د. محمود الأفندي*

في أوائل شهر مارس/آذار 2020، أعلنت منظمة الصحة العالمية عبر تقريرها بأن فيروس “كورونا” مصنف ضمن الأمراض الجائحة – Pandemic، وهو مرض يختلف عن الأمراض الوبائية – Epidemic بأن له تأثيرات على المستوى الإقتصادي إضافة لتأثيره على المنظومة الصحية للشعوب.

جاءت “جائحة” كورونا لتستهدف الشريحة البشرية على الأرض، مؤثرة بقوة أكبر على الأشخاص ذوي المناعة الضعيفة من المسنين وأصحاب الأمراض المزمنة، مثل الإلتهاب الرئوي والسرطان والسكري، وهم فئة بحاجة إلى كافة إجراءات العناية الصحية والسلامة بشكل عام بغض النظر عن وجود الفيروس.

وما إن ظهر هذا الوباء حتى سارع بعض السياسيين في العالم لإستثماره لخدمة مصالحهم الشخصية مستغلين ذلك في دعم توجهاتهم المريضة، ومستخدمين كافة وسائل الإعلام لضرب حكومات وأنظمة سياسية يستهدفونها في كل برامجهم وتصريحاتهم. فلقد كانت الحكومة السورية أولى الحكومات التي حاولت وسائل الإعلام الناطقة بإسم المعارضة، سواء تلفزيونياً أو عبر صفحاتها على وسائل التواصل الإجتماعي، والدول الداعمة لها تناولها ضمن هذا الإطار، حيث جاءت الإتهامات بأن سوريا تعاني من تفشي فيروس “كورونا” بين صفوف الشعب بشكل منقطع النظير، وأن الحكومة تتستر على ذلك رغبة منها بحماية مصدر الوباء وهو “ميليشيات” إيران، على حسب ادعاءاتهم، غذ حاولوا تأكيدها عبر مئات الريبورتاجات المفبركة وشهود عيان مجهولة المصدر حتى وصل بهم الأمر إلى قيام إحدى هذه القنوات المعارضة بإنتاج فيديو لعبت فيه دمية دور البطولة وتسمى “الكورونا” مظهرة عناصر الأمن والمخابرات السورية يستهترون بالفتاة الدمية ويستخدمون معها أسلوب القمع والتهديد خلال مشهد عملية التحقيق معها.

هذه القنوات المعارضة تستضيف أحد الضباط السوريين، المنشقين عن الجيش، كخبير استراتيجي وهو الآن أحد المرتزقة يكسب قوت يومه من الأخبار الزائفة، رغم أنه كان يعمل في قطاع البحرية وليس له خبره في المجال الإستراتيجي، ولكنه كان أحد الأمثلة الذي قام بنشر فيديو على حسابه في “تويتر” يظهر شخصاً يستند إلى شجرة في دمشق ليلاً، وقد أثار هذا الشخص الرعب فيمن حوله من الناس، فقاموا بنأي أنفسهم عنه لإعتقادهم بأنه يحمل فيروس “كورونا”، وباتوا يصورونه عن بُعد، ليسقط هذا الشخص بعد برهة، وهذا ما دعا الجميع لإعتقاده بأنه يحمل المرض الوبائي متجاهلين أنه من الممكن أن يقع أي شخص لعدة أسباب مرضية، كأن يتعرض لأزمة قلبية أو انخفاض ضغط الدم المفاجئ وغيرها من الإحتمالات المغفلة.

ومثل أي موقف يتم استثماره لخدمة غايات المعارضة، تم استثمار هذا الفيديو إذ سارعت قنوات المعارضة، والدول الداعمة لها، للإشاعة بأن الناس في سوريا يقعون أمواتاً بسبب “الكورونا” في ظل صمت الدولة السورية وعدم إفصاحها عن تفشي المرض لحماية الجانب الإيراني، ولذلك وبسبب هذا الرجل يجب على الحكومة السورية التنازل عن الحكم وتسليم السلطة لمن هو أقدر منها على قيادة الدولة.

تطورت الأحداث لتقوم تركيا، في منتصف شهر مارس/آذار، بالاعتراف بأن عدد من جنودها قد أصيبوا بالفيروس، وأن مصدر الإصابة هو ما يسمى “الجيش السوري الحر”، حيث نقلت العدوى بين صفوف الجنود الأتراك في عدة ولايات في المناطق الشمالية من سوريا والمناطق الجنوبية من تركيا، وهو أمر يشكل خطراً يحدق بسوريا كاملةً. أيضاً، اعترفت بسرعة انتشار الوباء في تركيا بشكل كامل، وقد وصل الأمر بالجدول الزمني للإصابات لأن يصبح قريباً، نوعاً ما، للعدد المثبت في إيران.

من الجدير بالذكر هنا أن الحكومة السورية، وعند اتهامها بأن سبب انتقال الفيروس إليها هو إيران، لم تقم بالمعاملة بالمثل ولم توجه أسلحتها الإعلامية لتتهم تركية بأنها سبب انتقال الفيروس إليها، وذلك بسبب رؤيتها التي تعتبر بأن شعبها بكامله سوري، مؤيداً أم معارضاً مسلحاً أو غير مسلح، وهي كدولة مسؤولة عن تأمين مستقبل أبنائها وحمايته من الأمراض والأوبئة.

