مأمون خلف*

شهد لبنان أزمات متتالية بلا انقطاع في العقدين الماضيين، من أبرزهاإغتيال رفيق الحريري، رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، وصعود إبنه سعد على الساحة السياسية اللبنانية ليتولى في نهاية العام 2009 رئاسة الوزراء، وبعدها أطلق أولى حملاته في واشنطن.

وبالنظر في ملفات لبنان وجماعات الضغط في واشنطن تظهر انعكاسات الواقع السياسي اللبناني وانقساماته على أنشطة اللبنانيين هناك، مثل الحريري وجبران باسيل، وزير الخارجية السابق، وجهات أخرى. وفي هذا التقرير نستعرض جهود آل الحريري في أمريكا للضغط السياسي، والتنسيق الاقتصادي والأمني مع الحكومة الأمريكية.

أزمات لبنانية متتالية

كانت الأعوام الخمسة اللاحقة على إغتيال الرئيس رفيق الحريري في بيروت، العام 2005، ثقيلة على أسرته وحبلى بالأحداث على المستوى اللبناني، فقد تسارعت التطورات عقب الاغتيال بإنسحاب سوريا من لبنان بعد قرابة الشهرين من الحادث، منهية 29 عاماً من تواجدها الطويل فيه.

وما أن انتصف العام 2006 الذي شهد إنشاء المحكمة الدولية للتحقيق في إغتيال الحريري، حتى اندلعت “حرب تموز”، بين حزب الله وإسرائيل، وزاد من ثقل ذاك العام على اللبنانيين موجة واسعة من الاغتيالات التي اقتنصت شخصيات، مثل الصحفي سمير قصير والقيادي الشيوعي جورج حاوي وجبران غسان تويني وبيار أمين الجميل، وجميعهم مناهضون للوجود السوري في لبنان، فيما نجا آخرون من محاولات الاغتيال، ومنهم المحقق في قضية اغتيال الحريري، سمير شحادة.

لم يكن العام 2007 ليمهل لبنان واللبنانيين كثيراً، خصوصاً بعد أن أصدرت المحكمة الخاصة بلبنان لمحاكمة المسؤولين مذكرات توقيف بحق عناصر من حزب الله، الذي رفض تسليمهم ونفى أية علاقة له بالاغتيال. وزاد من توتر البلاد، التي كانت ولم تزل تعاني من آثار العدوان الإسرائيلي عليها، قراراً لمجلس الوزراء اللبناني بمصادرة شبكة الإتصالات التابعة لسلاح الإشارة الخاص بحزب الله في ذلك العام.

وفي خضم تلك الأحداث لم يكن أبناء الراحل رفيق الحريري بمنأى عن دقائقها وتفاصيلها. ففي العام 2009، تمكن سعد الحريري، الذي تسلم العام 2005 دفة قيادة “تيار المستقبل” الذي أسسه والده العام 1995 بوصفه جمعية سياسية، من تحويل التيار لتنظيم سياسي رسمي ويتمكن من الفوز بـ 35 مقعداً نيابياً من أصل 128 مقعداً العام 2009، أي ما يفوق ربع مقاعد المجلس النيابي.

كما نجح سعد الحريري بتشكيل حكومة، بعد مفاوضات شاقة مع حزب الله، لم تدم طويلًا إذ بدأت تنهار، في العا 2010، بعد انسحاب وزراء الحزب وموالين له من الحكومة نتيجة لعجز الأطراف المختلفة عن تخطي الأزمة الناتجة عن عمل المحكمة الدولية المتعلقة باغتيال الحريري. كما خرجت آنذاك تسريبات أولية تفيد بإدانة أعضاء من حزب الله تورطوا في العملية.

آل الحريري يقصدون واشنطن

في ظل التحديات السياسية التي واجهها الحريري الإبن داخلياً وفي يوليو/تموز 2010 بعيداً على الجانب الآخر من العالم في الولايات المتحدة، سجّل أول عقد بين مجموعة “ميلينيوم للخدمات”، المملوكة لآل الحريري، وشركة أمريكية للضغط السياسي بإسم “دواني موريس للشؤون الحكومية”، استمرت العلاقة لعام واحد كما عمر الحكومة الأولى التي تولاها سعد الحريري، وتواصلت خلال الشركة خلال العام مع جهات حكومية أمريكية لصالحه.

