قلنا إن الحاكم العربي هو من أبناء الوطن العربي ولكن عرضت له عدة عوارض جعلت العلاقة بينه وبين المحكوم مختلفة. فعمدنا إلى إصلاح هذه العلاقة حتى يكونا معاً في قارب واحد ينطلق بهما قارب الوطن إلى تحقيق أهدافه.
كذلك فإن المحكوم تعرض له عوارض تعوق سلامة العلاقات مع الحاكم وتسبب أزمات متلاحقة مكلفة للوطن. وكانت الصيغة المقبولة حتى وقت قريب هي صلاح الرعية من صلاح الراعي ولكني أنهج نهجاً صعباً بسبب عدم القدرة على إصلاح الحاكم، وهو إصلاح الرعية، فإذا صلح الإناء ترأس جميع مرافقه أفضل أبنائه، أما إذا فسد الإناء قفز على مرافقه أسوأ عناصره. والخلاصة إذا صلحت الرعية صلح الراعي، رغم أن الحديث الشريف حمّل المسؤولية على كل راع فقال: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.”
ونخصص هذه المقالة لإصلاح الحاكم، على أن نتبعه بمقال آخر حول إصلاح المحكوم خاصة وأن العلاقة بين فساد الحاكم وفساد المحكوم أصبحت واضحة، كما أن سلامة الحاكم وسلامة المحكوم ظاهرة أيضاً.
فما هي العوارض التي تعوق انسياب العلاقة السليمة بين الحاكم والمحكوم وكيف يمكن التغلب عليها؟
أول هذه العوارض هي إسرائيل، فقد كان ظهور إسرائيل في المنطقة حاسماً في كل ما يتعلق بالمنطقة خاصة علاقة الحاكم بالمحكوم.
ولايخفى أن مؤامرة إنشاء إسرائيل كانت واضحة ولكن هيمنة بريطانيا على المنطقة هي التي مكنت للمؤامرة على مراحل وبهدوء دون أن يلمح العرب أبعاد المؤامرة.
بل إن الاستعمار الغربي سحب قواته العسكرية ورتب أوضاع السلطة فأطلق الحكام العرب شعارات بلا مضمون مثل الاستقلال وعدم الانحياز والسيادة الوطنية والدولة الوطنية ومرحلة التحرر وحلت واشنطن محل بريطانيا في المنطقة وتصدت لمنع التسلل الشيوعي فانقسم الحكام العرب بين موسكو وواشنطن اللتين اتفقتا على أمر واحد وهو الاعتراف بإسرائيل.
العارض الثاني هو الهيمنة الأمريكية المطلقة خاصة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي فانفردت واشنطن بقيادة العالم وتضاعفت هيمنتها صحيح أن الصراع السياسي الروسي الغربي والصدام العسكري بين الناتو وروسيا في أوكرانيا قد أعطى مهلة للحكام العرب والاستقلال النسبي عن واشنطن وقد لاحظ الرئيس بايدن أن أوبك بلس التي خفضت الإنتاج النفطي اليومي هذا القرار يعتبر دعماً لروسيا في الصراع ولكن بعض الدول العربية كالسعودية نفت هذا الاستنتاج. وخطورة الهيمنة الأمريكية أنها تسخر قوتها وعلاقاتها لصالح إسرائيل بحيث تعتبر واشنطن اتساع التطبيع العربي مع إسرائيل نجاحاً باهراً للسياسة الأمريكية. فواشنطن هي التي تمكّن لإسرائيل في المنطقة.
والخطورة هي أن واشنطن وصل نفوذها الأمني والسياسي والاقتصادي شأناَ كبيراً بحيث نزعت قسطاً كبيراً من استقلال الدول العربية خاصة أن آليات النظام الدولي تعطي واشنطن والغرب فائض هيمنة وافراً بحيث أصبحت القاعدة أن مصلحة الحكام العرب في المحافظة على الوضع الراهن وعلى الحكم المستبد وفساد نخب النظام وهي الدعامة الأساسية للنظام فأصبح البون شاسعاً بين مصالح النظام الذي تدعمه إسرائيل وواشنطن وبين مصالح الوطن في كل الدول العربية.
