د. نواف إبراهيم
كان قرار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، سحب قوات من الأراضي السورية التي يحتلها ويسيطر عليها بشكل غير شرعي مفاجئاً لجميع حلفائه المحليين والإقليميين والدوليين بل وحتى على المستوى الداخلي. في المقابل، لم يكن القرار مفاجئاً للجانب السوري وحلفائه أبداً، وهم من خبروه لسنوات طويلة ليس في سوريا فقط، فالدولة السورية وحلفاءها كانوا يعلمون تماماً اقتراب هذه الخطوة، لكن الصعوبة كانت بتخمين ماهية وكيفية وزمن هذا الإجراء، وهو ما كان واضحاً في ردود فعل دمشق وحلفائها على ما تم.
المهم هنا أن الإعلان الأمريكي عن هذا الإنسحاب خلط الأوراق بشكل يصعب التكهن بما تحمله المرحلة القادمة، وهل ستكون خطوة إيجابية فعلياً لصالح الدولة السورية أم أنها عملية إعادة انتشار الأصيل وخاصة بعد الحديث بأن الوجهة التالية للقوات المتمركزة في الشمال ستكون إلى أربيل، العراق، وليس العودة إلى الوطن الأم، وتوجه قواته في قاعدة التنف إلى الأردن ما يعني اتباع الأسلوب والطريقة نفسها في التعامل مع تواجده في أفغانستان والعراق، اللذان خرج منهما عشرات المرات بالكلام فقط لا بالفعل، هذا من جهة.
من جهة ثانية، هل سيكون هذا الإنسحاب خطوة لإعادة انتشار الإرهاب في منطقة شمال وشمال شرق سوريا خاصة بعد أن بدأت مجموعات تنظيم “داعش” الإرهابي بالإنقضاض على قوات “قسد” في الوقت الذي أعلن فيه الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، تأجيل عمليته العسكرية المزعومة مصرحاً بأنه يدعم الحل السياسي في سوريا بالتعاون مع روسيا وإيران؟ يضاف إلى ذلك وجود الكثير من التعقيدات الأخرى التي ظهرت وقد تظهر مستقبلاً لجهة فهم وضع باقي القوات المتمركزة هناك سواء أكانت فرنسية أو بريطانية أو غيرها والتي وضعها الرئيس ترامب، بقراره هذا، في مهب الريح وهي التي قد تخوض مواجهات صعبة لن تقدر على تحملها بسبب ضعف موقفها وقوتها وعديدها في هذه المنطقة الإستراتيجية لسوريا وحلفاءها لجهة تموضع ثروات النفط والغاز، إضافة إلى أهميتها كنقطة وصل وتكامل جيو – استراتيجي واقتصادي بين سوريا والعراق وإيران والأردن، وحتى تركيا في حال جنحت فعلاً للتعاون مع هذه الدول.
لقد كان الموقف السوري واضحاً من البداية لجهة حتمية عودة الأرض إلى حضن الوطن مهما كان الثمن. لذا، يتضح أن الدولة السورية اكتفت بـ “صمت الواثق” من نفسه والذي لا يسمح كالعادة بكشف نواياه وخططته للتعامل مع أي تطور من خلال أي تصريح لا منفعة منه إلا كشف أوراقه أو بعضها. وهنا، تكمن حكمة التعامل السوري بشكل خاص مع جميع أشكال متغيرات الواقع في كل مراحله منذ بداية الحرب، أما بالنسبة لموقف موسكو فلا يحتاج إلى شرح وتوضيح وهو متناسق مع الصمت السوري لكن بصوت أعلى وضمن محاور محددة وبلغة واضحة لا تحتمل أو تحتاج إلى التخمين والتكهن بما يمكن أن تقدم عليه القيادة الروسية في المرحلة القادمة.
لقد كان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، واضحاً في تصريحاته بهذا الخصوص إذ تحدث بثقة من منطلق القوة، بالإعتماد الواضح على الثقة بصمود الدولة السورية وموقفها وقدرتها على الإستمرار في المواجهة، وبالتالي التقليل من إمكانات مناورة الولايات المتحدة مهما كانت أهدافها المبيتة من عملية الإنسحاب وشل قدرتها على إحداث أي تغير في الوضع الجيو – سياسي المستجد في المنطقة، وفي سوريا تحديداً، مهما كانت طبيعة المرحلة المقبلة.
