تشهد روسيا خلال الآونة الأخيرة العديد من التحديات، بداية من توتر الأوضاع الداخلية نتيجة لاستمرار اعتقال المعارض الروسي البارز أليكسي نافالني وما ارتبط بها من انطلاق المظاهرات بشكل شبه دوري ومتكرر، وصولاً إلى تصاعد التوترات مع كل من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي بشأن أوكرانيا وغيرها من القضايا العالقة، كل هذا يأتي في توقيت شديد الحساسية حيث تستعد موسكو للانتخابات البرلمانية المقرر انعقادها في سبتمبر/أيلول 2021.
وحقيقة الأمر فإن التطورات الأخيرة ربما تكون قد أحدثت قدراً من الاهتزاز في الصورة النمطية الراسخة عن روسيا والتي دائماً ما تحاول التأكيد على أن الروس يدعمون بوتين بشكل تلقائي ومطلق والذي تم إرجاعه إلى النزعة التقليدية المترسخة في النظام الروسي تجاه دعم القادة الأقوياء. إلا أن الاحتجاجات الأخيرة كشفت أن الرواية السائدة عن موسكو قد تكون مُبالغاً فيها من حيث التسييس والتبسيط.
ففي كثيرٍ من الأحيان، يختزل المراقبون الخارجيون والمحللون السياسيون السياسة الروسية إما فيما يمكن تسميته بـ “البوتينية”، والتي يتم تحديد ملامحها من خلال التوجهات الشخصية وخلفية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أو من خلال الرجوع إلى إرهاصات التاريخ الروسي وسوابقه. إلا أن قطاعاً عريضاً من هؤلاء يتجاهلون الدراسات المقارنة العديدة التي تُصوَّر فيها روسيا على أنها دولة أوتوقراطية تخضع للتوجهات الشخصية لرئيسها، وتتشارك مع العديد من الأنظمة الاستبدادية المعاصرة الأخرى في المجر أو تركيا أو فنزويلا في بعض الخصائص.
على جانب آخر، تتغافل أغلب الكتابات التي تتناول النظام الروسي عن إعطاء أهمية كبيرة للديناميكيات داخل المجتمع الروسي ودورها في صنع القرار الروسي؛ إلا أن التدقيق في تلك المسألة من خلال الأبحاث الأكاديمية المستندة على الاستقصاءات قد توضح درجة تأثير الرأي العام الروسي على عملية صنع القرار في الكرملين. ولعل ما سبق هو ما دفع تيموثي فراي، وهو عالم سياسة وأستاذ جامعي في جامعة كولومبيا، وصاحب العديد من المؤلفات المتخصصة في النظام الروسي، لإعداد كتابه المعنون بـ “الرجل القوي الضعيف: حدود القوة في روسيا البوتينية” الذي صدر مؤخراً في أبريل/نيسان 2021 ليستعرض خلال صفحاته التي تتجاوز الـ 280 صفحة، وصفاً وتحليلاً موضوعياً ومستنيراً وجذاباً للسياسة الروسية في الداخل والخارج. حيث يكشف من خلال الاستقصاءات أن السياسات التي ينتهجها الكرملين تكون في أغلب الأحيان نتيجة لمقايضات لا حصر لها وخيارات صعبة، أكثر منها مجرد توجهات شخصية لبوتين أو استمرار لسياسات روسية مترسخة وهو ما تميل وسائل الإعلام والمناقشات العامة للتدليل عليه. ويرى الكاتب أن السخط العام المتزايد في روسيا، والتحديات الاقتصادية، والمواجهة مع الغرب تزيد من حدة المعضلات التي تواجه الكرملين، حيث إن تلك التحديات قد ساعدت في كسر التابوهات التقليدية حول وضع روسيا القوية في ظل رئاسة بوتين.
فبالاعتماد على 3 عقود من خبرته وأبحاثه على أرض الواقع، بالإضافة إلى الاستعانة برؤى من جيل جديد من علماء الاجتماع الذين لم يحظوا باهتمام كبير خارج الأوساط الأكاديمية، سعى تيموثي فراي إلى تفكيك المفاهيم المسبقة والصورة الضبابية التي تحيط بروسيا، حيث حاول تقديم إجابات غير تقليدية لمجموعة من الأسئلة الحاسمة حول شعبية بوتين، ومدى فعالية الدعاية الروسية، وطبيعة العلاقات بين روسيا والغرب، ودور القراصنة الروس في التأثير في الانتخابات للدول الأخرى.
