجب على إدارة بايدن أن تضاعف هذا الدور الآن لإبراز قوة وتصميم الولايات المتحدة. ويمكن للإدارة الاستفادة من “مبادرة الردع في المحيط الهادئ” الممتازة، التي أقرها الكونغرس في ديسمبر/أيلول 2020، والتي ترسل إشاراتٍ قوية إلى الصين والمنطقة بأسرها.

ومن أهم فوائد هذه المبادرة أنها تلزم وزارة الدفاع بالاستثمار في تطوير وتحسن قدراتها؛ مثل تقوية المنشآت الدفاعية الأمريكية وتعزيز دفاعاتها الصاروخية الموكلة بحماية وجودها العسكري في غوام واليابان وكوريا الجنوبية.

وإلى جانبِ تعزيز القدرات الدفاعية، على إدارة بايدن أن تعمل على بناء شبكة من الشراكات الأمنية مع دول المنطقة، وتعزيز تلك القائمة حالياً. بالطبع، لن يشكل حلفاء الولايات المتحدة حلفاً مثل حلف شمال الأطلسي – الناتو؛ ولكن زيادة الترابط بينهم سوف ترسل إشارات إلى بكين بشأن الثمن الباهظ لاستخدامها للقوة، واستعداد الولايات المتحدة وحلفائها للرد. وهذا يعني أنه في حالة اليابان مثلاً، يجب رفع مستوى علاقات القيادة والسيطرة، بحيث تتمكن القوات الأمريكية واليابانية من التخطيط والتدرب والتجهيز، كما ينبغي لها أن تفعل في حالة الطوارئ الحقيقية.

ومع أن إدارة بايدن قد لا تنجح في إنهاء التوتر السياسي بين سيول وطوكيو، ولكنها تستطيع تشجيعهما على تعاون أكبر في تبادل البنى التحتية وبناء القدرات العسكرية؛ بهدفِ التقليل من احتمال تعرضهما لعمل عسكري من الصين. كما يجب أن تستفيد إدارة بايدن من القلق الهندي المتزايد بعد الهجمات الصينية على القوات الهندية في جبال الهيمالايا، وإشراك الهند بشكل أكبر في رباعية التعاون الأمني بين أستراليا، واليابان، والولايات المتحدة، والهند. ويمكن للإدارة أن تعطي رسائل مبكرة بدعمها هذه الترتيبات من خلال دعوة وزراء دفاع هذه الدول لمتابعة اجتماع وزراء خارجيتها، الذي انعقد في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، كما أن التعاون الاستخباراتي بين دول الرباعي سيكون خطوة منطقية أيضاً.

إن هذه التحالفات هي أقوى أوراق الولايات المتحدة في آسيا، ولذلك أخذت بكين تستهدف حلفاء الولايات المتحدة؛ مثل أستراليا وكوريا الجنوبية، بالعقوبات الاقتصادية كوسيلةٍ لتخفيف دعمها للولايات المتحدة في سعيها لتحقيق التوازن مع القوة الصينية. ويمكن للرباعية أن يتخذ خطوة جريئة بأن يعلن عن آلية استجابة لمساعدة الدول التي تقع تحت العقوبات الصينية، سواء بتقديم التعويضات المالية أو إعداد القضايا ودعمها أمام منظمة التجارة العالمية؛ وإذا نجحت هذه المبادرة، فإنها سوف تكبر حيث قد ترغب دول آسيوية أخرى في الانضمام إليها لتكون جزءاً من اتفاقية تحميها من التعديات الصينية.

كما يجدر أيضاً بإدارة بايدن أن تعزز الدعم الدولي لتايوان الديمقراطية، والعمل لإنشاء نظام وبيئة داعمة لتايبيه تقلل من تعرضها إلى الإكراه الصيني، وتسهم في حل المشكلات الإقليمية، مع حفظ كرامة تايوان واحترامها الذي تستحقه. ويجب أن تبحث عن خيارات أخرى غير عسكرية للحلفاء والشركاء لمساعدة تايبيه في مواجهة تكتيكات التخويف التي تتبعها الصين تجاهها، وتشجيع بقية دول العالم على الاعتراف بدور تايوان في الشؤون العالمية.

وأخيراً، فإن دول المنطقة تعاني للتوفيق بين رغبتها في محاربة الهيمنة الصينية ونفورها من الاختيار بين واشنطن وبكين. وعلى مدى 4 أعوام، عزّز الرئيس ترامب من الرغبة الأولى؛ ولكنه أهمل الجانب الآخر من المعادلة ما أدى إلى زيادة تهميش واشنطن، بينما كان ضغط الصين يتزايد. ولمواجهة هذا الواقع، يجب على الإدارة الجديدة اتخاذ خطواتٍ كبيرة في آسيا بهدف تشكيل المحيط الإقليمي حول الصين، وتبرز عودة الولايات المتحدة ونشاطها وإبداعها في المنطقة.

حاولت إدارات سابقة أن تنطلق في سياساتها الآسيوية من بناء تعاون إيجابي وعلاقات بناءة مع الصين، ولكن زمن هذا النهج قد ولى. وبدلاً من ذلك، يجب أن تركز الولايات المتحدة على بناء موقع جديد للقوة والتفوق في المنطقة المحيطة، وأن تتخذ خطوات جريئة الآن وعلى الفور.

المصدر: فورين أفيرز – تعريب: كيو بوست.

مصدر الصور: الشرق – اليوم السابع.

موضوع ذا صلة: أمريكا عادت لقيادة العالم*

مايكل غرين

أستاذ الدراسات الآسيوية في جامعة جورج تاون، مدير الشؤون الآسيوية السابق في مجلس الأمن القومي بين عامي 2004 – 2005

إيفان ميديروس

أستاذ الدراسات الآسيوية في جامعة جورج تاون، مدير الشؤون الآسيوية السابق في مجلس الأمن القومي بين عامَي 2013 – 2015