عكفت لعدة أعوام على طرق فهم أزمة العلاقة بين الحاكم والمحكوم في العالم العربي، وعمدت إلى البحث عن إصلاح العلاقة بينهما لصالح الوطن. ولكني وجدت أن إصلاح الحاكم والمحكوم أولوية متقدمة يبدأ منها كل برامج الإصلاح بكل جوانبه، وأسفت للصراع التاريخي بينهما في المنطقة العربية إذ أن كل ذلك ينخر في مصالح الوطن ويستفيد منها أعداؤه؛ ولذلك، فإن الخارج هو العدو الحقيقي للمواطن العربي لأن منه تبدأ المؤامرة عليه، وربما اتضحت خطوط المؤامرة بعد قيام إسرائيل كعامل مشترك فى كل جوانب الحياة العربية. فكان الصراع مع إسرائيل محل صراع بين العرب، ثم أصبح الاستسلام لها تحت مسمى السلام مصدر الصراع الجديد.
لقد تسابقت الشعارات القومية على تجميع العرب للصراع مع إسرائيل حتى صار الفصل ممكنا بين إسرائيل وفلسطين، فمعاداة الأولى لا تعنى بالضرورة نصرة فلسطين حتى وصلنا إلى مرحلة صار الانحياز لإسرائيل هو السياسة السليمة التي تضمن للحاكم حكماً مريحاً مضموناً ممن يمسكون زمام الأمور.
كانت النتيجة صراع بين الحاكم والمحكوم موضوعه إسرائيل حرباً أو استسلاماً، وراح ضحية هذا الصراع الآلاف من ضحايا العرب، ثم كان الفساد والنفاق والمنتفعون الداعمون للحاكم وذهبه وخوفاً من سيفه طبقة تتوسط الحاكم والمحكوم وانضمت لها معظم النُخب التي كان يفترض بها أن تكون صمّام الآمان لعلاقة الحاكم بالمحكوم.
والحق أن للحاكم أمراضاً وللمحكوم أمراض مماثلة؛ فإذا تمكنا من تشخيص هذه الأمراض بطريقة واقعية دون تجريح أو استخفاف، فسنستطيع معالجتها بحيث نعيد كلاً من الحاكم والمحكوم إلى حظيرة الوطن ووفرنا تكاليف الصراع لصالح الوطن والمواطنين.
لذلك كله، وضعنا برنامجاً لإصلاح الحاكم وبرنامجاً لإصلاح المحكوم، أي الشعب بصفته وعاء ينتج الحكام على كل المستويات فإذا صلح الوعاء ضمناً صلح الحاكم، أي الراعى. وفي هذه الحالة، يطوّر الوعاء آليات الرقابة على الحاكم بحيث يصعب أن يغرد استبداداً من طرف واحد؛ فالاستبداد مثل الرشوة لا بد لها من طرفين. وفي حالة الاستبداد، فإن ميل المحكوم إلى العبودية هو الذي يصنع الاستبداد والمستبدين، فالمحكوم هو الطرف الأقوى في جلب الداء.
وفي حالة الرشوة، يكون الراشي هو الذي خلق المرتشين. وفي حالة السرقة، يكون السارق هو الطرف البادئ، ولكن إهمال الشخص المسروق يسهل للسارق مهمته. وجريمة الزنا تبدأ بالمرأة؛ ولذلك، نبهنا القرآن الكريم إلى هذه الحقائق فقدّم الزانية على الزاني ولكنه قدم السارق على السرقة، كما قرر الرسول الكريم(ص) أن الراشى والمرتشى في النار.
ولإصلاح المحكوم أهمية خاصة لتحقيق التقارب مع الحاكم الصالح؛ وما دام إصلاح الحاكم والمحكوم هو لصالح الوطن، فإن تجاوب الحاكم والمحكوم مع برامج الإصلاح تختلف. فالمحكوم يهمه التجاوب مع برامج الإصلاح، ولهذا اقترحنا برنامج سد الثغرات المعرفية عند المصريين والعرب، وهذا البرنامج لا بد أن يتبناه الحاكم العربي لما في ذلك من نفع هائل لشعبة ووطنه، وتسهيل لخطابه مع هذا الشعب، وتحويل وظيفة الإعلام من تضيع العقل إلى استرجاع العقل.
لاحظنا أن برنامج سد الثغرات المعرفية لا علاقة له بمطالبة الحاكم بالمشروعية والشفافية والمحاسبة والنطق بالحقائق؛ ولذلك، لم أصدق تحفّظ بعض الأصداقاء انطلاقاً من أن الحاكم العربي يحرص على ضياع العقل العربي، وهذا البرنامج يسعى إلى توفير الوعي. هذا التحفّظ يحمل بعض الوجاهة، ولكن لا بد من إفهام الحاكم أن البرنامج لمساعدته وليس إحراجه أو تزويد المعارضين بزاد للمعارضة أو الظهور والمزايدة لأن البرنامج رسالة والرسالات لا تقبل الميل للاستغلال وسوء النية.
على أن تفهّم الحاكم وتجنيد الدولة لانجاح البرنامج هو آهم ضمانة لنجاحه، فالوطن لا يحتمل أن يتحول البرنامج من الإصلاح إلى تعقيد العلاقة بين الحاكم والمحكوم وصبّ المزيد من الزيت على النار، فالجميع لا بد وأن يشعر بالمسؤولية وأن يبحث عن كل ما ينقذ الوطن من تبعات التوتر بين الطرفين.
من هنا، أعتزم عرض المشروع على رئيس الدولة أو رئيس الحكومة أو وزيرة الثقافة قبل الشروع في تنفيذه وذلك بعد التمهيد الإعلامي الجيّد له؛ فإن كان الظرف مناسباً للشروع به، فهذا خير وبركة. وإن بدا غير ذلك أجلنا طرحه، حيث أننا نلتزم بقاعدة السلف الصالح لجهة التعاون على ما اتفقنا عليه وإعذار بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه.
مصدر الصورة: الجزيرة.
موضوع ذا صلة: هل يمكن إصلاح العلاقة بين الحاكم والمحكوم العربيين؟
د. عبدالله الأشعل
سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق وأستاذ محاضر في القانون الدولي – مصر