تمكنت الصين بجدارة خلال الأعوام الأخيرة من تسخير قدرات الاقتصاد الرقمي لتطوير إنتاجها وتحسين مردوديته، وها هي اليوم تتجه إلى توظيف هذه القدرات من أجل ترصُّد مواطنيها في المجتمع، تتبعهم مع أسرهم بل تتبعهم مع ذواتهم. فكيف تمكّنت الصين من الوصول إلى ذلك؟

لما كانت الشركات الصينية الكبرى، على غرار “علي بابا”، من ضمن أولى الشركات التي أطلقت نظام تقويم المستهلكين لدواعي تجارية بحتة، غايتها التحفيز نحو تحسين العادات الاستهلاكية للمواطن الصيني، لم تتمالك الحكومة الصينية نفسها فاستغلت الفرصة وتسللت إلى بنوك المعطيات الخاصة لتبدأ بتحويل استعمالها من الغرض التجاري إلى الغرض الرقابي، والأمر الذي سهَّل ذلك في الحقيقة هو خضوع جميع الشركات والمؤسسات الموجودة في الصين، التي طورت أنظمة تقويمية ذات غايات تجارية، إلى تراخيص البنك الشعبي الصيني، وذلك ما أتاح للحكومة امتياز الحصول على جميع المعطيات المخزنة في بنوك معطيات هذه الشركات لاستعمالها بعد ذلك في خدمة السياسة العامة للبلد.

تُسخر الجهات الحكومية الصينية التدفق الهائل لمعطيات مواطنيها لتشييد وتمتين نظام الرصيد الاجتماعي الذي يقوم على جمع المعلومات المستقاة من التدفق اليومي للمعطيات الرقمية عن الأفراد والشركات. وموضوع جمع المعطيات واستعمالها لغايات مختلفة ليس شأناً خاصاً بالصين فحسب. إذ يعزى تعميم استعمال تقنيات الرصد الرقمي للمعطيات عبر العالم أساساً إلى شركة “غوغل” قبل أن يعمم استعماله في الحقبة الأخيرة عبر كامل الوسائط الرقمية.

حيث تواصل تطوير الرصد الرقمي في كنف كبرى شركات الاقتصاد الرقمي المعروفة اختصاراً بـ GAFAM التي طورت أساليب تقنية مكنتها من الرصد الدقيق لمعطيات المستعملين وتوظيفها لتعزيز الاستجابة التقنية السريعة، من جهة، وتخصيص الإعلانات على المقاس، من جهة أخرى.

وقد أضحى جميع المستعملين اليوم عرضة لهذا النوع من العمليات الرصدية التي عالجتها الباحثة الأمريكية شوشانا زوبف – Shoshana Zuboff، في مؤلفها الموسوم بـ “عصر الرقابة الرأسمالية” الصادر مؤخراً عن دار قضايا الشأن العام، وتسمح هذه الرقابة برصد، وجمع وتوظيف معطيات المستعملين التي تتدفق في كل لحظة وحين نتيجة الاستعمالات اليومية المجانية لمختلف التطبيقات، وقد أضحى للمعطيات قيمة معتبرة في عالم التجارة والأعمال اليوم، حيث أصبح الاستحواذ على أكبر قدر من المعطيات مرادفاً لمضاعفة الأرباح التجارية.

لكن ما علاقة الرصد الرقمي للمعطيات بنظام الرصيد الاجتماعي في الصين؟

يُكافئ هذا النظام ويشجع سلوكيات الأفراد والشركات التي تتفق مع منظور السياسة العامة للحكومة في الصين، ويتيح لهم بالتالي امتياز الاستفادة من عدة خدمات مجانية سواء كانت تجارية، مالية أو صحية، كما ييسر تعاملاتهم مع الجهات الخاصة والعامة ويمنحهم أولوية الاستفادة والوصول إلى أحسن الخدمات. أما الأشخاص المسجلين بأرصدة سلبية، فسيكونون عرضة للتقييدات التي قد تطال حياتهم الخاصة.