ومن خلال الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، قدم فراي إعادة تقييم موضوعية لكواليس السياسة الروسية، بل إنه بمثابة دليل عملي لآليات عمل النظام الروسي من خلال تسليط الضوء على تحديات الحكم في روسيا وطبيعة النظم الأوتوقراطية الحديثة. وفيما يلي أهم المحاور التي تناولها الكتاب.
بين القوة والضعف
قام فراي بالنظر إلى روسيا المعاصرة من خلال عدسة أكاديمية، وتقييمها في ضوء أنظمة استبدادية أخرى مماثلة، استطاع من خلالها التأكيد على حقيقة أن موسكو ليست استثناءً كما يعتقد الكثيرون. فهي لا تحكمها توجهات الرئيس بوتين بشكل مطلق، كما أنها ليست أسيرة للإرهاصات التاريخية أو ثقافتها أيضاً، حيث يرى أن هاتين النظرتين لروسيا – وتشوه الكثير من الخطاب العام حول سياسة روسيا وسلوكها – ينعكس في المقابل في عدم وضوح وضعف فعالية السياسة الأمريكية تجاه موسكو.
ففي الحالة الأولى، التي تنصب على شخصية الرئيس، فإنها تتجاهل التعقيد الثري للسياسة والمؤسسات الروسية، بما يؤسس افتراضاً بأن أي شاغل آخر للرئاسة غير بوتين سيتصرف بطريقة مختلفة عن تلك التي يتبعها بوتين، في حين أن التجربة أثبتت أنه حين تولى دميتري ميدفيديف فإن أسلوبه في إدارة الدولة – وإن اختلف جزئياً – إلا أنه في جوهره لم يختلف كثيراً عن أسلوب بوتين، حيث إن مرتكزات السياسة الخارجية الروسية والإجراءات التي تتبعها ما تزال مستمرة منذ عهد الرئيس بوريس يلتسين. أما الافتراض الخاص بأن سياسة روسيا هي مجرد امتداد لتاريخها أو ثقافتها، فهو تبسيط مفرط للغاية، ويلغي إمكانية التغيير وهو أمر غير واقعي.
ومن خلال تتبع الواقع العملي، يوضح الكاتب أن الحدث الأكثر أهمية في التأكيد على ضرورة النظر بشيء من الواقعية للسياسة الروسية هو تدخلها في انتخابات الرئاسة الأمريكية لعام 2016؛ فعلى عكس المفترض، تم رؤية موسكو باعتبارها شبكة من العملاء والقراصنة الإلكترونيين الذين يتم تحريكهم من جانب بوتين، وطغت تلك النظرة على أي نوع من النقاش العقلاني حول روسيا، أو مصالحها من ذلك التدخل، أو حتى تتبع سلوكها العام.
وفي المقابل، يرى فراي أن تلك النظرة غير دقيقة بالمرة فالحكومة الروسية ليست حكومة متجانسة تعمل تحت قيادة محرك الدمى الرئيس بوتين، ولكنه على الرغم من كونه حاكماً مستبداً إلا أنه في الوقت ذاته تعوقه نفس المشاكل التي يعاني منها الحكام المستبدون في جميع أنحاء العالم. فالسياسة في موسكو لا تختلف كثيراً عن تلك الموجودة في واشنطن، فالأمر كله يتعلق بكيفية تحقيق درجة ملاءمة من التوازن في المصالح، وإن كان ذلك مع وجود ضوابط وتوازنات أقل بكثير في الكرملين من الكونغرس.
ونتيجة لتلك المقارنة، فقد تناول فراي في كتابه جبهتين مختلفتين ولكنهما مترابطتان وهما جبهة بوتين والمجتمع الروسي المعاصر. فمن ناحية، يبدو بوتين وكأنه رجل قوي وضعيف في آنٍ معاً، حيث إنه مقيد بنفس القيود التي تواجه الحكام المستبدين الآخرين، بما يعني أنه ليس قوياً ولا ضعيفاً، فبوتين يتمتع بالقوة ولكن حكمه ليس مطلقاً. فنظام بوتين وبقاؤه يعتمد بالفعل على توازن غير مستقر للمصالح على جميع المستويات، وفهم ديناميكيات هذا التوازن قد يؤدي في البداية إلى فهم أفضل للسلوك السياسي الروسي على المستويين الداخلي والخارجي، بما ينعكس في النهاية على صنع سياسة أفضل تجاه روسيا.
