مثّلت كوبا ولا زالت حالة فريدة لدولة “المواجهة” لسياسة الهيمنة الأمريكية، وحالة نادرة لبقاء نظام الحزب السياسي الواحد المغاير لنموذج الديمقراطية الغربية – حتى داخل كافة دول أمريكا اللاتينية – وأيضاً نموذجاً لاستمرار الاقتصاد المركزي. وعلى الرغم من أن ذلك النموذج وتلك الحالة قد ارتبطت على مدار 6 عقود بإسم “كاسترو”، إلا أنه يخطئ من يتصور أن ما حدث ولا يزال يحدث في كوبا هو وضع مرتبط بتوجه عائلة كاسترو ينتهي بموت “فيدل” أو بتقاعد أخيه “راؤول”.

يأتي احتفال عيد العمال، 1 مايو/أيار 2021 في كوبا بدون وجود اسم كاسترو على رأس الحزب الشيوعي صاحب السلطة الأعلى في الدولة لأول مرة منذ 60 عاماً، وكذلك من خلال الاحتفال الافتراضي للنقابات العمالية والمهنية على شبكة الإنترنت في ظل محاذير كثيرة من التجمهر في الشوارع كما جرت العادة في مثل هذا اليوم نظراً للمخاوف من جائحة “كوفيد – 19”. كما أن هذا العيد المهم في الجزيرة الشيوعية يأتي هذا العام وسط تساؤلات عديدة ومحاولات للبحث والتنبؤ بمستقبل الدولة ومواطنيها البالغ عددهم نحو 11.2 مليون نسمة. ومن هذه التساؤلات: ماذا حدث في كوبا؟ وما هو حجم التغير الذي أحدثته قرارات المؤتمر الشيوعي الثامن الذي عقد في النصف الثاني من شهر أبريل/نيسان 2021؟ ومن هو الرئيس الكوبي ميغيل دياز كانيل، وماذا يعني وجود رجل ولد بعد الثورة على رأس السلطة في كوبا، وما هو المستمر والمتغير في النظام السياسي الكوبي بعد غياب الأخوين كاسترو، وما هي التغيرات الاقتصادية المتوقعة، وإلى أى مدى سيغير الرئيس الأمريكي جو بايدن من سياسات سلفه دونالد ترامب التعسفية تجاه كوبا؟

ماذا حدث في كوبا؟

كوبا واحدة من آخر 5 دول شيوعية في العالم، ومن ثم يعتبر مؤتمر الحزب الشيوعي – الحزب الأوحد في البلاد – هو الحدث الأهم الذي يأتي مرة كل 5 أعوام. وقد جاء المؤتمر الثامن الذي بدأ انعقاده في 16 أبريل/نيسان 2021 واستمر لمدة 4 أيام تحت شعار “مؤتمر الاستمرارية”، في إشارة للتأكيد على أن نقل السلطة من راؤول كاسترو لدياز كانيل لا يعنى بأي حال من الأحوال تغييراً في طبيعة النظام السياسي أو الإيديولوجي أو الاقتصادي لكوبا.

يوم الإثنين 19 أبريل/نيسان 2021، تم انتخاب الرئيس الكوبي ميغيل دياز كانيل (60 عاماً) أميناً عاماً للحزب الشيوعي خلفاً لراؤول كاسترو (89 عاماً). ودياز كانيل سبق وأن خلف راؤول كاسترو في منصب رئيس الدولة، العام 2018؛ وبهذا، يصبح دياز كانيل هو صاحب السلطتين الأعلى في البلاد. وخلال المؤتمر الذي عقد في 18 أبريل/نيسان، قام 300 مندوب من الحزب بانتخاب “اللجنة المركزية” للحزب والمكونة من 114 عضو، ومن ثم انتخبت اللجنة المركزية 17 عضواً ليشكلوا أعلى سلطة سياسية في الحزب وهو “المكتب السياسي”. ومن ثم، قام المكتب السياسي باختيار الأمينين الأول والثاني للحزب، حيث يمثل الأمين الأول أعلى سلطة سياسية في البلاد حتى أهم من منصب رئيس الدولة. ومنذ المؤتمر الأول للحزب جمع فيديل كاسترو بين المنصبين، ثم تلاه أخوه الأصغر في هذا النمط من الحكم، إلى أن حدث التغيير الأول العام 2018 عندما احتفظ راؤول بمنصب الأمين الأول في الحزب الشيوعي وانتقل منصب الرئيس الكوبي لدياز كانيل ولكن بعد انتهاء المؤتمر الثامن للحزب، أبريل/نيسان 2021، جمع دياز كانيل بين المنصبين. وبالنسبة للشعب الكوبي، فهي المرة الأولى التي يختفى اسم كاسترو من أي منصب سياسي رفيع في الدولة، على الأقل هذا يحدث لأول مرة لكافة المواطنين دون سن الـ 70 تقريباً.