وقد أشار آدم ايريل، سفير أميركي سابق في البحرين، بتغريدة على حسابه “تويتر” بأن مشكلة “كورونا” لن تكون مشكلةً حقيقةً في نيويورك، بل ستكون المشكلة الحقيقية في الدول مثل سوريا والعراق واليمن، التي سيجتاحها المرض بشكل كامل. وهذا الأمر يأتي بالتوازي مع ما جاء في تصريحات وزارة الخارجية الألمانية أيضاً التي تقول بأن سوريا ككل ستعاني من هذا الوباء، أو بنسبة كبيرة منه على أقل تقدير.

وتماشياً مع المثل الروسي الذي يقول “لا تعلمني كيف أعيش.. بل ساعدني أن أعيش”، فمن غير الإنسانية أن يتم استثمار جائحة “كورونا” لتكون أسلوب ضغط جديد على لمواطنين السوريين ليقوموا ضد دولتهم محاولين تغيير السلطة، فالشعب أنهكته الحرب على مدى 9 سنوات إذ عانى فيها من الحصار الإقتصادي وفقدانه لأقل حقوقه من مستلزمات العيش بسبب تلك العقوبات التي لعبت الولايات المتحدة الأميركية الدور الأساسي فيها.

في ظل هذا الوباء الذي يجتاح البشرية جمعاء، من الأجدى نفعاً أن تتكامل الشعوب وتتكاتف الجهود مع بعضها، وأن يقوم كل من العلماء والأطباء في كل العالم بدعم بعضهم لإيجاد المصل المضاد لهذا الفيروس. فتوجيه الإتهامات وتجييش الإعلام لتصعيد الأحقاد، واستثمار الأزمات الصحية للمصالح الشخصية من شأنه أن يسعى بالشعوب إلى التهلكة. من موسكو، أجد نفسي مضطراً لأن أذكر ما قامت به الحكومة الروسية التي سارعت لإصدار قانون يعاقب بالسجن لمدة 5 سنوات لكل من يستخدم “كورونا” للإساءة لشعب ما أو لقومية أخرى، كما يعاقب هذا القانون كل شخص غير مختص ينشر أو يستخدم هذا الوباء لبث الرعب والخوف.

ما قامت به روسيا يشكل مثالاً يحتذى به، ومن المجدي أن تقوم باقي الحكومات في باقي البلدان بإصدار قوانين وقرارات مماثلة لقطع الطريق أمام المتسلقين وإيقاف “الهيستريا السياسية”، لأن ما يزيد عن 50% من شعوب العالم هي في الحجر الصحي، وجميع الناس تحتاج لأخبار مطمئنة. أما الوقت الحالي، فليس هو الوقت المناسب للتهديدات والتصريحات، ومن المعيب أن تتوجه الأسلحة تجاه حكومة أو شعب ما. فعندما ظهر الفيروس في الصين، التي تعد مصدر الوباء، لم تحشد الدول قواتها وتوجه أسلحتها للقضاء على بكين عقاباً لها لتصديرها هذا الوباء، وذلك ليقين العالم كله أن الوباء ليس له أرض أو شعب أو نسب، بل ظهر صدفةً فيها وانتشر بسرعة نتيجة العولمة.

مع كل تمنياتنا بالرحمة لوفيات هذا الوباء والشفاء العاجل للمصابين، ولكن يجب القول بأننا أمام مرض جائح يستهدف صحة البشرية واقتصادها، فعلى جميع المصابين به الإلتزام بالتعليمات الطبية والحجر الصحي مهما طال زمنه، وعلى جميع الشعوب التكاتف والإلتزام بإجراءات حكوماتها الإحترازية لمنع انتقال العدوى، والتحلي بالوعي والمسؤولية لعدم الوقوع في شرك السياسيين المتسلقين الذين اعتادوا الإصطياد في الماء العكر ورمي الإتهامات وتجييش الأحقاد، بل يجب التوجه نحو الخطوات الجدية لإنهاء الهيمنة الإقتصادية التي تفرضها العقوبات الدولية، لأن الحكومات لا تعاني من العقوبات بل تقع نوائبها على الشعوب التي تدفع الثمن غالياً.

من أيرز الأمثلة على ذلك هو الإطاحة العسكرية بالرئيس العراقي الأيبق، صدام حسين، بعد أن فشلت سياسة العقوبات بتحقيق ذلك، غذ لم تقدم هذه العقوبات إلا الجوع والعوز للشعب العراقي طوال 13 عاماً. وكذلك الأمر بالنسبة لكوريا الشمالية وإيران، التي لم تقدم العقوبات فيهما أية نتيجة سوى ضعف البنية الصحية والمعيشية لشعبيهما، فهي تؤذي الشعوب وليس الحكومات؛ لذلك، يجب إزالة العقوبات عن جميع الشعوب في هذه المحنة.

أيضاً، تعد الخطوة التي قام بها الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد إمارة أبو ظبي تجاه الجمهورية العربية السورية، خطوة إنسانية بإمتياز إذ تفيد معلوماتي الضحلة عن فحوى الإتصال الهاتفي، الذي جرى بينه وبين الرئيس بشار الأسد، أن الإمارات ستفك الحجز عن الأموال التي فرضت عليها عقوبات سابقاً، تحت ضغط أميركي، وذلك لأن التضامن الإنساني مع الشعب السوري واجب في هذا الوقت. فإذا كان هذا فعلاً ما تضمنته مبادرة الإمارات، فهي مبادرة إنسانية جديرة بالاحترام وتستحق عليها كل التحية والشكر، على أمل أن تحذوا بقية الحكومات حذوها.

*الأمين العام لحركة الدبلوماسية الشعبية السورية.

مصدر الصور: فرانس 24 – روسيا اليوم.

موضوع ذا صلة: ترامب وسياسة الفشل في إحتواء وباء “كورونا”