في أزمة فريدة من نوعها بين الولايات المتحدة وكوبا، ظهرت في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، والتي أُطلق عليها حادثة “متلازمة هافانا”، أفاد ديبلوماسيون بالسفارة الأميركية في كوبا أنه بدون سابق إنذار شَعَر كل المتواجدين بالسفارة بإعياء شديد مصحوباً بأعراض غامضة وحادة مثل فقدان السمع والتوازن.
وبعد التحليل، تكهن الخبراء أن السبب هو شنّ كوبا هجمات بسلاح صوتي. أما الغريب في الأمر، أن نفس أعراض “متلازمة هافانا” كانت قد ظهرت على أميركيين آخرين في مناطق أخرى من العالم، مثل حادثة سفارة الولايات المتحدة في الصين في مدينة غوانزو Guangzhou، العام 2017، وكذلك أبلغ ضباط المخابرات الأميركية عن ظهور أعراض “متلازمة هافانا” على أهداف في أوروبا وآسيا في العام الماضي.
وأشارت جميع أصابع الاتهام الأميركية – كالعادة – إلى روسيا، كما ورد في تقرير المخابرات المركزية الأميركية العام 2018؛ وبالطبع استنكرت روسيا الأمر، وأشارت أن هذا الاتهام ليس في محله. لكن توكيد تقارير المخابرات على اتهام روسيا ناجم من أن لموسكو باعاً طويلاً في أبحاث استخدام أشعة الميكروويف كسلاح، وخاصة ضد الولايات المتحدة؛ كما حدث عندما قصفت قوات الإتحاد السوفياتي السابق السفارة الأميركية في سبعينيات وثمانينيات القرن الـ 20.
ولقد ارتاب الفريق الطبي الذي فحص الحالات المصابة بالسفارة الأميركية في كوبا في نفس الأمر، بل وأطلقوا على تلك الأعراض اسم “الارتجاج المخي الطاهر” بسبب أنه اشتباه بارتجاج مخي لكن الأعراض وقتية، وأجمعت نتائج جميع الأبحاث التي أُجريت على الحالات أن لسلاح وحيد القدرة على إحداث جميع هذه الأعراض؛ ألا وهو سلاح الميكروويف – Microwave.
ومن المعروف أن جهاز “الميكروويف”، وهو ذاك الفرن الصغير المستخدم في الطهي وموجود في كل منزل عصري تقريباً، يعمل من خلال إطلاق أشعة دقيقة مهمتها تسخين وطهي الطعام في ثوان معدودة، وتخيل تأثيرها عند تسليطها على البشر. والخوف المَرَضِي من تلك الأشعة ظهر بشدة مع استخدام شبكات الجيل الخامس – G5 من الإنترنت، والتي وصفوها بأنها تحيل الأرض لفرن ميكرويف كبير له عظيم التأثير على عقول البشر.
لم تقف المخاوف من تلك الأشعة عند ذلك فحسب، بل أنه قد تم وصفها بالمتسبب بإحداث خلل بشري وفيروسي كان من شأنه ظهور فيروس “كورونا” بشكل وبائي مميت بين البشر. واستخدام الميكروويف كسلاح ينقل البشر لمستوى غير مسبوق من الحرب والمعارك، تشابه ما يحدث بأفلام حرب النجوم؛ مع فارق أن الأسلحة المستخدمة ليس لها شعاع ضوئي، بل شعاع غير مرئي من نوع الأسلحة الإلكترو – مغناطيسية / Electromagnetic Weapons والتي تسمى بالقنابل الإلكترونية.
“الطاقة لموجهة” سلاح التكلفة المنخفضة
صارت للحالة الاقتصادية اليد الغالبة في جميع القرارات الدولية، حتى في الحرب. فبعد الويلات والخسائر الاقتصادية التي تكبدتها الدول المشاركة في الحرب العالمية الثانية، صار الهم الأكبر للدول المولعة بالحروب وفرض السيطرة على الدول الأخرى هو تطوير أسلحة فعالة لها القدرة على إلحاق الأضرار بالأعداء وإبعادهم عن ساحة المعركة بهدف تحقيق الانتصار، لكن في الوقت نفسه يجب أن تكون لديها القدرة على إحداث أقل خسائر في أرواح الجيش المُعتدي، مع كونها قليلة التكلفة، وخاصةً عند استخدامها لمجابهة أسلحة منخفضة التكلفة. ومن ثمَّ، عكفت الدول المتقدمة على تطوير أسلحة “الطاقة الموجهة”.
