في العام 1956 وتحديداً بعد العدوان الثلاثي على مصر، بات مرفأ بيروت يشكل “بوابة” العالم إلى المشرق والخليج خصوصاً وأن الكثير من تلك الدول كانت بحاجة إلى منفذ بحري على شرقي المتوسط من أجل تصدير وإستيراد البضائع والسلع على اختلافاتها.
وبالتالي، نشطت تجارة الترانزيت بشكل كبير وعلى نطاق واسع، وهو الأمر الذي عاد على الخزينة اللبنانية بأموال طائلة – في حينها – ما انعكس على حياة اللبنانيين بشكل ايجابي، هذا بالإضافة إلى تنشيط حركة التجارة البينية بين لبنان ودول المشرق وكذلك الأمر مع الدول الخليجية.
تعود أهمية الموقع الإستراتيجي لمرفأ بيروت إلى عقود قرون خلت. فلقد شكّل، في القرن التاسع عشر وما بعدها، نقطة تجارة مهمة بدأت مع تجارة الحرير إلى أوروبا، ليأتي بعدها التطوير العثماني حيث توسعت مساحته وتعددت أحواضه، وما زاد أيضاً من أهميته هو ربطه مع سكك الحديد أيام السلطان عبد الحميد الثاني.
من خلال هذه المقدمة البسيطة والسريعة، نرى الأهمية الكبيرة التي يحتلها مرفأ بيروت. من هنا، يمكن النظر إلى السعي الدولي للاشتراك في عملية إعادة إعمار المرفأ، حيث سيعد ذلك – بالمفهوم السياسي – نوعاً من النفوذ على هذه المنطقة الحيوية في العالم؛ لذا، نرى وجود الكثير من الدول المهتمة بعملية إعادة اعمار المرفأ، وأبرزها روسيا وفرنسا وتركيا وحتى ألمانيا.
من الناحية الجيو – سياسية، يمكن وضع بعض الأمور المهمة التي تترافق مع الرغبة المشاركة بعملية إعادة الإعمار وأبرزها:
1. الأهمية الكبيرة لمنطقة شرق المتوسط من قِبل العديد من الأطراف الإقليمية وحتى الدولية (التي باتت تعتبر نوعاً ما إقليمية)؛ على سبيل المثال، باتت روسيا اليوم تعد “طرفاً إقليمياً” بعد أن اعادة تنشيط تواجدها في سوريا لا سيما على الجهة البحرية منها. في هذا المجال، يمكن القول بأن للولايات المتحدة “فرصة” في التواجد أكثر في لبنان، حال قيامها بإعادة اعمار المرفأ، خصوصاً بعدما ذكرت بعض وسائل الإعلام عن نيّة واشنطن إقامة قاعدة عسكرية في قرية بحديدات، التي زارها وزير الخارجية السابق مايك بومبيو وتبرعت بلاده بمبلغ 500 الف دولار لترميم كنيسة هناك (سبوتنيك: 23/7/2019)، وهو حدث أثار الشك عن سبب زيارته لقرية نائية في الشمال.
أيضاً، تقدمت أنقرة عارضة المساهمة في اعادة إعمار المرفأ، وهنا يجب التطرق إلى الدور التركي المستجد في لبنان، حيث تشير الكثير من المعطيات إلى زيادة نفوذ أنقرة في الشمال اللبناني بشكل متزايد يوماً بعد يوم. فمن جهتها، تسعى تركيا إلى زيادة نفوذها على منطقة شرق المتوسط خصوصاً بعد دعوة الرئيس رجب طيب أردوغان إلى “حل الدولتين” في قبرص (وهو أمر جد مستبعد لكنه غير مستحيل) إذ ستكون بلاده من أكثر المستفيدين “طاقوياً” – بالتحديد – حيث سيكون لها اليد الطولى في هذه البقعة الجغرافية لكون الأمر لا يقتصر فقط على الطاقة وتواجدها بل على ممراتها أيضاً.
بالنسبة إلى ألمانيا، فهي تبحث عن الاستثمار أكثر من النفوذ، ويظهر من خلال مشروعها الذي قدمته لإعادة الاعمار إذ يركز على المرفأ كنقطة تجارية. في المقابل، يرى بعض المراقبين بأن هذه الشركات ترغب في أن يكون لها مستقبلاً “موطئ قدم” في هذه المنطقة.(جنى الدهيبي. 11/4/2021. المرفأ.. حوافز استثمارية أو رسائل سياسية من أوروبا؟ الجزيرة)
أما اللاعب الأبرز فهو فرنسا – “الراعي الرسمي” التاريخي للبنان – التي تنظر إلى عملية الإعمار على أنها نفوذ سياسي وهدف اقتصادي معاً، خصوصاً وأنها تعد الطرف الأقرب للحصول على التلزيم نظراً لعدة عوامل دولية ومحلية متعددة؛ فباريس هي الأقرب إلى واشنطن من الناحية الإيديولوجية والتوجهات السياسية، وهي الوحيدة – من بين الدول المتقدمة – المقبولة أمريكياً لتولي تنفيذ هذه العملية.