الآن، نحن نعلم أن هناك الكثير من التبدلات على الساحة السياسية التي نتج عن أحداثها متغيرات وانقلابات إقليمية ودولية؛ فعندما قال الرئيس بوتين إن العام 2019 هو عام التسوية في سوريا، فهذا يعني الكثير حيث يدل على الثقة بأن الولايات المتحدة في حالة “انحسار إجباري” وتأثيراتها القادمة لا تستدعي القلق، ولكن تستدعي الحذر وعدم الإستهانة بما يمكن أن تحضر له.
من هنا، يمكن القول إن انسحاب الولايات المتحدة من الأراضي السورية التي تحتلها يحمل عدة أوجه؛ فهناك وجه داخلي – اجتماعي يعتمد على الواقع الداخلي للدولة السورية، ووجه إقليمي – دولي يعتمد على تقاسم المصالح وإعادة ترتيب التحالفات. إذا ما أتينا على الواقع الإقليمي، فإننا نرى أن ما يجري الآن، بين الولايات المتحدة وتركيا، هي عبارة عن صفقات قديمة – جديدة منها ما تم التوافق عليه بشكل جزئي، ومنها لم يتم التوافق عليه بشكل كلي وإنما دارت حوله مناقشات وجرت بشأنه مساومات، وبعض مشاهدها يكمن في إقناع واشنطن الرئيس أردوغان بشراء صواريخ “باتريوت” بمبلغ 3.5 مليار دولار مقابل أن يتخلى عن شراء منظومة الـ “إس.400” الروسية، وإخلاء سبيل القس الجاسوس الأمريكي، أندرو برونسون، وكذلك الأمر رفع العقوبات عن وزيري العدل والداخلية التركيين.
في المقابل، يسلم الجانب الأمريكي “رقبة” قوات “قسد” إلى أنقرة من دون إعلان صريح ومباشر ما يمكن التركي من أن يحقق مكاسب مقابلة تساعده على تحسين وضعه الداخلي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، كالتأكيد على قدرته في تحقيق المكاسب الوطنية اللازمة والمفروضة عليه أصلاً وخاصة أن شعبية الرئيس أردوغان قد انخفضت بشكل ملحوظ في ظل خلافات باتت ظاهرة بين القيادات العسكرية والسياسية على طريقة التعامل مع الوضع الراهن، نتيجة التكاليف الباهظة التي تكبدتها البلاد من جراء عملياتها العسكرية السابقة في الأراضي السورية، كما يجب علينا ألا ننسى التسريبات الخطيرة حول وجود أسلحة وصواريخ نووية أمريكية على الأراضي التركية، التي ستكون في موضع قلق حال تزعزع أو اهتزاز الوضع الداخلي، قبل قيام واشنطن بالإجراءات اللازمة، فتحدث الكارثة إذا ما وقعت تلك الأسلحة بأيدي جهات أخرى. لذا، يضغط الجانب الأمريكي على تركيا، ويقتنص منها الكثير بحكم أهمية موقعها ودورها المحوري فيما يجري؛ فتارة يضغط عليها وتارة يهددها، وتارة أخرى يعطيها بعض المكتسبات ليهدئ من روعها دون أن تعطيها فرصة الشعور الكامل بالقوة والأمان والقدرة على اللعب والمناورة لأن تكلفتها ستكون باهظة.