“الطاقة الموجهة” نتجت عن تقنية الأسلحة الإلكترو – مغناطيسية التي تكمن في إطلاق وميض عالي الطاقة من موجات الراديو أو الموجات الدقيقة “الميكروويف”؛ وباستخدام طاقة النبض الكهرو – مغناطيسي كسلاح، فإن تأثيره يتراوح بين تعطيل الدوائر الإلكترونية إلى إحداث تأثيرات فيزيولوجية غير مفهومة لكل من يتعرض للنبض الكهرو – مغناطيسي. وقد تستمر النبضة الواحدة المنبعثة من أي سلاح كهرو – مغناطيسي لوهلة قصيرة للغاية، تصل لحوالي 100 بيكو ثانية (واحد على عشرة بلايين من الثانية). إلا أن النبضة الواحدة توَّلد طاقة شديدة تمتصها الأجسام التي تم تسليطها عليها بفاعلية، لدرجة أن الأجسام تصير قادرة على توصيل الكهرباء حتى ولو كانت تلك الكهرباء موجهة للأعصاب والخلايا العصبية.
محاولات حثيثة عبر التاريخ لتطوير الأسلحة الكهرومغناطيسية
شهدت أربعينيات القرن الـ 20 مُستهل الأبحاث الخاصة بتأثير الأسلحة الكهرو – مغناطيسية على البشر والحيوانات ومحاولات تطويرها. وأنفق اليابانيون – بين عامي 1940 و1945 – مبالغ طائلة من المال على تطوير ما أطلقوا عليه اسم “شعاع الموت”. ثم قام الجيش الأميركي بمراجعة وتطوير هذه الأبحاث، وخلصوا بإمكانية تطوير سلاح يُنْتِج شعاعاً كهرو – مغناطيسياً قادراً على قتل البشر بعد تسليط الشعاع من مسافة 5 – 10 أميال من المصدر.
وبعد الحرب العالمية الثانية، قامت واشنطن بإجراء المزيد من الأبحاث على هذا السلاح، فيما أسمته بـ عملية “الضربة القاضية”، والتي ينجم عن تسليط الأشعة استهداف أجزاء في المخ تتسبب في حدوث اضطرابات تعمل على تحفيز مناطق الشعور من شأنها حدوث تأثيرات متضاربة من الخوف والهلع والهياج والرغبة والتعب.
أما في الستينيات، فلقد تولت مؤسسة داربا – DARPA تطوير تلك الأبحاث بدراسة التأثير النفسي والفيزيائي لاستخدام موجات الميكروويف كسلاح يسبب إلحاق الضرر بالقلب وتدمير الأوردة بأن يجعل الدم حرفياً يغلي في العروق، أضف إلى ذلك إحداث هلاوس سمعية. واستمر تطوير ذلك السلاح إلى أن تم التوصل لاستخدامة كوحدة محمولة خفيفة يمكن حملها على طائرة أو حتى سيارة.
الصين تنجح باستخدام الميكروويف ضد الهند في النزاع الحدودي
قامت الصين باستخدام سلاح الميكروويف ضد القوات الهندية في المناوشات الحدودية الأخيرة فيما بينهما، يونيو/حزيران 2020. فعندما وجدت الصين نفسها غير قادرة على صد التفوق العسكرى الهندي المدرب على القتال والتصدي للهجمات في المناطق الجبلية، والتي احتلت أعالي جبال الهيمالايا، وهي مناطق استراتيجية تضمن التفوق الهندي وسيطرتها التامة على الحدود، ولما كان شرط القتال بين الفريقين هو عدم استخدام الأسلحة، قامت القوات الصينية بحمل أجهزة سلاح الميكروويف على سيارات وتسليط الأشعة على قمم الجبال، وكانت النتيجة شعور القوات الهندية بدوار شديد وتعب مفاجئ وقيء وهلاوس سمعية جعلتهم يتقهقرون فوراً، واحتلت الصين تلك المناطق بسهولة.
وأعلن البروفيسور جين كانرونج – Jin Canrong، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة رينمين – Renmin في بكين، قائلاً “لقد حولنا قمم الجبل إلى ميكروويف ضخم، وقمنا بطهي الهنود”. والغريب أن كلا الطرفين تكتموا على الأمر، بالرغم من التأكد من استخدام سلاح الميكروويف.
نتائج التحقيق العلمي في “متلازمة هافانا”
في العاصمة الكوبية – هافانا، وعندما بدأ الدبلوماسيون الأميركيون في اقتراح صلة بين الصوت والأعراض التي واكبتهم، كلفت وزارة الخارجية، في فبراير/شباط 2017، الدكتور مايكل هوفر، وهو أخصائي أنف وأذن وحنجرة في جامعة ميامي، بالقيام بالكشف عن “شيء سيءِ” حدث لأشخاص مرتبطين بالسفارة، لتقييم بعض الدبلوماسيين المرضى الذين تم نقلهم جواً إلى ميامي.