يأتي حدث التغيير في كوبا في الذكرى الـ 60 لأحداث أبريل/نيسان 1961؛ تلك الأحداث التي شهدت إعلان قائد الثورة فيدل كاسترو كوبا دولة اشتراكية، وما تلا هذا الإعلان من هجوم عسكرى خلال 24 ساعة من قوات كوبية معارضة مدعومة بقوات أمريكية على “بلايا خيرون” أو المعروفة بخليج الخنازير. تلك الأحداث التي كانت بمثابة إعلاناً رسمياً قوياً لبداية الصراع الأمريكي – الكوبي، بل والحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي والتي وصلت إلى قمتها في نصب الصواريخ النووية السوفيتية في خليج الخنازير عقب إجلاء قوات المعارضة الكوبية.

اختار الحزب الشيوعي التاريخ نفسه ليعقد مؤتمره الثامن الذي ينقل فيه السلطة إلى جيل جديد ولد أثناء أو بعد هذه الأحداث، جيل لم يكن شريكاً في الثورة على باتيستا، حليف الولايات المتحدة، ولم يكن جزءاً من صراعات الحرب الباردة والساخنة طوال الستينيات والسبعينيات. أراد الزعماء التاريخيون الذين تتجاوز أعمارهم الثمانين أو التسعين عاماً أن يقدموا رسالة إلى الشعب الكوبي والإدارة الأمريكية والعالم بأن الثورة الكوبية التي اندلعت منذ 6 عقود لم تكن حدثاً شخصياً ولم تستمر عملاً عائلياً، بل كونت هوية كوبية وذاكرة وطنية وثقافة سياسية واحدة بين جموع الشعب الكوبي الذي يشارك في الانتخابات بنسبة تصل إلى 90% برغم كون المشاركة اختيارية، وهو الأمر الذي يشير بقوة إلى أن ما يحدث في كوبا هو استمرار للنموذج الذى صنعته ثورة العام 1959 ولكن مع تلمس بعض التغيرات والتطورات التي بدأت أولى خطواتها منذ تسلم راؤول كاسترو منصب الأمين الأول للحزب الشيوعي ورئيس البلاد منذ العام 2011، ويمكن الحديث عنها بوضوح الآن بعد مرور 10 أعوام، في عهد الرئيس الجديد دياز كانيل.

النظام السياسي بين التغيير والاستمرار

الثابت في النظام السياسي الكوبي أنه نظام قائم على الحزب الواحد، وهو الحزب الشيوعي. وتعتمد إيديولوجية النظام السياسي في كوبا على أن الحزب الواحد هو الضامن لبناء الوطن الاشتراكي، كما أنه الصلة الفاعلة بين القيادة والمواطنين ومن ثم الطريق الوحيد للديمقراطية. والحزب الشيوعي الكوبي ليس انتخابياً ولا نخبوياً ولكنه يمثل ما يُعرف بطليعة الشعب، ويضم الأفضل من الجماهير ورمز لوحدة الشعب الكوبي وفقاً للدستور الكوبي.

جاء في كتاب “100 ساعة مع فيديل كاسترو” للصحافي غناسيو رامونيه، مقولة لفيديل كاسترو “لتغيير الطابع الاشتراكي الاجتماعي، يجب حصول ثورة جديدة أو ثورة مُضادة، والأمر ليس سهلاً مع شعب مُثقّف وموحّد”.

