شارك الخبر

 

هاني الظليفي*

لكل أمة أخطار تحدق بها، ومخاوف تضغط على وجدان أفرادها، والأمر ليس محصورا بعالمنا العربي ولا بوطننا الأردني، إنها تنسحب على الأوضاع العالمية برمّتها  في أوروبا وأمريكا، وأمريكا اللاتينية، فاليوم مثلا باتت الهجرة  من أكثر ما يؤرق الأوروبيين، وبالأخص هجرة المسلمين، سواء كلاجئين هاربين من مناطق الصراع والحروب الأهلية في سوريا والعراق، أو من مهاجرين اقتصاديين هاربين من تردّي الأوضاع  الاقتصادية في بلدانهم من دول شمال أفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى، هذه الهجرة المتنامية أصبحت فزّاعة تثير مخاوف الأوساط الشعبية والفقراء وأبناء  الطبقات العاملة  في أغلب بلدان أوروبا كإيطاليا، ألمانيا، هنغاريا، بولندا، سويسرا، وغيرها، مخاوف تستغلها الأحزاب القومية اليمينية المتشددة، والتي كانت مهمّشة ومنبوذة  في السابق، في الدعايات ضد المهاجرين المسلمين بحجة أنّ هؤلاء المهاجرين يستهدفون القيم الأوروبية المسيحية، ويرومون تحويل المجتمعات  الأوروبية، إلى مجتمعات إسلامية متشددة، معادية للديمقراطية ومناصرة للإرهاب، تستهدف تقويض أسس الحضارة الغربية، هذا الأسلوب من الترويج السياسي لأحزاب اليمين القومي المتطرف يدعى بالشعبوية، وهي نهج يدّعي الحفاظ على مصالح الشعب وقيمه الحضارية وشخصيته ومكاسبه من خطر الأعداء الافتراضيين، سواء كانوا أعداء خارجيين كما هو الحال في أقوام المهاجرين الأجانب وبالأخص المسلمين، أو الأعداء الداخليين، والذي يقصد بهم: النخب الحاكمة، من مناصري الاندماج الحضاري، والليبراليين، ودعاة الوحدة الأوروبية.

ومع تزايد أعداد المهاجرين واللاجئين إلى أوروبا وتفاقم العديد من الأزمات الاقتصادية  يتنامى نجاح الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تتبنى الخطاب الشعبوي الذي يخاطب عواطف ومخاوف الأوروبيين، ففي الأيام القليلة الماضية فقط، اكتسح الرئيس الشعبوي لحزب فيديسز الوطني اليميني المتطرف المعادي للهجرة والمسلمين خصوصا وللاتحاد الأوروبي فكتور اوربان الانتخابات الهنغارية، للمرة الثالثة على التوالي، والذي أقام سياجا حدوديا لمنع تسلل اللاجئين لبلاده، بينما انهارت أمامه شعبية الأحزاب اليسارية والليبرالية، كما تمكنت الشعبوية في بريطانيا قبل ذلك بالنجاح بإخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وحققت شخصيات وأحزاب شعبوية في ألمانيا وفرنسا والنمسا وإيطاليا وسويسرا وغيرها  نتائج ملتفة في الانتخابات، إذ أصبحت هذه الظاهرة شائعة في أوروبا، أي الخطاب والممارسات السياسية التي تحرّض الناس على التصويت للمتطرف، حتى باتت  الأحزاب الرئيسية التاريخية من ليبراليين واشتراكيين تخسر ناخبيها أمام صعود أحزاب اليمين القومي الشعبوي، كردّ فعل على عواقب الأزمات الاقتصادية، واتهام الوحدة الأوروبية والعولمة وسياسات الاندماج الحضاري بأنها سبب مباشر لهذه الأزمات الاقتصادية  لكونها بزعمهم تعرّض الهويات السياسية والثقافية المميزة لشعوب أوروبا للخطر، بينما نجحت بأمريكا في ايصال ترامب إلى رئاسة أمريكا، وفي تركيا إلى إحكام سيطرة أردوغان على مناحي الدولة التركية. 