قام هوفر وزملاؤه بتقييم ما مجموعه 140 شخصاً؛ أبلغ 25 منهم عن أعراض ظهرت بعد سماعهم صوتاً غريباً أو شعورهم بموجة ضغط. تم علاج ما لا يقل عن 16 من موظفي السفارة كانت أعراضهم تشبه إلى حد كبير أعراض ارتجاج المخ. توّقع الدكتور هوفر، بموجب خبرته كطبيب عسكري، أن المشكلة تتعلق بالجهاز الدهليزي، وهو جزء من الأذن الداخلية يلعب دوراً حاسماً في التوازن، وأعلن إن الاختبارات دعمت هذه الفكرة. لكنه لم يتمكن من تحديد السبب: “ما كان، من كان يفعل ذلك – لا أعرف.”
ومع ذلك، سارع هوفر وزملاؤه إلى التكهن. في المقابلات وأثناء مؤتمر صحفي متلفز، أشاروا إلى أن السبب قد يكون سلاحاً يستخدم الموجات الصوتية أو الموجات الدقيقة أو أي شكل آخر من أشكال الطاقة الكهرو – مغناطيسية. كانت فكرة “الهجوم الصوتي” جذابة لأنها تفسر الصوت الغريب الذي تحدث عنه عمال السفارة الذين ظهرت عليهم الأعراض فيما بعد.
يقول هوفر إن إحدى النتائج الرئيسية للورقة تضمنت نظارات واقية خاصة تتعقب حركات العين. “لذا فإن حركات العين، التي يمكننا قراءتها على الفور من النظارات الواقية، كانت تشبه الأنماط التي نراها في الأشخاص الذين يعانون من اضطراب توازن معين”. وينتج اضطراب التوازن – “شذوذ في الأذن” – عن ضرر غير مرئي يلحق بالأذن الداخلية. لكن النقاد لاحظوا أن الكثير من العوامل يمكن أن تجعل الشخص السليم يفشل في هذا الاختبار.
ولكن ثمة من يخالف الدكتور هوفي الإستنتاج الذي تكهن به، تقول الدكتورة ديلا سالا إنه “في الوقت الحالي، لا توجد بيانات على الإطلاق تشير إلى أن هؤلاء الأشخاص يعانون من أي إصابة في الدماغ… ليس هناك أي دليل”؛ بمعنى آخر، لا يوجد دعم لـ “متلازمة هافانا”. شكوى أخرى هي أن الولايات المتحدة أمامها ما يقرب من عامين لدعم مزاعمها بوقوع هجوم لكنها لم تفعل ذلك بعد.
ماذا كان الرد العلمي من كوبا؛ يقول الدكتور ميتشل فالديس سوسا، مدير المركز الكوبي لعلوم الأعصاب في هافانا، إن “هناك قصة كاملة عن وجود مجموعة من الدبلوماسيين، تعرضوا للهجوم بسلاح ولديهم إصابات في الدماغ.. لا يوجد دليل على إصابات الدماغ. لا يوجد دليل على حدوث هجوم. ترى أعراض غامضة منتشرة للغاية، وهي شائعة في أي قطاع عرضي من السكان.”
يعتقد الآن فيلدز أن “متلازمة هافانا” هي في الحقيقة مجموعة من الأعراض والمشاكل الصحية التي قد تراها في أي مجموعة من الناس – وخاصة الأشخاص الذين يقومون بعمل مرهق للغاية في بيئة معادية في بعض الأحيان.
ويعتقد فيلدز أيضاً أن الحقيقة ستظهر في النهاية، مضيفاً “لقد ضل العلم، وخرج عن مساره مرات عديدة… لكن في النهاية يصحح نفسه بنفسه ونصل إلى الإجابة الصحيحة.” حدث ذلك بعد حادثة مماثلة خلال الحرب الباردة. كانت القصة حينها أن أجهزة الميكروويف السوفيتية تسبب السرطان وحالة دموية نادرة بين موظفي السفارة الأمريكية في موسكو.
وأخطر ما في الأمر أن تناقل الأبحاث من دولة لأخرى بسهولة، ورخص سعر هذا السلاح نسبياً يرجح وقوعه في أقرب وقت في أيدي رجال العصابات والإرهابيين، والذين سوف يستخدمونه ضد أعدائهم أو لإرهاب المدنيين الآمنين. هذا الاحتمال قائم ووشيك، وأكبر متضرر من ذلك هو البشرية جمعاء.
ملاحظة: سبق ونشرت في العدد الأخير لمجلة الأمن الداخلي.
مصدر الصور: Business Insider – صوت بيروت.
موضوع ذا صلة: “المغناطيسية”: القاعدة الأساسية للصواريخ الإستراتيجية الروسية*
العميد م. ناجي ملاعب
باحث في مؤسسة الشرق الأدنى والخليج للتحليل العسكري / عضو الهيئة العلمية لمجلة الدراسات الأمنية – لبنان.