ويميّز الكاتب النظام الروسي عن بقية النظم “المستبدة” في كونه يعتمد بدرجة أكبر على شخصية القائد بعكس النظم الأخرى التي يكون محور الاستبداد فيها معتمداً على حزب، مثل الحزب الشيوعي الصيني أو مؤسسة مثل المؤسسة العسكرية. إلا أن بوتين ليس وحده، حيث إنه يتواجد في نظام معقد يتطلب توازناً دقيقاً بين المصالح الشخصية ومصالح النخبة ومصالح الجمهور، وقدرة بوتين في ضمان بقائه السياسي يتطلب إحداث التوازن بين كل ما سبق.
يحتاج بوتين إلى أن تبدو الانتخابات على الأقل شرعية إلى حد ما، ولكن ذلك لا يمنع من وجود عمليات تزوير تشوب العملية الانتخابية في روسيا، بالإضافة إلى القيود القانونية على شخصيات المعارضة، وغيرها من الأمور التي تتسم بها الأنظمة الاستبدادية لتحقيق مصالحها. ويشمل تحقيق التوازن أيضاً السماح لبعض شخصيات المعارضة الحقيقية بالظهور أو المشاركة في الانتخابات، ولكن ليس بالدرجة التي تتحدى بها قوة النظام، الأمر الذي لا يجعل الانتخابات تسفر عن نتيجة إيجابية ملفتة نتيجة لتلك المشاركة المقننة.
على الصعيد الاقتصادي، يحتاج بوتين أيضاً إلى تحقيق التوازن بين محاربة الفساد والمحسوبية بالقدر الذي لا يجعله يخسر دعم النخبة المسيطرة، أو يسمح له بالانتشار فيحاصر الاقتصاد ويعوق التنمية. فالمقايضات قد تتضمن دفع أموال للنخب مع الحرص على عدم تعكير صفو الاقتصاد والمخاطرة بالاستياء الشعبي.
عناصر التأثير الداعمة
في حين أن الغرب لا يعرف عن وسائل الإعلام الروسية إلا من خلال عدسة كل من “روسيا اليوم” أو “سبوتنيك”، فإن هناك بيئة إعلام وصحافة محلية روسية قوية، قد تكون أكثر انفتاحاً مما هو متوقع إلا أن ذلك لا يعني أنها تحاكي نظائرها في كل من الولايات المتحدة أو بريطانيا. وبشكل عام، يحتاج بوتين إلى وسائل إعلام منفتحة نسبياً، ولكن بالقدر الذي يمكنه السيطرة عليها بحيث يستعرض من خلالها نجاحاته وكفاءته في إدارة شؤون الدولة. ومن ثم، فإن الكرملين ينتهج نهجاً وسط بين السيطرة أو قمع الأبواق المعارضة، وبين عدم إغلاقها بشكل كامل، لأن القيام بذلك سيؤدي إلى تآكل الثقة المجتمعية الضرورية لاستمرار النظام.
ويحتاج بوتين إلى الأجهزة الأمنية أيضاً لضمان بقاء نظامه، لكن المؤسسات القوية جداً أو المؤسسات الموحدة بالتأكيد قد تعرض بقاءه للخطر إذا شعرت بالاستياء من بعض تصرفاته وتحالفت ضده. ومن هنا، كشف فراي أن الإبقاء على حالة تعدد الأجهزة الأمنية في النظام الروسي هي استراتيجية مقصودة لضمان عدم وجود معارضة موحدة، ولتجنيدها لمراقبة بعضها. وفي حين يؤدي ذلك إلى عدم الكفاءة والتكرار، فإنه يؤدي أيضاً إلى الحفاظ على الاستقرار الداخلي.
المجتمع الروسي المعاصر
بينما حاول فراي سبر أغوار شخصية بوتين وملامح الاستبداد التي تطغى على سلوكياته، فقد سعى في الوقت ذاته لتبديد العديد من المعتقدات والافتراضات المضللة حول السياسة الروسية التي ابتليت بها التقييمات الأمريكية لروسيا، بل إنها سيطرت على المناقشات الداخلية لعملية صنع السياسة الأمريكية تجاه موسكو؛ ومن ثم، حاول فراي استيضاح ملامح المجتمع الروسي المعاصر الذي أكد على حقيقة أنه ليس شعباً مستسلماً لمصيره، وأنه يدعم بوتين بشكل أعمى.