لكن ما نوع المخالفات التي قد تُسجل في نظام الرصد الاجتماعي؟

تصرفات على غرار التأخر في دفع الديون أو الغرامات أو المخالفات المسجلة في وسائل النقل قد تجعل صاحبها يدرج في القائمة السوداء، ويكون بالتالي عرضة لعقوبات اجتماعية قد تمس بحقوقه الأساسية كالحق في التنقل والحق في العمل والاستثمار وغيرها.

ماذا عن المعطيات التي تتلقفها التطبيقات الذكية ومحركات البحث الرقمي عن المستخدم؟

إن التطبيقات والوسائط التي يستعملها الفرد مجاناً قادرة على رصد دقائق المعلومات والسلوكيات فهي ليست غافلة عن مكنونات نفسه، وأذواقه ومستواه الاجتماعي والعلمي، وعلاقاته، وتقاسيم وجهه، ونبرات صوته، ودقة كتاباته ومواعيده وغيرها.

قد يسأل سائل أيضاً هل نحن عرضة للتجسس فعلاً، أيعقل أن تُسَجل وتخزن كل معلوماتنا رغماً عنا؟

في حقيقة الأمر، نحن لسنا عرضة للتجسس، فعمليات رصد المعلومات، وجمعها وتوظيفها من أجل تطوير الخدمات والتطبيقات الذكية يندرج ضمن شروط الاستعمال التي يوافق عليها كل مستعمل قبل أن يستخدم التطبيق، ومصدر دهشة المستخدم يكمن أساساً في غفلته في الغالب عن محتوى هذه الشروط بالرغم من موافقته على شروطها مسبقاً.

وحقيقة الأمر أنه قد تمَّ خلال الحقب الأخيرة استغفال جمهور المستخدمين من قبل شركات الاقتصاد الرقمي بهدف ترصُّد معطياتهم بحرية، إذ غالباً ما تعمد إلى إخفاء نوافذ التصريح أو تقوم بدس بند الرصد الرقمي ضمن قوائم الشروط التي تحوي عشرات الصفحات الأمر الذي يجعل مهمة الوصول إليها معقدة.

وقد استجابت عدة دول على غرار دول الاتحاد الأوروبي للمعضلة والفراغ القانوني الذي أخفى حقيقة الرصد الرقمي عن الجمهور فأصدرت التنظيم العام لحماية المعطيات في دول الاتحاد المسمى اختصاراً بـ GDRP، وهو من أحدث التشريعات التي جاءت بمنظومة متكاملة من أجل إلزام شركات الاقتصاد الرقمي بالطلب الصريح لموافقة المستخدم مع إدراج الغايات من وراء جمع المعطيات بصفة واضحة كي يطَّلع عليها المستخدم ابتداء قبل أن يتاح له الولوج إلى الخدمة، ذلك بالإضافة إلى إلزام شركات الاقتصاد الرقمي بجملة من الالتزامات من أجل حماية الحياة الخاصة لمواطني الاتحاد الأوروبي.

وبالرغم من ذلك، تبقى قواعد الـ GDRP تتطلب المراجعة والتحيين الدائمين من أجل الحفاظ على الحق في الخصوصية.

وفي غياب هذا النوع من التشريعات في الدول الأخرى على غرار الصين، فإن رصد مصادر المعطيات الرقمية يبقى مثاراً لشهيتها، حيث لم تتوان عن الشروع في التأسيس لأنظمة رصدية رقابية تأخذ من عمليات رصد المعطيات أساساً لها، وتهدف إلى تعزيز قبضة الحكومة على المجتمع.

المصدر: ساسه بوست.

مصدر الصورة: ياهو فرنسا.

موضوع ذا صلة: شبكات الجيل السادس.. هل تغير اتجاهات التنافس العالمي؟

خالد مهيدي

باحث دكتوراه في القانون الدولي