التغيير الذي حدث في كوبا، أبريل/نيسان 2021، ويتحدث عنه العالم اليوم لم يكن هو الخطوة الأهم في هذا التغيير، بينما كانت الخطوات الأهم هي:

1. انتخابات 2018: شهدت كوبا العام 2018 انتخابات هامة، حيث صوّت فيها نحو 8 ملايين كوبي لهم حق التصويت لاختيار 605 عضو برلماني في الجمعية الوطنية – البرلمان. وأيضاً انتخاب 1265 عضواً للمجالس المحلية، وهي الانتخابات الأولى من نوعها في كوبا. وخلال تلك الانتخابات، قام البرلمان بعد تشكيله باختيار أعضاء مجلس الدولة البالغ عددهم 31 عضواً، ذلك المجلس الذي قام في تلك الفترة باختيار رئيس كوبا الجديد خلفاً لراؤول كاسترو العام 2018 وهو ميغيل دياز كانيل. ومن الجدير بالذكر أن كل هذه الانتخابات محصورة داخل إطار مرشحين من الحزب الشرعي الوحيد في البلاد وهو الحزب الشيوعي في حين أن المعارضة غير مسموح لها بتقديم مرشحين على الإطلاق. بيد أن الجديد في هذه الانتخابات أن المعارضة لم تدعَ إلى مقاطعة الانتخابات بل إنها اتبعت آلية المشاركة بأصوات باطلة.

2. الدستور الجديد في فبراير/شباط 2019: صوّت 84.4% من الناخبين على الدستور الجديد حيث وافق عليه نحو 74%. وقد أقر الدستور استمرار الحفاظ على نظام الحزب الواحد، لكن الجديد هو حذف الفقرة التي كانت تنص على أن الهدف هو بناء “مجتمع شيوعي”، واستبدالها ببناء “نظام اشتراكي”. إذ جاء في الدستور الجديد الاعتراف لأول مرة بالملكية الخاصة وبعض من آليات اقتصاد السوق مثل إدارة مشاريع اقتصادية صغيرة للمواطنين، والسماح بالاستثمار الأجنبي. والمهم جداً في هذا الدستور هو السماح بحرية الإنترنت، واستحداث منصب رئيس الوزراء، ووضع حد للولاية الرئاسية والتي قُدرت بفترتين رئاسيتين فقط كل فترة منهما 5 أعوام، وألا يزيد عمر الرئيس عند توليه المنصب أول مرة عن 60 عاماً. كما أنه لم يعد مسموحاً لرئيس الدولة أن يكون رئيساً لمجلس الدولة ورئيساً لمجلس الوزراء كما كان في السابق.

3. المؤتمر الثامن للحزب الشيوعى أبريل/نيسان 2021: خلال المؤتمر الثامن للحزب الشيوعى، تنحى كل من راؤول كاسترو السكرتير الأول للحزب، وكذلك نائبه خوسيه ماتشادو (90 عاماً) عن منصب السكرتير الثاني للحزب. وصدرت قرارات خلال المؤتمر بتحديد سن عضوية اللجنة المركزية بحد أقصى 60 عاماً و70 عاماً لتولي منصبي السكرتير الأول والثاني. كما تقرر منح النساء والأقليات تمثيلاً واسعاً في الهيئات الحزبية وخاصة القيادية.

أما عن أهمية المؤتمر من الناحية الموضوعية، فقد قسمت أعماله إلى ثلاث لجان: الأولى، ناقشت المحور الاقتصادي والاجتماعي تحت رئاسة رئيس الوزراء مانويل ماريرو. والثانية، ركزت على الحزب نفسه والتوجه الإيديولوجي للمواطنين تحت رئاسة السكرتير الثاني للحزب ماتشادو. والثالثة، تناولت السياسات المستقبلية للبلاد تحت رئاسة الرئيس دياز كانيل. واللجنة الأخيرة ركزت على مستقبل العلاقات الكوبية الخارجية، والتأكيد على أهمية تعزيز العلاقات مع الصين وروسيا وفنزويلا وإيران وفيتنام ونيكاراغوا، وهي في أغلبها دول ذات علاقات متوترة مع الولايات المتحدة. كما أن المؤتمر أكد على أهمية تحسين العلاقات مع الأخيرة على أساس من الاحترام والتعاون بشرط إنهاء الحصار الأمريكي على كوبا.