وينص العقد المسجّل على تقديم مزيج من الخدمات الخاصة لتمثيله أمام الكونغرس والحكومة الأمريكية، إلى جانب العمل على “شرح دوره في السلام والاستقرار في لبنان والشرق الأوسط لصانعي السياسة الأمريكية”. كما ينص العقد على أهداف أخرى تتعلق بلبنان، مثل “تعزيز الوعي الأمريكي بأهمية لبنان للولايات المتحدة وأهمية جيشها في استقرار البلاد، والعمل على خلق مجموعة عمل سياسي لبنانية – أمريكية”.

تشي بنود الاتفاق والنشاطات المسجلة في وزارة العدل الأمريكي، التي قامت بها الشركة لصالح سعد الحريري، بخطوط الرجل السياسية الخارجية والدبلوماسية إبان رئاسته لمجلس الوزراء اللبناني. فخلال عام، تقاضت الشركة 160 ألف و381 دولاراً، بواقع 25 ألف دولار شهرياً مقابل تنسيق لقاءات بين فبراير/شباط العامين 2010 و2011، حيث كان لافتاً تركيزها على شخصيات عدة من مكتب لبنان في وزارة الخارجية الأمريكية، أو مكتب لبنان بمجلس الأمن القومي الأمريكي التابع للبيت الأبيض.

فمثلاً، عقدت الشركة لقاءات مع دان شابيرو، مدير قسم الشرق الأوسط آنذاك في مجلس الأمن القومي الأمريكي وتسلم في أغسطس/آب 2011 منصب السفير الأمريكي لدى إسرائيل حتى العام 2017، ويعمل باحثاً في مركز الدراسات الأمنية الإسرائيلية في تل أبيب، واجتمعت الشركة مع دينس روس وهاجر حجار من مكتب لبنان بالمجلس، وتواصلت مع كل من نيكول شامبين وسوزان ريجز، من مكتب لبنان بوزارة الخارجية الأمريكية، بالإضافة للقاءات مع أعضاء من الكونغرس الأمريكي وذوي أصول لبنانية، مثل داريل عيسى وتشارلز بستاني، على الأغلب بغاية خلق مجموعة العمل السياسي اللبنانية – الأمريكية.

توجت الشركة نشاطاتها بتمكنها من تنسيق زيارة سعد الحريري للقاء الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما، في مايو/أيار 2010، وجاءت الزيارة خلال رئاسة لبنان لمجلس الأمن الدولي وقتها، وعقب اتهامات إسرائيلية لإيران بتزويد حزب الله بصواريخ “سكود”.

لاحقاً في يوليو/تموز، تمكنت الشركة من اللقاء بمجموعة من موظفي مكاتب الشيوخ الأقوياء في الكونغرس الأمريكي مثل السيناتور الديمقراطي جون كيري، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، والسيناتور الجمهوري جون ماكين، وزعيم الأقلية في لجنة الخدمات المسلحة.

لم تكن هذه الجهود ممكنة لولا اسم تعاقدت معه الشركة خصيصاً لمساعدتها على تحقيق وتنفيذ أجندة رئيس الوزراء اللبناني، وهو أمل مدللي، التي عملت خلال هذا العام مستشارة سياسات لسعد الحريري ورئيس الوزراء الأسبق فؤاد السنيورة، المحسوب على تيار “14 أذار” وحليف الحريري، ورافقتهما في لقاءات مع مسؤولين بوزارة الخزانة الأمريكية وآخرين من وزارة الخارجية في البيت الأبيض.

أمل مدللي.. حارسة مصالح الحريري في أمريكا

هي سيدة لبنانية في العقد الخامس من عمرها. في العام 2010، تولت ملف آل الحريري لحساب شركة “دواني موريس”، حصلت على جنسيتها الأمريكية العام 2009 بعد سنوات طويلة قضتها في الدراسة والعمل في الولايات المتحدة، وتعود معرفة أمل مدللي بآل الحريري إلى وقت طويل، منذ بدأت مسيرتها المهنية مع الحريري الأب، في العام 1998 حتى العام 2000، باعتبارها ناطقة رسمية بإسمه للصحافة الأجنبية ورئيسة مكتبه الصحافي الدولي، ومن ثم مستشارة له في السياسة الخارجية حتى اغتياله العام 2005.

وعندما احتاج سعد الحريري لمن يرعى مصالحه ويسهر على علاقاته بأمريكا، لم تجد الشركة أفضل من أمل مدللي للعمل على تنفيذ بنود الاتفاق، ويبدو أن التجربة مع شركة “دواني موريس” لحساب سعد الحريري قد دفعت أمل، وهي مراسلة صحافية سابقة لعدد من وسائل الإعلام الهامة، لتؤسس شركة ضغط سياسي وخدمات استشارية في واشنطن للعمل لحسابها وحساب آل الحريري مباشرة دون وسيط، فالوثائق تشير لتسجيل شركة “مجموعة بريدجز الدولية”، في مطلع العام 2011، والتي تملكها وتديرها. وعلى مدار سبعة أعوام لاحقة، ستتكفّل أمل وشركتها برعاية مصالح عائلة الحريري السياسية والاقتصادية على الساحة الأمريكية بنعومة دبلوماسية تسلحها علاقات فولاذية بنتها مع الوقت وتمكنت من تطويعها لخدمة العائلة.

جاء العقد الموقع بين الشركة، التي تديرها أمل، ومجموعة “ميلينيوم” المملوكة لآل الحريري بأهداف محددة ستعمل عليها في الأعوام اللاحقة؛ اقتصادية بالدرجة الأولى من خلال “تحديد الشركاء الإستراتيجيين لمجموعة ميلينيوم للخدمات في الولايات المتحدة وإيجاد فرص الاستثمار والأعمال”، وتتسع المهام المطالبة بها لتشمل الضغط السياسي والتمثيل أمام الكونغرس وجهات حكومية وإعلامية أمريكية.

وتشير الوثائق الأولى للشركة لكثافة في العمل الدبلوماسي والسياسي، حتى ديسمبر/كانون الأول 2012، لصالح أعضاء “تيار المستقبل”، المحسوب على آل الحريري وحلفائهم، إذ يبرز إسم محمد شطح، السفير اللبناني السابق في واشنطن ومستشار التيار للشؤون السياسية. فقد عملت الشركة على تنسيق لقاءات مكثفة له على فترتين زمنيتين مختلفتين مع مديري مكتب لبنان ومكتب إيران في مجلس الأمن القومي الأمريكي، ومع مسؤولين ومستشارين عدة في وزارة الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأوسط، وأكثر من لقاء مع أعضاء من مجلس الشيوخ في لجنة الشؤون الخارجية التي كان يرأسها آنذاك السيناتور جون كيري.

ويبرز على فترتين مختلفتين كذلك اسم رئيس الوزراء اللبناني الأسبق فؤاد السنيورة، الذي نسقت له الشركة لقاءات مع أكثر من مسؤول في وزارة الخارجية الأمريكية، ومع آخرين في جهات أمنية كنائب مستشار الأمن القومي، دينيس ماكدونو، ومع وكيل شؤون الإرهاب والاستخبارات المالية في وزارة الخزانة الأمريكية، ديفيد كوهين، ومع كولن كاهل، مستشار الأمن القومي لنائب الرئيس الأمريكي جو بايدن. ويرد ذكر تنسيق لقاء لباسم الشاب، النائب في البرلمان اللبناني، مع لاري سيلفرمان نائب مساعد وزيرة الخارجية لشؤون الشرق الأوسط بخصوص قضايا لبنانية وشرق أوسطية.

