يلاحظ المختصون في العمل الأمني أن مجموعات الجريمة المنظمة الناشطة في أوروبا تتأقلم سريعاً مع التطور، وتنخرط في مجموعة متنوعة من الأنشطة الإجرامية، مع انتشار الاتجار بالمخدرات وجرائم غسل الأموال والاحتيال وتهريب المهاجرين والاتجار بالبشر. كما يتضح تكيفها السريع مع جائحة الفيروس المستجد “كورونا”، على سبيل المثال، من خلال زيادة المنتجات الطبية المزيفة والجرائم عبر الإنترنت.

أمام كل تقدم علمي كانت عصابات الجريمة الجنائية العابرة للحدود مواكبة لهذا التقدم، فالعولمة والرقمنة ساعدتا على ازدهار الجريمة المنظمة في أوروبا، وفق تقرير حديث لمجلة “ذي إيكونوميست” البريطانية، حيث أكد أنهما ساهمتا في تشكيل العصر الذهبي للعصابات الإجرامية هناك على مدى 30 عاماً.

وأكد تقرير المجلة أن “الدليل على أن الجريمة المنظمة أصبحت صناعة متنامية في الاتحاد الأوروبي يتمثل، على سبيل المثال، في أن كميات المخدرات التي يتم ضبطها تشير إلى أن الكوكايين يدخل أوروبا بكميات لم يسبق لها مثيل، ويثير ذلك مشاعر القلق بوجه عام لأن الجريمة المنظمة تؤدي إلى تقويض المجتمع وإفساد سياسيين ومسؤولين، ويمكن استغلالها لتمويل الإرهاب.”

وبدورها، فقد حذرت شرطة الاتحاد الأوروبي – يوروبول في منتصف شهر أبريل/نيسان الفائت على تصاعد عمليات الجرمية في معظم بلدان الإتحاد، وأصدرت تقييماً للتهديد الذي تشكله الجريمة المنظمة لأوروبا، ويصحح هذا التقييم وجهة النظر الساذجة – والتعبير لتقرير اليوروبول – التي كانت ترى أنه حينما تصبح أوروبا أكثر ازدهاراً فإن الجرائم الخطرة ستتلاشى.

ما يقلق أوروبا هي الإحصاءات المعلنة للأرباح المحققة بنتيجة العلميات الجرمية، فقد بلغت الإيرادات الجنائية في الأسواق الإجرامية الرئيسية، العام 2019، 1% من الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي أي 139 مليار يورو. ما استدعى اجتماع المفوضية الأوروبية في بروكسل لوضع استراتيجية جديدة للاتحاد لمعالجة تفاقم الجريمة المنظمة.

ووفقاً لمفوضية الاتحاد الأوروبي، تحصل هذه العصابات على الدخل غير المشروع من تسعة نشاطات داخل الاتحاد: الاتجار غير المشروع بالمخدرات، والاتجار بالبشر، وتهريب المهاجرين، والاحتيال، والجرائم البيئية، وتجارة الأسلحة غير المشروعة، وتجارة التبغ غير المشروعة، والجرائم الإلكترونية وجرائم الممتلكات. والجماعات التي تسعى لتحقيق أهداف غير مشروعة والتي تعرف تحت مسمى “الجريمة المنظمة” موجودة في كل مكان. كما أن 80% من الجريمة المنظمة في أوروبا تنشط تحت مظلة بعض الأعمال التجارية القانونية.

كيف تخطط المفوضية الأوروبية لكيفية التصدي لهذا التطور في الحقل الجرمي في أوروبا الحضارة وحقوق الإنسان، وكيف تتم معالجة ظاهرة غسل الأموال القادمة من دول العالم الثالث. وماذا يقصد الأوروبيون بتعبير “العصابات العربية” في مجال الجريمة المنظمة؟

الجريمة المنظمة و”كورونا”

أظهرت أزمة “كورونا” سرعة تكيف العصابات الإجرامية مع التغييرات في العالم. وبحسب وكالة اليوروبول Europol، فقد تم تزوير كل شيء تقريباً كان ضرورياً مع ظهور الوباء، من اختبارات، تطعيمات، وأقنعة طبية. ويتوقع المراقبون أن خطراً كبيراً سيطال الشركات التي تعاني من الوباء مالياً. وقد أشارت تقارير دولية إلى تسبب الجريمة المنظمة في تشويه أوضاع الأسواق بطرق متعددة حيث يتسلل أعضاء العصابات الجرمية إلى شركات ويستحوذون عليها، وكثيراً ما يتمتعون بمزايا غير عادلة لا تقتصر على حصولهم على تمويل بدون تكلفة فقط، بل تكون لديهم القدرة في بعض الأحيان على الفوز بتعاقدات باتباع وسائل التهديد والترويع.

كذلك، إن تفشي وباء “كورونا” المستجد لم يكبح فرص استغلال شبكة الإنترنت في الاحتيال الإلكتروني، ولم يحِد من الطلب على المخدرات. وفيما ينتظر العالم بفارغ الصبر الحصول على لقاح “كورونا”، يدعي بعض المجرمين أن لقاح “كورونا” صار بحوزتهم وباشروا في بيعه على شبكة الإنترنت، ما دفع منظمة الشرطة الجنائية الدولية – الإنتربول إلى دق جرس الإنذار، محذرة من وجود عصابات تعرض “لقاحات” مزورة أو مسروقة للبيع على الشبكة العنكبوتية، بعدما رصدت المنظمة العديد من الحالات سابقة الذكر.

“العولمة” و”الرقمنة” العصر الذهبي لعصابات الجريمة المنظمة

تطوران هامان ساهما في تشكيل العصر الذهبي لعصابات الجريمة المنظمة خلال الأعوام الثلاثين الماضية، يتمثل الأول في “العولمة”؛ إذ أصبح بالإمكان انتقال مجرمين وأموال وأرباح جرائم عبر الحدود بسهولة غير مسبوقة، لا سيما وأن حوالي نصف أعضاء العصابات من أماكن أخرى، خارج أوروبا، وحوالي 70% من الشبكات الإجرامية تمارس أنشطتها في أكثر من 3 دول، وأصبحت عمليات غسيل الأموال أكثر انتشاراً وتعقيداً في أوروبا مقارنة بما كانت عليه من قبل، وأن أفراد العصابات المحترفين في مجال غسيل الأموال أسسوا نظاماً مالياً سرياً موازياً بمعزل عن أية آليات للرقابة المالية.

وفيما يتعلق بالتطور الآخر، والذي يتمثل في “الرقمنة”، فقد وفّرت الشبكة المظلمة والعملات الإلكترونية بوجه خاص لأعضاء هذه العصابات مساحات للتداول في الظل بدون إزعاج. ونبّه تقرير المجلة البريطانية إلى أن الرقمنة أدت أيضاً إلى إيجاد أشكال جديدة للجريمة تتضمن استغلال الأطفال جنسياً واستغلال الرسائل النصية لاستنباط معلومات شخصية حساسة مثل كلمات المرور الخاصة بالحسابات المصرفية.

ويؤكد نائب رئيس المفوضية الأوروبية، مارغريتيس شيناس، على مدى أهمية القدرة على معالجة البيانات الرقمية بشكل قانوني. ويذكر أنه بعد الهجوم على قاعة حفلات باتاكلان في باريس، نوفمبر/تشرين الثاني 2015، كانت البيانات في هاتف خلوي تم العثور عليه في سلة مهملات حاسمة لملاحقة الجناة.

لا قوانين موحدة في مجال غسيل الأموال

كشف تحقيق أجرته شبكة من الصحفيين الاستقصائيين، عن نقاط ضعف كبيرة في الحرب العالمية ضد عمليات غسل الأموال الدولية، ويستند التحقيق إلى آلاف الوثائق المسربة لـ “تقارير الأنشطة المشبوهة” التي تم تقديمها إلى وكالة مكافحة الجرائم المالية – فنسن في وزارة الخزانة الأمريكية. وتتحدث الوثائق التي سميت “ملفات فنسن” عن تحويلات بنحو 2 تريليون دولار من الأموال المشبوهة جرى التداول بها بين عامي 1999 و2017.

وقال التحقيق الذي أجراه موقع “بازفيد نيوز” و”الاتحاد الدولي للصحافة الاستقصائية” – آي.سي.آي.جاي، بمشاركة 108 مؤسسات اعلامية من 88 دولة، إن “أرباح حروب عصابات المخدرات الدامية والثروات المنهوبة من الدول النامية والمدخرات التي كدّ أصحابها لجمعها ثم تم السطو عليها بطريقة بونزي الاحتيالية، جميع هذه الأموال سُمح لها بالتدفق من وإلى هذه المؤسسات المصرفية، على الرغم من تحذيرات موظفي هذه المصارف.”

ويعتبر ماركوس ماينزر من شبكة العدالة الضريبية الألمانية، أنه “إذا تسللت الجريمة المنظمة إلى الاقتصاد ونهب الفاسدون دولهم بمساعدة البنوك الغربية، ستكون الحرية والديمقراطية مهددة في كل مكان. يجب على الدولة الدستورية أن تأخذ غسل الأموال في النهاية على محمل الجد وأن تعاقبه بجدية.”