هنا أيضاً يجب ألا نغفل حقيقة ان الرئيس ترامب سيضع جميع حلفائه الإقليميين والدوليين، على وجه الخصوص الفرنسي والبريطاني، في وضع محرج عندما يخلي الساحة لأن الجميع كان يتحامى بالأمريكي، والأمريكي كان يتحامى بـ “قوات سوريا الديموقراطية” التي كانت تنفذ أجندة وضعها بشكل مستقل وحاول أن يحققها من خلال استغلال الجانب التركي وغيره من القوى الأخرى التابعة. هذا ليس تجنٍ وإنما هو أمر واقع وظاهر للعيان منذ اللحظة الأولى لإحتلال وتمركز واشنطن في جزء من الأراضي السورية، ضف على ذلك، وفي إطار هذه الصفقات، الحديث عن تسليم الداعية الإسلامي، فتح الله غولن، إلى تركيا، وغيرها الكثير من المقايضات الأخرى حيث أن العلاقة بين الأمريكي والتركي تقوم على أساس تحقيق المكتسبات والربح دون أدنى حد من الإحترام المتبادل، وبكثير من المساومة على ما يريد أن يحققه كلا الطرفين.
من هنا، نرى من الواضح أن الولايات المتحدة وتركيا هما في حالة تنسيق وتعاون مستمر بما يخدم مصالح كل طرف، وكل ما كانت تقوم به تركيا، من التعاطي بأسلوب “الحط والنط والقفز من حضن إلى حضن”، كان لعباً على الحبال، خاصة في تعاملاتها مع الجانبين الروسي والإيراني، وهو ما اتضح تماماً في “اتفاق إدلب” الذي فشل أصلاً، وظهر ذلك جلياً من خلال سلوك المجموعات الإرهابية المسلحة التي ترعاها تركيا، الضامن لتنفيذ ما تم الإتفاق عليه في “أستانا”، ولقاءات أخرى على مستوى الرؤساء ووزراء الخارجية وأجهزة مخابرات الدول الضامنة، وطريقة تعامل الجانب التركي مع تحركات هذه المجموعات كانت أكثر من مفضوحة.
إن أهم ما يمكن الإشارة إليه في هذا الخصوص، إعداد الولايات المتحدة لخطة هدفها إفراغ الداخل السوري من محتواه الصمودي بعد وقوفه بوجه التحديات والمعارك؛ فالأمريكي الآن يبحث عن مخرج له، دون التفكير بحلفائه على الأقل وهذا هو الظاهر حتى اللحظة، وبالتالي فإن أحد المنافذ يكمن في مدى ما يستطيع أن يفعله على الساحة الداخلية السورية إذ بدأت معالمها بالظهور بشكل سريع عندما خرجت مظاهرات ترفع علم الإنتداب الفرنسي، في درعا البلد، وتطالب بنفس المطالب التي تسببت ببدء الحرب.
إذاً، يبدو أن هناك إيعازاً لجهات معينة هدفها خلق حالة من البلبة والإرتباك والفوضى، وحتى الإشتباك الداخلي بين أبناء الشعب السوري، إذ تبعته حملة على وسائل التواصل الإجتماعي ضد الكرد السوريين، رافقته حملة تسعير من أجل الإنتقام، لكن هذا الأمر لن ينجح لأن الشعب السوري شعب يعي ويدرك جيداً مكامن الحدث وخطورة المرحلة وأنه لن ينجر إلى أية فتنة؛ فالسوريون معروفون أباً عن جد بعمق روابط العلاقة فيما بينهم، مهما كانت النوائب، وحبهم للوطن بكافة أطيافه الإجتماعية والعرقية والإثنية والقومية وما يرتبط بها. أما من خان الوطن، وبشكل ظاهر وعلني وغير قابل للتأويل، فسيحاسب بالقانون ومن خلال الجهات الحكومية المختصة فقط، إذ لم يحدث أن قام الشعب السوري بتنفيذ أي حكم من تلقاء نفسه، بغض النظر عن بعض الحالات الفردية أو الجماعية المنظمة بشكل مقصود ولأهداف معينة.
وبالعودة إلى أصل الحدث، يحاول الأمريكي، بعد أن تم إنجاز اللجنة الدستورية بشكل شبه كامل، التلاعب بها وبمخرجات الحوار بشأنها لأنها تعتبر المفتاح الرئيس لإنطلاق عملية التسوية والحل السياسي. من هنا، سنرى أيضاً محاولات جديدة، بهذا الإتجاه، لناحية وضع الدولة السورية في موقف العاجز ليقولوا “إننا خرجنا وفسحنا المجال ووفينا بوعودنا، ولا بد من عودة اللاجئين، فإن إتمام العملية السياسية تحتاج إلى أمن واستقرار وها نحن نوفره بخروجنا بعدما قضينا على تنظيم داعش. من هنا، فإن عودة المهجرين مهمة جداً، وهم بالملايين، وتحتاج إلى وقت وإمكانات هائلة لترتيب أوضاعهم من أجل أن تكون هناك مشاركة فعلية للشعب السوري في تقرير مصيره.”
كل هذه العوامل، برأي الأمريكي، ستكون غير متوفرة وبالتالي ستتهم الدولة السورية، من جديد، بعدم قدرتها على القيام بالعملية السياسية، وعدم توفير الشروط اللازمة لها رغم الجهود التي بذلت، وفق زعمهم. هنا، يتحرك الأمريكي ومن معه عن طريق منظمات المجتمع الدولي وفق خطة تدخل جديدة لتحقيق الحل السياسي بناء على وجهة نظره؛ وهذه الخطة أيضاً لن تنجح لأن الدولة السورية واعية تماماً لها وتفهم أبعادها. بالمحصلة، لن تستطيع الولايات المتحدة إحداث أي خرق للجبهة الداخلية السورية وهذا واضح ولن يحتاج إلى شرح أكثر.
أما الأمر المهم الآخر هو طلب الولايات المتحدة من إيران الخروج من سوريا، علماً أن جميع التصريحات الرسمية، السورية والإيرانية، تنفي وجود أي قوات مقاتلة بل مستشارين فقط. إلى ذلك، شهدنا أيضاً كيف أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، قد هدد بضرب الجيش العربي السوري والقوات الإيرانية، التي يزعم وجودها، بعد الإنسحاب الأمريكي، حيث نعلم بأن الإسرائيلي كان يحضر لشيء ما في جنوب لبنان تحت مسمى عملية “درع الشمال” وقضية أنفاق حزب الله والتي فشلت من قبل أن تبدأ إذ لم تستطع التخفيف من وطأة الضغط على الأمريكي في المناطق السورية التي يحتلها.
للتوضيح أكثر، سربت وسائل إعلام عبرية أن الجانب الأمريكي أعلم نظيره الإسرائيلي بهذه الخطوة قبل عدة دقائق من الإعلان عنها ما أثار جنونه بإعتبار أن الرئيس ترامب قد سلم سوريا لإيران وحزب الله؛ إذ ظهرت مواقف داخلية وإقليمية ودولية مختلفة ومتباينة حول هذه الخطوة لكن جميعهم كان “ممتعضاً” ليس فقط من جراء الخطة، ولكن على ما يبدو أن الرئيس الأمريكي اتخذ هذه الخطوة دون التنسيق مع بعض من هذه القوى لأهداف لا يعلمها أحد إلا هو وفريقه المقرب لأن النوايا خلف ذلك تبدو “خبيثة” لكونها تحضر لشيء ما. ولعل نقل المواجهة أو تسعير المواجهة من خلال الإعتماد على “تهور” الجانب التركي وانفعاله وإحساسه بالإمساك بزمام الأمور الهدف منه إحداث مواجهة بين “قسد” وتركيا أو مواجهة تركية – سورية – روسية – إيرانية غير مباشرة في حال قررت قيادات “قسد” وضع نفسها تحت تصرف الدولة والجيش السوري، أو إذا ما توصلت إلى صيغة ما تحميها من “بطش” التركي الذي أعد العدة للقيام بعملية عسكرية طاحنة في مناطق تواجدها بغض النظر عن إعلانه تأجيل العملية.
في المقابل، مهما كانت الإنسحابات أو التغيرات أو الإنقلابات فهي لن تؤثر على التفاهمات التركية والروسية والإيرانية مهما تلاعبت أنقرة لناحية التعامل مع الوضع السوري؛ فحتى التهديدات والوضع المستجد في سوريا بجله لا يعتمد على كل ما سبق وإنما على استمرار صمود الدولة السورية وقدرتها، مع حلفائها، على التعاطي مع المستجدات الراهنة وإيجاد المخارج والمداخل اللازمة للدول المعتدية، إذ ستبقى سوريا هي الرابح الأكبر، بالرغم من التكلفة الباهظة، وأما الخاسر الأكبر هو الكيان الصهيوني.
واضح الآن، على المستويين الإقليمي والدولي، أن سوريا باتت نقطة جذب؛ فزيارة الرئيس السوداني، عمر البشير، مؤخراً تعتبر دليلاً وصول مضمون رسالة الرئيس ترامب إلى العالم العربي، وخاصة دول الخليج، بالتخلي عنهم بعدما قام بإبتزازهم كما يشاء، إضافة إلى أنها ستكون باكورة الزيارات ومن بعدها ستكر السبحة لتفتح الطريق أمام آخرين، حيث يترافق ذلك مع رسالة للإتحاد الأوروبي وإلى جامعة الدول العربية يطلب فيها التوسط من أجل عودة دمشق إليها، وهذا إن دل على شيء فهو يدل على ضرورة التعامل معها. فكما قال الرئيس البشير، إن سوريا هي نقطة ارتكاز لمواجهة المخاطر التي تهدد دول المنطقة ولا بد من التعامل معها.
لقد بات الوضعين السياسي والميداني بيد سوريا اليوم، فلولا تخوف الرئيس ترامب من أن يجري لجنوده ما جرى لهم في ثمانينيات القرن الماضي في لبنان، إذ حمّلوا إلى بلادهم في التوابيت، وتتضاعف عنده المشاكل لما قام بمثل هذا الإعلان، وهو ما بدا واضحاً من خلال تشكيل القوات الشعبية وخروج أبناء المنطقة للتنديد بالعدوان التركي والأمريكي؛ فهذا الشعب يشكل داعماً رئيساً وأساسياً للجيش العربي السوري في حال وقعت مواجهة مع التركي، أو مع أي طرف آخر معتدي، وهنا لا يمكننا أن ننسى التصريحات الرسمية السورية، على أعلى المستويات، بأن الدولة عازمة على تحرير آخر شبر من الأراضي المحتلة. فصمود الشعب السوري، يعتبر ركيزة أساسية من خلال التفافه حول قيادته السياسية، ودعمه للجيش من دون أن نغفل الدور المهم الذي لعبه ويلعبه الحلفاء في الميادين العسكرية والسياسية والدبلوماسية وفي مجالات أخرى عديدة.
تأتي كل هذه المعطيات في وقت تشهد فيه عدد من البقع الجغرافية سخونة بين واشنطن والكثير من الدول، أبرزها ما يحدث في بحر الصين، مروراً بنشر صواريخ أمريكية في دول أوروبا الشرقية، ومحاصرة روسيا في مناطق بحر البلطيق والبلقان، وصولاً إلى أوكرانيا، وإلى المنطقة الأكثر خطورة، التي تشهد تحضيرات مهمة يكمن أبرزها في وصول فريق وحدات خاصة من الضباط والخبراء التابعين لجهاز الموساد إليها بحجة تدريب قوى الأمن الأوكراني على عمليات أمنية، حيت تتدخل إسرائيل، وبكل وقاحة، في مواجهة ضد روسيا، بجانب الأمريكيين، بعد ما شلت صواريخ “إس.300” حركتها في الأجواء السورية. إضافة إلى ما سبق، هناك تخوف من تحضير سيناريو للإعتداء على إيران لكنه ما يزال غامض المعالم، ناهيك عن أن الحديث بأن مسرح الإشتباك القادم سيحل في دول شمال أفريقيا حيث لاحت بشائره من السودان، وبالتالي وجود صعوبة في رسم معالم أو ملامح المرحلة القادمة من المواجهة العالمية الحاصلة.
إن المستقبل القريب يتجه نحو إيجاد حل سياسي في سوريا يمنحها الإستقرار، خصوصاً وأن جميع الأطراف المعتدية هي في حالة “هروب جماعي”، إضافة إلى أنهم منقسمون إلى قسمين؛ الأول، يبحث عن مخرج أو مهبط آمن. الثاني، تم استنزافه في الحرب وبالتالي فهو يبحث عن مدخل لعودة العلاقات، وهذا ما سنراه في الفترة القادمة من زيارات بالجملة، على جميع المستويات، تلوح بالأفق وييتم التحضير لها إعلاميا وشعبياً.