الأزمة الاقتصادية في كوبا

تتمثل الملاحظة الأهم في توقيت تقاعد راؤول واختفاء اسم كاسترو من قمة هرم السلطة في هافانا، في تردى الأوضاع الاقتصادية بدرجة غير مسبوقة نظراً للمبالغة الأمريكية في فرض الحصار الاقتصادي خلال 4 أعوام الأخيرة – في عهد الرئيس ترامب – من خلال إقرار 242 سياسة عقابية ضد كوبا. فضلاً عن تداعيات أزمة “كوفيد – 19” خلال العام 2020، والذي أدى إلى تدهور قطاع السياحة في الجزيرة الكوبية، وهما العاملان اللذان عطلا خطط راؤول كاسترو الاقتصادية الإصلاحية نحو مزيد من الانفتاح على اقتصاد السوق والتي أيدها الدستور وكان متوقعاً لها أن تؤتى ثمارها بعد انفراج العلاقات الكوبية الأمريكية في نهاية عهد الرئيس السبق باراك أوباما، العام 2015.

إضافة إلى ما سبق ذكره من تغيير في بنود الدستور في المجال الاقتصادي، فقد كان من أهم القرارات الاقتصادية الصادرة العام 2020، السماح للشركات الخاصة بالاستثمار في أكثر من ألفي قطاع بدلاً من 127 قطاعاً فقط، وأيضاً الإصلاح النقدي المتمثل في إلغاء نظام العملتين. لكن واقع الأمر لا يمكن إغفال حقيقة أن سوء الأحوال الاقتصادية في كوبا مرده الأساسي هو الحصار الاقتصادي الأمريكي على الجزيرة على مدار 60 عاماً.

وعلى أي حال ورغم طول فترة الحصار وتفاقم الوضع في عهد الرئيس ترامب وزمن الجائحة، إلا أن الصورة الكلية للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ليست بهذه القتامة في كوبا. فالنمو الاقتصادي يبلغ 3%. كما تحتل الدولة المركز الـ 70 في مؤشر الأمم المتحدة للتنمية البشرية، وتوجد في خانة “مؤشر مرتفع” متقدمة على عدد من دول أمريكا اللاتينية، مثل البرازيل والمكسيك وكولومبيا.

ورغم الحصار الطويل والقاسي، فإن كوبا حققت تقدماً في القطاع الصحي أشبه بالمعجزة نظراً لظروفها. وقد ظهر ذلك بوضوح في مواجهة جائحة “كوفيد – 19″، حيث تمكنت هافانا من مواجهة الوباء محلياً بنتائج لافتة ونسبة وفيات متدنية جداً كما صدّرت كوادر طبية وصل عددهم إلى نحو 1200 إلى خارج حدودها في 22 دولة في أوروبا وأفريقيا لمواجهة الجائحة خلال العام 2020. وتوصلت كوبا مؤخراً إلى لقاح للفيروس أطلقت عليه اسم “عبد الله” نسبة إلى قصيدة بطل الاستقلال الكوبي خوسية مارتي الشهيرة. ومن المتوقع أن تنتج منه 100 مليون جرعة مع نهاية العام 2021.

ونظراً لتاريخ كوبا المتميز في مجال اختراع وصناعة الأدوية واللقاحات، فإن المتخصصين يعولون كثيراً على هذا اللقاح. ومن قبل أزمة فيروس “كوفيد – 19” حققت السياحة العلاجية في كوبا تقدماً وشهرة واسعة. كما أن في كوبا أكثر من 100 ألف طبيب بنسبة 9 أطباء لكل ألف مواطن فضلاً على 485 ألف من العاملين في الرعاية الصحية، وهو ما يجعلها من أعلى دول العالم في نسب الأطباء. فضلاً عن أن الاستثمار الكوبي في القطاع الصحي ليس فقط في عدد وتميز الطواقم الطبية بل أيضاً في مجال البحث الدوائي وإنتاج واختراع الأدوية واللقاحات.

وعلى صعيد آخر، انعكس هذا التفوق الطبي على مستوى الخدمة الصحية المقدمة للمواطنين، فالصحة في كوبا خدمة تقدم لكافة المواطنين دون أدنى تفاوت أو تكلفة. وتقع كوبا رسمياً على قمة قائمة الدول التى تلبي الأهداف الإنمائية التابعة للأمم المتحدة، والتي تركز على المكونات الاجتماعية لخدمات الرعاية الصحية.