مع ذلك، لا تتعدى الشعبوية في ممارساتها حدود الخطاب والدعايات الاتهامية، والمواقف الآنية الانفعالية وردود الأفعال الارتجالية العنترية، والصوت العالي، فهي نمط من الخطاب السياسي الذي يتوجه للناس بصورة المعني بكل إخلاص وتفاني بهمومهم العادية، ومخاوفهم اليومية، رافعا شعارات مبسطة، و طرح يتماهى مع لغة رجل الشارع، يشيطن النخب الحاكمة ويرفض ممارساتها، ويطعن بنواياها، ويحاول تقويض حججها، وسحب البساط من تحت أقدامها مستغلا فشل سياساتها أمام الأزمات الاقتصادية، ومركزا على استغلال حالة اهتزاز ثقة الناس بهذه السياسات و نتائجها المخيبة لآمالهم، وتراجع المشاركة الانتخابية للناخبين الذين عجزت الأحزاب السياسية عن تلبية طموحاتهم، وتحقيق الوعود الوردية التي طالما منّتهم بها.

هذا الأسلوب الخطابي المسمّى بالشعبوية لم يعد حصرا على اليمين المتطرف في أوروبا والأمريكيتين بعد أن حقق نتائج حيثما وجدت، لقد أصبح مطية للزعماء الشعبويين من رؤساء دول وأحزاب وبرلمانيين، وناشطين سياسيين وإعلاميين، غير أنه يظهر في الأردن في بعض النماذج لنواب في البرلمان يفتعلون المشادّات للفت الأنظار، ويطلقون خطاب شعبوي يداعب العاطفة الشعبية بما يتناغم مع مخاوف الناس والظهور بمظهر الزعيم الشعبوي كلما سمحت الفرصة، كما يظهر لدى بعض الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي  يبثون فيه نوع خطاب مريح وجذاب للجمهور يتماهى مع مخاوفهم وشكوكهم ومزاجهم الناقم على النخب السياسية، فقد باتت الساحة السياسية في الأردن بيئة خصبة لنمو وازدهار الشعبوية، التي ظهرت بعض أعراضها، على الجسد السياسي الأردني،  نظرا  لخيبة الأمل العامة من السياسات الاقتصادية، ولاعتلال الحياة الديمقراطية، من عزوف عن الأحزاب  وارتفاع نسبة الامتناع عن المشاركة الانتخابية خلال السنوات الأخيرة، ولوجود عيوب أساسية في اللعبة السياسية ، حيث تكاد تنعدم حالة الصراع السياسي بين الحكومة والمعارضة التي يبدو وكأنها بلا وجود  حقيقي على الأرض، أضف إلى ذلك  حالة الحرمان والتهميش والفقر، الذي يتفاقم مع السياسات الاقتصادية التي تتخذها الحكومة  تجاوبا مع املاءات صندوق النقد الدولي من رفع الدعم عن السلع الأساسية، وزيادة الضرائب والفشل في إحداث التنمية واستدامتها وسوء الإدارة الحكومية، والفساد وغيرها.

وفي ظل تنامي الشعبوية المحلية الطامحة التي تدّعي وقوفها بوجه مؤامرات مزعومة على الشعب من قبل النخبة، واحتمالية تغذيتها لمشاعر سلبية وعدائية وغير صحية، بعيدا عن إعطاء أي حلول عملية للمأزق السياسي والاقتصادي، بظل عدم وجود لعبة سياسية حقيقية تتصارع فيها الأفكار السياسية وتتنازع بشكل معقول وبنّاء  بين الحكومة والمعارضة السياسية، بدلا من الشعارات العاطفية الشعبوية، التي يتبناها الآن أشخاص وفي المستقبل أحزاب سياسية  مهمشة، ويخضم مزاج عام عازف عن الأحزاب، وضعف الأخيرة لدرجة الوهن الحاد فيتوقع أن تتمظهر الشعبوية وتبرز إلى حيز الوجود  كحالة نجومية دائمة ومتنامية، من شأنها إرباك النظام، وتقويض ما تبقّى من آثار الحياة الحزبية المهلهلة أصلا، وبالتالي القضاء على براعم الديمقراطية وتبديد آمال الحالمين بها، وإلغاءها كفكرة من أذهان الناس، وترسيخ جذور السلطوية التي هي سبب مباشر لكل المآسي السياسية والاجتماعية في عالمنا العربي، كما سيسهم ذلك في تعميق المشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وضياع مزيد من الموارد الهامة، والفرص والوقت الثمين، عبر تفرّد فئة قليلة العدد والخبرة بعملية اتخاذ القرار.

 باحث سياسي أردني*

مصدر الصور: فلسطين اليوم

 


شارك الخبر
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •