بدأتُ مقالتي بحكمةٍ مركّزة للإمام علي(ع) عن سابق قصد، فهذه الحكمة ذو عمق نفسي وتربوي بعيد، كما أنها تلخّص بجدارة ما أودُّ الإسهاب في شرحه وبسطه في هذه المقالة.
الموضوع باختصار، يدور حول عقد المنتدى الاقتصادي الدولي الـ 24 في مدينة سان بطرسبورغ الروسية، ما بين 2 – 5 يونيو/حزيران 2021، في هذه الأجواء النفسية المتوجسة بسبب انتشار وباء “كورونا”. فلقد عطّل انتشار هذ الوباء الكثير من النشاطات السياحية والاقتصادية والسياسية، وأثّر سلباً على كافة مناحي الحياة، وبلغت خسارات الشركات والدول أرقاماً كبيرة.
انطلقت روسيا في إصرارها على عقد هذا اللقاء من مسلمة بسيطةٍ، وهي “لا يمكننا أن نبقى مستسلمين للمجهول وأسرى مخاوفنا وأوهامنا، التي تكاد تقضي علينا، بل لا بد من تحريك هذه المياه التي طال ركودها، فلا معنى للانتظار إذا كان القادم مجهولاً بنسبة ليست ضئيلة.”
لن أخوض طويلاً في شراح العلائق المعقدة في ثنائية “الغاية – الوسيلة”، بل سأكتفي بالقول إن أية جهود تُبذَل للوصول إلى هدف ما ستؤدي إلى توليد سلسلة من المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولهذه المتغيرات تأثيرات كثيرة، بعضها قطري وبعضها عابر للأقطار. إلا أنه يمكننا تصنيف جميع هذه التأثيرات إلى ثلاث فئات واضحة:
– تأثيرات مناوئة، وهي تقود إلى مسارات تُبعدنا عن الهدف.
– تأثيرات مواتية، وهي التي تقود إلى مسارات تُقربّنا من الهدف.
– وأخيراً تأثيرات حيادية، وهي تأثيرات لا مواتية ولا مناوئة.
في الحقيقة، لا يمكن اعتبار التقسيم السابق تقسيماً صارماً، فنحن نعيش في عالم دائم التغير؛ لذلك، قد يتحول الجهد المبذول من مناوئ إلى موات أو حيادي، أو قد يحدث العكس، تبعاً للمتغيرات والمستجدات اللاحقة. وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن الحضارة الروسية تتميز عن الأوروبية، التي تقوم على آليات حسابية ميكيانيكية معقدة – mechanistic prudence لبلوغ الهدف، بأنها تقوم على مبدأ العمل بإصرارٍ حتى بلوغ الهدف – objective-oriented work؛ وهذا – في الواقع – فرق جوهري يتطلب التوقف عند خلفياته الفلسفية بحثاً مستقلاً.
من هنا وفي ضوء ما تقدّم، في العقيدة الروسية يكفي تحديد نقطتي البداية والنهاية، أما المسار فيتم رسمه وفق المتغيرات وبخطوات قصيرة؛ وبما أنها قصيرة، فهي عكوسة أو على أسوء تقدير لن يقود تعديلها إلى كارثة، حتى بلوغ نقطة النهاية. هذا ما يجعل المنهجية الروسية في مقاربة جميع المسائل الاجتماعية – الاقتصادية – السياسية أكثر مرونة وأكثر واقعية.
وبالعودة إلى مناقشة المسألة الأساسية، وهي منتدى سان بطرسبورغ الاقتصادي والغاية أو الهدف! فمن نافلة القول، الغاية هي إحراز انتعاش في الاقتصاد الروسي خصوصاً والعالمي عموماً، إلا أن هناك من يعترض بالقول إن هذا الهدف غير واضح وغير محدد. وللرد على هذه النقطة، يمكننا القول إن عقد هذا المنتدى في هذه الظروف الصعبة يعتبر بحد ذاته حدثاً استثنائياً ومبادرة جريئة، فلقد تم تأجبل انعقاد منتدى دافوس الاقتصادي إلى أغسطس/آب من هذا العام (2021) ومن ثم تم إلغاؤه بسبب وباء “كورونا”، وفقاً لما أذاعت وكالة أسوشيتد برس في 17 مايو/أيار؛ إضافة إلى ما سبق، لا يمكن لأي منتدى اقتصادي أن يؤدي إلى إنعاش الاقتصاد، بل تشكل المنتديات جرعة تحريض على طريق الإنعاش الطويل الذي يحتاج إلى جهود لاحقة حثيثة.
في الواقع، يشكل المنتدى سان بطرسبورغ السنوي منصة مفتوحة لالتقاء رجال الأعمال والسياسة، تمكنهم من طرح العديد من القضايا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وتبادل الأفكار حولها، وهذا يشكل بحد ذاته قاعدة متينة للمضي قدماً في حل جميع المسائل العالقة. فعادةً، يفتتح هذا المنتدى الرئيس الروسي مع مجموعة من قادة العالم وممثلي المنظمات الدولية، كما أنه يحظى بمشاركة واسعة للشركات الروسية وغير الروسية.
نتمنى من جميع دول العالم أن تحذو حذو روسيا، بالخروج من هذا السجن “الوهمي” الذي أفرزه وباء “كورونا”؛ فالناس، في طول العالم وعرضه، أنهكتها الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وهي بأمس الحاجة إلى مُتنفَّس وطوق نجاة للمضي قدماً في الحياة.
مصدر الصورة: هيئة المناطق الحرة في قطر.
موضوع ذا صلة: “منتدى سان بطرسبورغ”: نموذج إقتصادي عالمي بدون الدولار؟!
د. آصف ملحم
خبير في مركز الأوضاع الإستراتيجية – روسيا.