في ألمانيا.. عصابات عربية أم عائلات؟

درج الإعلام الألماني على نسب معظم النشاط الجرمي الذي تقوم به عصابات من خارج البلاد إلى “العصابات العربية”، وهذا لم يعد سراً خاصة في مدينة برلين – على سبيل المثال، ويختلف باحثان في قضايا الهجرة والأديان بشأن العصابات في ألمانيا لا سيما أن اغلبها عصابات عائلية عربية، ويوضّحان أسباب الظاهرة ومدى خطورتها.

أصرّ الباحث الاجتماعي والخبير في قضايا الهجرة، رالف غضبان، على كون العصابات العربية الموجودة في ألمانيا ترتكز بصورة أساسية إلى تكوينها العشائري، مستخدما تعبير “العشائر العربية، بينما اختلف معه توم شرايبر، عضو الحزب الاشتراكي الديمقراطي في برلين والخبير بالعصابات والجريمة في ألمانيا، الذي طالب بالتمييز بين هؤلاء وبين فكرة العائلات أو العشائر التي لا يعد وجودها سلبياً بحد ذاته. وأوضح شرايبر “يمكننا أن نقول إن 97% من العائلات العربية الموجودة في ألمانيا وفي برلين لا علاقة لها بالجريمة، فقط البعض من هؤلاء من يقومون بسرقة وابتزاز وعمليات كبيرة”.

وبناء على معلومات صادرة من مكتب مكافحة الجريمة الألماني، فإن عدد “العصابات” العربية حوالي 14 عصابة؛ ورغم أن السلطات الأمنية تراقبها منذ أعوام، إلا أنّها لم تنجح في العثور على أدلة دامغة تدينها، حيث أن 39 جريمة منظمة من أصل 572 حققت فيها النيابة العامة كانت ترتبط بما أسمته عصابات عربية.

ما هي علاقة العشائر العربية بالعصابات؟

يتمحور هذا الموضوع حول مجموعة عرقية معينة يرتبط اسمها بهذه النشاطات الإجرامية، ألا وهي مجموعة “المحلمية”، والتي تعود أصولها إلى قبائل قديمة سكنت منطقة جنوب تركيا وشمال سوريا، كما جاء في حديث الدكتور رالف غضبان صاحب دراسة معمقة حول اللاجئين اللبنانيين والعرب وتاريخهم في ألمانيا.

وبحسب د. غضبان، فإن هذه المجموعة العرقية “تعاني من أزمة هوية عميقة، فهم غير مقبولين من العرب كعرب ولا يقبلهم الكرد ككرد. ولذلك، فهم تارة يوصفون بالكرد، وتارة أخرى بالعرب أو اللبنانيين”. وبحسب تقرير للقناة الألمانية الأولى، فإن هذه العائلات تنحدر من مدينة ماردين في تركيا، وقد هاجرت إلى لبنان ومنه إلى ألمانيا في ثمانينات القرن العشرين خلال الحرب الأهلية، ثم قاموا باستقدام عائلاتهم. ويتحدّث أفراد هذه العائلات اللغة العربية، وبعضهم يتحدّث التركية أيضاً.

يستغرب المجتمع الألماني القائم على الأفراد عصبية وتلاحم العائلة الشرقية والعربية خاصة، فالتركيبة الاجتماعية لهذه العائلات هي اجتماعية عشائرية تعتمد على التضامن فيما بينها. وفرّق د. غضبان بين هذه العائلات الوسومة بـ “العصابات” – بتركيبتها الاجتماعية العشائرية – وبين المافيا، معتبراً أن الالتزام والإنضمام للمافيا يتم بشكل حر وطوعي وبالإمكان الانسحاب منها واتخاذ مسار آخر، بينما الانتماء العشائري لا مفر منه، وحتى الأعضاء في العشيرة الذين لا يرتكبون الجرائم مضطرون لأن يتستروا على أقربائهم المجرمين بسبب التركيبة الاجتماعية.

تطور عمل العصابات يسابق التدابير الأوروبية

ومن أجل مكافحة المشكلة، قدمت السويدية إيلفا يوهانسون مع زميلها اليوناني مارغريتيس شيناز، نائب في رئاسة الاتحاد الأوروبي، استراتيجية جديدة لمكافحة الجريمة المنظمة. وقد عرّفا الجريمة المنظمة بأنها من أكبر الأخطار على المجتمع، ووصفا العصابات الجرمية على “أنها كبيرة، وقوية وليس عندها حدود، وتستعمل المزيد والمزيد من العنف الشديد وحتى التعذيب والقتل من أجل تحقيق هدفها المال.”