الشباب والتكنولوجيا وبوادر التغيير

تأخرت كوبا كثيراً في مواكبة تطور التكنولوجيا وعالم الإنترنت، لكن مع نهاية العام 2018 وصلت خدمة الإنترنت إلى الهواتف المحمولة. ومن المؤكد أن مشاعر من الغضب أو المعارضة كانت تتواجد بين مواطني كوبا لأسباب مختلفة، وليس فقط بين مَن يقومون بالهجرة والاستقرار في الولايات المتحدة، ولكن أيضاً بين أولئك الذين يعيشون داخل الوطن ولديهم قدر من التوافق مع توجهات النظام الكوبي. لكن خدمة الإنترنت سهّلت من ظهور هذا الغضب أو الاحتجاج على أرض الواقع. فظهرت على سطح المشهد منذ سبتمبر/أيلول 2018 حركة “سان إيسيدرو”، وهي حركة معارضة من الفنانين والصحفيين نشأت بالأساس للاحتجاج على القانون رقم 349 القاضي بموافقة وزارة الثقافة مسبقاً على أي نشاط فنى في البلاد.

وفي المقابل، قامت الحكومة باعتقال قيادات بارزة في الحركة مما أدى الى مظاهرات، أغسطس/آب 2019، وتكررت احتجاجات في نوفمبر/تشرين الثاني 2020. لكن الاحتجاجات وعلى الرغم من أن عدد المشاركين بها لا يتعدى العشرات، إلا أن مجرد حدوثها يعد تغيراً غير مسبوق على مدار العقود 6 الماضية. وتعتبر الحركة أن عروضها الفنية تمثل صورة للاحتجاج على تقييد حرية التعبير، في حين وصفها الرئيس دياز كانيل بأنها “عروض إمبريالية لتدمير هويتنا وإخضاعنا مرة أخرى”. وهذه التطورات تشير إلى أن تغيراً ما يتشكل تدريجياً داخل المجتمع، وأن أصواتاً معارضة بدأت تظهر في الشارع تختلف كلياً عن المعارضة التي تشكلت في الخارج وتحديداً داخل الولايات المتحدة منذ الستينيات. فهي معارضة وطنية وتنتمي إلى الدائرة الواسعة للإيديولوجية الحاكمة في كوبا، لكنها تتبنى بعض المطالب ولديها رغبة في التغيير الجزئى، وهو الأمر الذى لم يواجهه الأخوان كاسترو ومطلوب من الرئيس الجديد دياز كانيل مواجهته والتعامل معه.

كوبا ونموذج دولة المواجهة للهيمنة الأمريكية

ليست كل التظاهرات ممنوعة في كوبا، فقد شهدت العاصمة هافانا وغيرها من المدن مظاهرات حاشدة، 26 أبريل/نيسان 2021، بالتزامن مع مظاهرات لكوبيين خارج البلاد للمطالبة برفع الحصار الأمريكي عن كوبا، تحت شعار “No más bloqueo a Cuba” (لا مزيد من الحصار على كوبا). وعلّق الرئيس دياز كانيل على هذه الأحداث على منصة تويتر بقوله “لقد تحول الاحتجاج العالمي ضد الحصار إلى موجة لا يمكن وقفها”.

ويضغط نواب ديمقراطيون داخل الكونغرس الأمريكي على الرئيس جو بايدن لإيضاح موقفه من استمرار العقوبات التعسفية التي فرضها الرئيس السابق دونالد ترامب، والتي ختمها في 11 يناير/كانون الثاني 2021، أي قبل 9 أيام من تركه البيت الأبيض بقرار إعادة كوبا إلى قائمة الدول الراعية للإرهاب مرة أخرى، بعد أن رفعها سلفه باراك أوباما من القائمة، وإعلان حقيقة المسار الذى سينتهجه، وهل سيكون في صف استكمال خط الرئيس أوباما أم ترامب؟

لكن إدارة بايدن حتى الآن ورغم صعوبة الأوضاع الضاغطة بسبب جائحة “كوفيد – 19″، إلا أنها تقول بأن هذا الملف ليس على قائمة أولوياتها في اللحظة الراهنة، ولم يتغير سوى رفع اسم كوبا من قائمة الإرهاب، 15 مارس/آذار 2021. ويبدو أن بايدن – الذي شارك أوباما قرارات عودة العلاقات مع هافانا، حيث كان نائب الرئيس آنذاك – يسعى لتأجيل حل أزمة العقوبات على كوبا حتى ينتهي من المسألة الفنزويلية، وإجبار الرئيس نيكولاس مادورو على الدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة تنهى حكم “الشافيزية” من كراكاس، التي تساندها كوبا في الاستمرار في الحكم.

في واقع الأمر، اعتقد المتابعون لملف العلاقات الأمريكية – اللاتينية، العام 2015، أن الصراع الأمريكي – الكوبي الطويل قد انتهى بعودة العلاقات الدبلوماسية والرفع الجزئي للعقوبات الاقتصادية، لكن التراجع الذى شهده عهد ترامب، فضلاً عن تدخله السافر في الشأن الفنزويلي، وإعلانه الصريح عن مواجهة من أسماهم بـ “الشياطين الثلاثة” (فنزويلا – كوبا – نيكارغوا)، أعاد للأذهان ذكرى عقود طويلة من التدخل الأمريكي في دول الجوار.

فعلى مدار عقود، ظل “مبدأ مونرو” الرامي إلى تأكيد حق الولايات المتحدة في منع الدول الأوروبية من التدخل المباشر فى دول نصف الكرة الغربي، هو الحاكم في المنطقة. ومن ثم ظهر مصطلح “العصا الغليظة” الذي نصّبت به الولايات المتحدة نفسها كـ “شرطي الأميركتين”، وأباحت لنفسها التدخل السافر في شؤون الدول اللاتينية، حيث اعتبرت الأراضي الواقعة بعد حدودها الجنوبية بداية من المكسيك وحتى نهاية مخروط أمريكا الجنوبية مروراً بدويلات أمريكا الوسطى وجزر الكاريبي منطقة نفوذ لها وساحة خلفية لأمنها القومي لا يمكن التهاون في ضمان ولاء حكومات تلك الدول لها.

وبصورة عامة، اعتبرت الولايات المتحدة مسألة وجود أنظمة موالية لها داخل الدول اللاتينية مسألة أمن قومى لا فصال فيه. ولعقود طويلة، عمل جهاز المخابرات ووزارة الدفاع على ضمان هذا الأمر، خصوصاً خلال فترة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي خلال النصف الثاني من القرن الـ 20، حيث حرصت الولايات المتحدة على مواجهة أية محاولات سوفيتية لاختراق هذه المنطقة أو بناء جسور تواصل بين الحزب الشيوعي السوفيتي والأحزاب الشيوعية أو الحركات اليسارية الناشئة في تلك الدول، وهذا ما يفسر السياسة الأمريكية المتعسفة والحصار الطويل المفروض على كوبا منذ نجاح ثورة كاسترو في الإطاحة بالرئيس باتيستا حليف الولايات المتحدة العام 1959، ومساعى الأخيرة للضغط لإسقاط الحكومة الشيوعية في الجزيرة وهو الأمر الذى استمر نحو 55 عاماً، حتى قررت إدارة أوباما إنهاء هذا الوضع العام 2015.

ففي كلمته يوم 17 ديسمبر/أيلول 2014، قال أوباما “لا يمكن أن أصدق أن نظل نفعل نفس الشيء لما يربو على 5 عقود ونتوقع نتيجة مختلفة”، وهو ما يعنى أن فرض الحصار الاقتصادي والتضييق على كوبا طوال تلك الفترة لم يسفر عن إنهاء نظام كاسترو، أو إنهاء النظام الشيوعي فى كوبا، الذي صمد أمام العقوبات الأمريكية واستطاع أن يبقى حتى رغم الصعوبات الاقتصادية الفادحة عقب تفكك الاتحاد السوفيتي. والأكثر من ذلك أن الرئيس الأسبق أوباما برر عودة العلاقات مع هافانا في إحدى المقابلات التليفزيونية بقوله “كانت كوبا دولة صغيرة جداً لم تمثل يوماً تهديداً قوياً لنا أو لأحد حلفائنا”. ولكن بالرغم من ذلك، ما زال الحصار الاقتصادي العنيف يُطوِّق أي تقدم اقتصادي في كوبا ويصعّب من حياة المواطنين، وما زال ملف الصراع الأمريكي – الكوبي ملفاً مفتوحاً أمام الرئيسين الجديدين في الولايات المتحدة جو بايدن ونظيره الكوبي دياز كانيل.

المصدر: مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.

مصدر الصور: Foreign Policy – Japan Times- Newsweek.

موضوع ذا صلة: اليسار اللاتيني: يقع.. ولا يسقط

د. أمل مختار

باحثة في شؤون التطرف والعنف / مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية – مصر.