ولهذا السبب تعاونت واشنطن مع إسرائيل ومع الحكام العرب في قمع ثورات الشعوب العربية وبدلاً من معالجة أسباب الثورات نشط هذا الثلاثي لمعالجة الثغرات التي سمحت بهذه الثورات وما دامت الأوضاع في كل الوطن العربي تتدهور بسبب سوء الإدارة، فإن أسباب الانفجار أكبر بكثير من عام 2011 وليس من مصلحة إسرائيل أو واشنطن أن ينفجر الوضع ولذلك ربما يعمد الحليفان إلى إجراء بعض الترتيبات في السلطة بحيث تقل أسباب الانفجار.
العارض الثالث، هو أمراض السلطة. هذه ظاهرة مؤكدة في جميع الدول بما فيها النظم الديمقراطية. والملاحظ أن في الدول المتخلفة يقفز الحاكم إلى السلطة وشرعية حكمه هي الفساد والقوة ولذلك يحتاج إلى الأنصار ولايطيق المعارضة ويعبد السلطة لأنها الوسيلة لكل الامتيازات. هذه هي مقتل جميع الحكام العرب على امتداد الأرض العربية وهذا هو السبب الأساسي في أنهم يضحون باستقلال بلادهم ويقبلون الإهانات في سبيل دعم الخارج لهم في السلطة.
المطلوب: تفكيك هذه العوارض الأربعة لإصلاح الحاكم العربي في السطور التالية معالجة سريعة للموضوع.
نقطة البداية أن يدرك الحاكم أن عبادة السلطة من دون الله والوطن كفر ديني وسياسي وأن سجل الحاكم العربي في ذلك قد أصبح مكشوفاً. فيمكن معالجة الحاكم نفسياً من أمراض السلطة وبالطبع هذا البرنامج بالنسبة للمستقبل وليس للحكام الحاليين.
والخطوة الثانية أن يدرك الحاكم المسافة الفاصلة بين مصالح وطنه ومصالح نظامه وأن يقلل هذه المسافة وبالطبع فإن البرنامج ينطبق على نظم الحكم الثلاثة العربية: النظم العسكرية والنظم الحزبية والنظم الأسرية. وطبيعي هذا البرنامج يحتاج إلى ثقافة للحاكم تختلف عن ثقافته الحالية فهو يتسامى على الشعب وذاته مصونة لا تمس ووصل في بعض البلاد إلى مرتبة الإله.
الخطوة الثالثة هي أن يتوقف عن التزود من الخارج بشرعية حكمه وأن يستمد الشرعية في البداية من أهل الحل والعقد كمرحلة أولى. وهذا يقتضي وقف التواطؤ مع الخارج ضد وطنه وشعبه والمطلوب في نهاية المطاف أن يتحول الحاكم العربي إلى الصوفية السياسية أي الشفاء من عبادة السلطة والانتفاع الشخصي بها؛ وبامتيازاتها.
عند هذا الحد يدخل الحاكم العربي في مرحلة القابلية للإصلاح ولها متطلبات أخرى بعد أن يلتقي معه الشعب في مرحلة إصلاحه هو الآخر. لأن فساد الحاكم وصلاحه مرتبط ارتباطاً وثيقاً بفساد الشعب أو أصلاحه ولهذا سياق آخر.
مصدر الصورة: صحيفة الغارديان.
إقرأ أيضاً: الحاكم العربي تاريخياً بين سلطة الدين وسلطة القانون
السفير د. عبدالله الأشعل
سفير سابق ومساعد وزير الخارجية الأسبق / أستاذ محاضر في القانون الدولي والعلاقات الدولية – مصر