وتحدد الاستراتيجية الأوروبية المعلنة الأدوات والتدابير التي يجب اتخاذها على مدى الأعوام الخمس المقبلة لتعطيل نماذج الأعمال وهياكل المنظمات الإجرامية عبر الحدود، سواء عبر الإنترنت أو خارجها، وتركز على تعزيز إنفاذ القانون والتعاون القضائي، ومعالجة هياكل الجريمة المنظمة والجرائم ذات الأولوية العالية، وإزالة الأرباح الإجرامية، وضمان الاستجابة الحديثة للتطورات التكنولوجية.

في طريقها لمكافحة الجريمة المنظمة، لا ترغب مفوضية الاتحاد الأوروبي في توفير تدريب أفضل للشرطة والعاملين في العمل الاجتماعي فحسب، بل تريد أيضا وضع قوانين جديدة. وفي ظل الضعف السياسي، وصعود النزعات الوطنية الضيقة، خلال الأعوام الأخيرة، تمضي المؤسسات الأوروبية في محاولاتها بناء مشاريع استراتيجية لتعزيز “الجوانب الوحدوية” الأوروبية، لترسيخ الأمن الإجتماعي، وأهمها مشروع التحول الرقمي للعام 2030، والتي تسعى من خلاله إلى تحقيق الانتقال نحو اقتصاد محايد مناخياً.

كما يطمح الاتحاد الأوروبي إلى أن يكون ذا سيادة “رقمياً” في عالم مفتوح ومترابط، وأن يتبع سياسات رقمية تُمكِّن الأفراد والشركات من اقتناص مستقبل رقمي محوره الإنسان، ومُستَدام، وأكثر ازدهاراً، بحسب الوثائق التأسيسية للمشروع، ما يوفر سهولة الوصول إلى المعلومات وحصر نشاط العصابات بالقضاء على استغلال الضعف الواضح في مجال انتقال الأموال والمعلومات.

من هذا المنظار، يحاول الأوروبيون تعزيز سيادتهم، ومنها السيادة الرقمية، في ظل ضمور “السيادة الأوروبية الوحدوية” في مواجهة تدخُّل قوى دولية داخل دول الاتحاد (في مقدمتها الولايات المتحدة، وروسيا، والصين) مُستغلة الترابطات غير المتكافئة في الرعاية الصحية والعلاقات الاقتصادية والتكنولوجيا الرقمية والأمن وقضايا المناخ بين دول الاتحاد، بطريقة تُقلل من قدرة أوروبا على التصرف بشكل مستقل وحماية مصالحها.

في الخلاصة، ينبغي العمل على زيادة التعاون ما بين دول الإتحاد الأوروبي والدول العربية وتعزيز دور المنظمة الدولية للشرطة الجنائية – الإنتربول في سرعة تداول وتنسيق المعلومات حول الجريمة المنظمة، ما يفظي إلى حسن النتائج ويزيل هذه الصورة المغلوطة عن المهاجرين العرب في العواصم الأوروبية، ويؤدي التواصل المنشود إلى تطويق أي نشاط اجرامي منظم في حلقتيه، مكان حصول الجرم وباقي الأماكن الأخرى.

هنا، نذكر أن لنا تجربة شخصية في الموضوع عندما تمكنا من متابعة تحقيق بدأته الشرطة الألمانية في تسعينات القرن الماضي، بموضوع اقدام عصابة جرمية بحفر خندق يتصل بغرفة الأمانات في الطابق الأرضي من مصرف “كومرسيال بنك” في برلين، والقيام بعملية مزدوجة باقتحام المصرف والدخول إليه عبر الخندق، وكان معظم أفراد العصابة معظم من الكرد المهاجرين، وألقينا القبض على الرأس المدبر في بيروت بموجب وثيقة من الإنتربول، ما سهّل في تفكيك رموز وعناصر تلك الجريمة العابرة للحدود، ونالت قوى الأمن اللبنانية التنويه والإشادة بهذا العمل والتعاون الوثيق.

نشرت أيضاً في: مجلة الأمن الداخلي اللبناني.

مصدر الصور: العرب – يورو نيوز.

موضوع ذا صلة: الإتجار بالأعضاء: سوق تجاري عماده الحرب والفقر

العميد م. ناجي ملاعب

باحث في مؤسسة الشرق الأدنى والخليج للتحليل العسكري / عضو الهيئة العلمية لمجلة “الدراسات الأمنية” – لبنان.