وهنا، استعان فراي بنتائج استطلاعات الرأي العام للحصول على صورة أكثر دقة للمعتقدات والأنشطة السياسية الروسية، مما يبدد العديد من معتقدات الغرب بأن الروس هم شعب يتعرض للخضوع، أو أنهم مجرد ضحايا للدعاية الإعلامية الموجهة من جانب النظام الروسي. فيلاحظ فراي أن موسكو تُعد من الدول التي لديها نسبة معقولة من السكان المتعلمين، هذا بالإضافة إلى درجات عالية نسبياً من التحضر، وسكان متجانسين، وجيل من الشباب الأكثر انفتاحاً، وهو ما يمكن أن يكون بمثابة لُبنات لتأسيس مجتمع أكثر استعداداً للتحول الديمقراطي في المستقبل.
ولا شك أن الوسيلة الإعلامية يتم توظيفها جيداً لتضليل الرأي العام الداخلي، فيتم خلق وجهة نظر مخيفة عن عالم خارجي وأنه غير مستقر ويهدد الوجود الروسي، وأن بوتين هو الوحيد الذي يقف في طريقه. حتى عندما تم القيام بعملية التسميم الفاشل لسيرغي سكريبال في إنجلترا، كانت الرسالة الأساسية التي أراد النظام إرسالها إلى هؤلاء المنشقين والجواسيس السابقين أنه لا أحد يعد بعيداً عن متناول الكرملين.
ويؤكد الكاتب كذلك أن النظام الروسي يعتمد على العمل السري بشكل كبير، ولكنه ليس غاية في حد ذاته، بل يتم النظر إليه على كونه وسيلة لتحقيق بعض أهداف السياسة الأوسع، وأنه يعد انعكاساً لنقص الحلول السياسية. وبالنظر إلى الأنشطة السرية لروسيا في الولايات المتحدة وأوروبا، يبدو أن جهود موسكو كانت إلى حد كبير جزءاً من حملة منسقة لزرع الفتنة والانقسام، وتقويض التحالفات القائمة بالفعل مثل حلف شمال الأطلسي والتحالفات الأوروبية.
وبصرف النظر عن مدى جدوى تلك الاستراتيجيات، لكن من الواضح أن موسكو تعتقد أن هناك بعض المنفعة التي قد تعود عليها من تصعيد مثل هذه الإجراءات السرية، ووفقاً لجميع الاحتمالات فإنها ستستمر في القيام بذلك في المستقبل، ولا سيما بالنظر إلى التكلفة المنخفضة لهذه الأنشطة والافتقار النسبي للاستجابة الدولية على الرغم من العقوبات الأخيرة.
وختاماً، يمكن القول إنه في حين لم يطرح فراي حلولاً سياسية لإعادة ضبط العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا، إلا أنه قدم إطاراً فعالاً يمكن من خلاله فهم سلوكيات بوتين والأنشطة السياسية الروسية على الصعيدين الخارجي والداخلي. فالهدف من الكتاب ليس شرح ما يجب فهمه عن روسيا، وإنما كيف يجب فهم ديناميكيات عمل النظام الروسي.
وتتمثل النتيجة الرئيسية التي حاول الكتاب التأكيد عليها هي أنه في حين تتأثر السياسة الروسية – مثلها مثل غيرها من الدول – بالإرهاصات التاريخية لتشكيلها، وبالمثل فإن بوتين بصفته الرئيس الحالي للدولة تتأثر قراراته بخلفيته وخبراته أيضاً. وعلى الرغم من أهمية هذين العاملين، إلا أنه لا يمكن الارتكان إليهما بشكل مطلق في فهم وتفسير تعقيدات السلوك الروسي؛ بل إن الاعتماد على أحدهما (أو كليهما) يعني الفشل في فهم ديناميكيات السياسة الروسية كما هو الحال اليوم، بما يعني الاعتماد على عدسة مصطنعة ومشوهة لرؤية تلك السياسة. ومن ثم كانت التوصية الأساسية للكاتب هي أنه يجب فهم السلوك الروسي في سياقه المناسب، بما يمكن واشنطن من صياغة سياسة ذكية ومعتدلة وعقلانية تجاه موسكو، وهو أمر مطلوب وحتمي الآن أكثر من أي وقت مضى، خاصة في ظل امتداد خيوط التقارب الحالي بين روسيا والصين.
المصدر: جامعة برسنستون / عرض: سارة عبد العزيز – نشر: مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة.
مصدر الصور: Daily Sabah -The Japan Times.
موضوع ذا صلة: جواسيس روسيا يتساقطون.. هل فقد بوتين مهاراته الإستخباراتية؟