ومن أبرز نتائج المرحلة الحالية المهمة، فشل المحاولات لإقصاء روسيا وإيران وتحجيم دورهما في المنطقة، فلقد استطاعت روسيا تحويل جميع أشكال الضغط، لمنعها من دعم سوريا، إلى فرص استفادت منها في كافة المناحي والمجالات التي ساعدت، إلى حد ما، على تحقيق الإستقرار الداخلي وهذا ما سيعطي الرئيس بوتين، خلال الفترة القادمة، القدرة على الإهتمام بالساحة السياسية الخارجية في مواجهة المشاريع الأمريكية والغربية في المنطقة والعالم. أما على المستوى الإقليمي، نستطيع أن نتحدث عن إيران بنفس المنطق، والأشهر الثلاثة القادمة سيحدث فيها متغيرات مهمة حيث ستمسك سوريا، وحلفائها، بزمام الأمور بشكل كبير جداً، حيث فتح وأعاق صمود دمشق ملفات كثيرة أهمها فضح سياسة التطبيع السرية مع الكيان الإسرائيلي، وبالتالي إفشال “صفقة القرن”، وتقسيم سوريا ودول المنطقة إلى كيانات ودويلات متناحرة على أساس عرقي طائفي وإثني وقومي وما شابه.
ختاماً، لا نستطيع التحدث عن النصر أو الإنتصار إذ ما نزال بحاجة إلى خطوات شاقة وصعبة، وأظن أن سوريا وحلفاءها، على المدى المتوسط ومن خلال ما يجري الآن، يستطيعون إنجاز جزء كبير منه تتبعه في المرحلة القادمة الكثير من المتغيرات التي تتجه نحوها دول المنطقة بعد أن بات لا حول لها ولا قوة مع انحسار الجانب الأمريكي، فخطوته تلك هي نوع من الهروب. أما خطوته التالية، فلا يمكن توقع زمانها أو مكانها كونها مرتبطة به.
في المقابل، إن نجاحه أو فشله بات مرتبطاً بقدرات الحلف، الإقليمي والدولي الناشئ، على مواجهة التحديات القادمة في ظل المتغيرات والإرتدادات المتعلقة بالوضع الأمريكي الداخلي بفعل سياسة الرئيس ترامب “الغريبة” والتي قد تقصر عمره السياسي أو حتى من حياته كإنسان لأن أسباب الحرب الأمريكية الداخلية باتت واضحة جداً إذ أن الإنسحاب من المنطقة سيقلل من نفوذ واشنطن وبالتالي إن غيابها سيفقد حلفاءها القدرة والنفوذ والتأثير على مجريات وتطور الأحداث في المنطقة ككل، وبشكل خاص في سوريا.
إن سوريا لن تقع في الفخ لأنها تدرك تماما أن الأمريكي كقطاع الطرق يطلقون النار ثم يهربون كي يقع الهدف في حقل الألغام وهذا ما يحدث مع سوريا التي لها تجربة عميقة مع “الإجرام” الأمريكي وأساليبه وأدواته مهما تغيرت أو تطورت.
أما بالنسبة إلى تركيا، فإن الولايات المتحدة والغرب وإسرائيل ستتجاوز أية خلافات مع أنقرة، وسوف يستمرون فعل كل ما بإستطاعتهم من اجل ابقائها رهينة سياساتهم بشتى الوسائل لأنهم لا يريدون بأي شكل من الأشكال أن تتقرب تركيا سواء من العرب أو من الدول الإسلامية، فهذا يشكل خطراً كبيراً عليهم وعلى مصالحهم بسبب توسع جبهة المواجهة معهم بتقرب تركيا من هذين الطرفين.
*إعلامي وكاتب سياسي سوري
مصدر الصور: سبوتنيك – يورو نيوز – أرشيف سيتا.