في هذا الشأن، وضعت شركة “سي.أم.أي – سي.جي.أم” / CMA – CGM الفرنسية العملاقة رؤيتها الخاصة لمستقبل المرفأ، حيث رافق رئيس مجلس إدارتها، رودولف سعادة، الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في زيارته الثانية إلى بيروت بعد الانفجار، سبتمبر/أيلول 2020، حيث أشار المدير الإقليمي للشركة، جو دقاق، إن الزيارة شكلت فرصة لتقديم “مشروع متكامل” من 3 مراحل هدفه أولاً إعادة إعمار ما تدمر في المرفأ ثم توسيعه وتطويره إلى أن يتحول إلى “مرفأ ذكي”.(فرانس 24: 14/4/2021)
2. الاكتشافات الطاقوية الكبيرة التي بدأ الاعلان عنها في منطقة المتوسط، وبداية التنافس على النفوذ وتقسيم الحصص؛ أما على الصعيد الداخلي، فإن لبنان دخل أيضاً ضمن قائمة الصراعات تلك بعد الحديث عن مخزونات هائلة من الغاز والنفط ضمن مناطقه الإقتصادية الخالصة، كما أن العديد من الدول التي تقدمت بعروض عملية اعادة الاعمار هي ضالعة في مسألة الطاقة (والحديث هنا عن موسكو وباريس بالتحديد من خلال شركتي “نوفوتك” الروسية و”توتال” الفرنسية)
3. على الرغم من الحديث القائل بأن مرفأ حيفا سيكون بديلاً عن مرفأ بيروت، إلا أن هناك الكثير من الأدلة التي تظهر بقاء مرفأ بيروت – وبالتالي لبنان – كنقطة ارتكاز مهمة لا يمكن الإستغناء عنها؛ الدليل على ذلك، قد تمتنع الكثير من الشركات العربية عن استخدام مرفأ حيفا إذ أن اقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل لا يعني بالضرورة تطبيع الشعوب، ومصر خير دليل على ذلك.
4. على الصعيد الأمني، هناك العديد من الدول التي تعتبر حزب الله تنظيماً إرهابياً – وعلى رأسها الولايات المتحدة – وتريد أن يكون لها مقر في المرفأ من أجل مراقبة حركة النقل – الداخل والخارج – والمواد المصدّرة والمستوردة بهدف منع وصول شحنات أسلحة للحزب عن طريق المرفأ على الرغم من التصريحات الكثيرة والمستمرة لمسؤوليه عن عدم استخدام هذا المرفق الحيوي – سابقاً وحالياً – لهذا الغرض. وقد يصح هذا الأمر على مراقبة “أي شيء وكل شيء” وليس بالضرورة تتبع نشاطات حزب الله، على الرغم من أنه الأهم بالنسبة لها.
في خضم كل هذا، يعلم الطرف الآخر – أياً كان – الظروف الاستثنائية التي يمر بها لبنان، لا سيما السياسية لجهة عدم القدرة على تأليف حكومة، أو الإقدام على اصلاحات بنيوية (وهو مطلب أوروبي للدخول في أية عمليات استثمارية مستقبلية)، أو مكافحة الفساد، لا سيما موضوع التدقيق الجنائي. أما على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، فهذا الوقت يعتبر الأسوأ على الإطلاق حيث يمر لبنان بأزمة مالية – اقتصادية – اجتماعية غير مسبوقة في تاريخه، وهو ما سيؤثر على أية عقود مستقبلية لانجاز عملية اعادة الإعمار.
هذه الأمور جميعها، قد تؤثر على عملية اعادة الاعمار لجهة امكانية وقوع أية عملية “ابتزاز” (من أي نوع كانت) قد تقوم به تلك الشركات (أياً كانت أيضاً) التي تعلم بعدم قدرة لبنان على دفع تكاليف العملية واضطراره للتزليم حُكماً، ما يعني الضغط عليه من للتنازل على نسبة مالية اضافية من المداخيل و/أو اطالة مدة الإمتياز.
ختاماً، يبقى على المسؤوليين اللبنانيين أن يعوا مسؤولياتهم ويجنبوا الوطن مشاكلهم الداخلية في وقت يحتاج لبنان فيه إلى كل وأية عملة صعبة تأتيه، خصوصاً بعد أن حَرم إنفجار المرفأ لبنان منها بنسبة كبيرة وهو بأمسّ الحاجة إليها.
المصدر: موقع الملف الاستراتيجي.
مصدر الصور: العربي الجديد – النهار.
موضوع ذا صلة: كارثة مرفأ بيروت.. تحقيقات شبه مستحيلة وشخصيات فوق المحاسبة
مؤسس ومدير “مركز سيتا” – لبنان