حتى منتصف العام 2015، قدمت الشركة خدماتها لنادر الحريري، العقل الاقتصادي الهام في العائلة، وشملت لقاءات مع عدد كبير من موظفي ومسؤولي وزارة الخارجية في أقسام ومكاتب مختلفة، من ضمنها عدة لقاءات مع نائب مساعد وزير الخارجية لدبلوماسية الطاقة، عاموس هوشستين، وأعضاء آخرين من لجنة الطاقة والتجارة في مجلس الشيوخ التي كان مايك بومبيو (وزير الخارجية الأمريكي السابق) عضواً فيها، وفي لجنة الاستخبارات آنذاك، كما نسقت الشركة لقاءات أخرى مع أعضاء لجان الشؤون والعلاقات الخارجية بالكونغرس.

في ذات الوقت، كان لافتاً حضور البعدين الأمني والعسكري في لقاءات سعد الحريري إلى جانب لقائه بمسؤولين في مناصب مختلفة بوزارة الخارجية، إذ التقى بأعضاء من لجان شؤون المحاربين القدامى، والأمن الداخلي، والخدمات المسلحة والاستخبارات، والتقى مع سوزان رايس، مستشارة الأمن القومي للرئيس أوباما، ونائب وزير الدفاع كريستين ورموت، ورئيس لجنة الخدمات المسلحة السيناتور البارز جون ماكين، إلى جانب السيناتور توم كوتون وأنجوس كينج من لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ.

جاءت نشاطات الأمين العام لـ “تيار المستقبل” أحمد الحريري، التي صرّحت بها الشركة حتى أبريل/نيسان 2016، أكثر شمولًا من تحركات سابقيه إذ تنوعت لقاءاته بين السياسي والاقتصادي والأمني.

سبعة أعوام من الضغط

شهدت الفترة بين منتصف العام 2012 وحتى نهاية العام 2014 حجم إنفاق أعلى من معدلاته المعتادة على خدمات الضغط السياسي، نتيجة التقلبات السياسية التي واكبت من جهة انتفاضات وثورات “الربيع العربي”، وانخراط حزب الله وإيران في الصراع السوري.

خصوصاً منذ العام 2013، العام الذي أعلن فيه حزب الله رسمياً تواجد مقاتليه إلى جانب النظام السوري ضد المعارضة، حتى العام 2018 الذي انتهى فيه عقد الشركة مع مجموعة “ميلينيوم” للخدمات، تشهد سجلات الشركة تسجيل نشاطات مكثفة لآل الحريري، سعد وابني عمته نادر الحريري، مستشار ومدير مكتب رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري سابقاً، وأحمد الحريري، الأمين العام للتيار في ذلك الوقت.

هكذا مرت سبعة أعوام من المصالح اللبنانية والحريرية في الولايات المتحدة برعاية أمل مدللي، التي تظهر أنشطة الشركة قوتها في عالم الضغط السياسي والشؤون الحكومية. وتكشف عن مدى تشابك علاقاتها من خلال نجاحها في تنسيق وترتيب تلك اللقاءات مع شخصيات بارزة في وقت فيه العديد من شركات الضغط القوية التي تتنافس على حجز مواعيد مع الفاعلين السياسيين الأهم في واشنطن لصالح زبائنهم رغم ازدحام جداولهم.

أخيراً، تكشف وثائق شركتها أنها تقاضت 726 ألف و650 دولاراً خلال تلك السنوات، ولتنتهي مع ذلك مسيرة أمل مع الضغط السياسي – ولو مؤقتاً – بدخولها السلك الدبلوماسي، وانتقالها إلى العمل سفيرة ومندوبة دائمة للبنان في الأمم المتحدة، منذ ديسمبر/كانون الأول 2018. ومع خروج أمل من المجال، لم تبدأ عائلة الحريري عقوداً جديدة مع شركات ضغط سياسي أخرى في الولايات المتحدة.

*باحث فلسطيني – إيطالي.

المصدر: ساسه بوست.

مصدر الصور: العربي الجديد – إندبندنت عربية – النشرة

موضوع ذا صلة: استقالة الحريري.. استقالة سعودية إعداداً وإخراجاً