إعداد: يارا انبيعة

“لو كانت مقاييس اليوم سائدة في الماضي، لما بقي رئيس حكومة في إسرائيل خارج السجن.” بهذه المقولة دافع أحد المقربين من رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، عنه بينما يقلب محققو الشرطة هذه المقولة على عقبها مشيرين إلى أنه لو عولجت قضايا الفساد الصغيرة في الماضي، لما كان نتنياهو وسابقوه في المنصب قد حملوا وصمة عار الإمتثال في غرف التحقيق في شرطة مكافحة الفساد، ولكان معيار نظافة الكف هو السائد في السياسة الإسرائيلية.

وبغض النظر عن هذا النقاش المحتدم في مجتمع هذا الكيان، فإن هناك حقيقة أن الفساد بات ظاهرة في سياساته، تورط فيه الكثير من كبار المسؤولين، بمن في ذلك رؤساء دولة وحكومات ووزراء، فضلاً عن مسؤولين كبار في المؤسستين السياسية والعسكرية.

تاريخ من الفساد

أول رئيس حكومة في كيان العدو، ديفيد بن غوريون، كان معروفاً ببعده عن الفساد، لكن خلال حكمه، تورط ابنه عاموس في قضية تسببت له بحرج شديد، فقد كان بن غوريون الإبن، عام 1955، نائباً لقائد الشرطة العام، وتورط في علاقة مشبوهة مع عدد من رجال الأعمال الصهاينة، الذين كانوا قيد التحقيق في الشرطة بشبهات فساد ورشى مع جهات في ألمانيا.

 لكن في تلك الأيام، لم تكن سلطات القانون (الشرطة والنيابة والقضاء) ولا الإعلام متميزة في محاربة الفساد كما هي اليوم، وعلى الرغم من أن القضاة انتقدوا عاموس بن غوريون على علاقاته المشبوهة وانتقدوا والده رئيس الحكومة، الذي تعمد الظهور أمام الإعلام مع ابنه، فإنه برأ ساحته.

بعد بن غوريون، تولى رئاسة حكومة الإحتلال عدد من القادة الذين لم يتعرضوا لإتهامات بالفساد، بل تتم الإشارة إليهم بالبنان، كمن يعتبرون “نظيفي اليد” وعرفوا كيف يبتعدون عن تغليب مصالحهم الذاتية، مثل: موشيه شريت، وليفي اشكول، وغولدامئير، واسحق رابين، ومناحم بيغن، وشمعون بيريز.

لكن اشكول، رئيس ثالث الحكومات، الذي اشغل منصب وزير المالية لفترة طويلة، كان قد أسس للتعاطي المرن مع الفساد. ففي سنة 1951، انفجرت قضية فساد كبيرة في الوكالة اليهودية بسبب قيام بعض الموظفين الكبار المسؤولين عن جلب المهاجرين اليهود من الدول العربية والأوروبية إلى المستعمرات بتلقي الرشى واستغلال أموال الوكالة لشؤونهم الشخصية. وتسبب هذا في نشوء شرائح فساد في مختلف المؤسسات، بينها الوكالة اليهودية واتحاد النقابات والدوائر على اختلافها، ثم الوزارات والرئاسات. فقد تورط رئيس الكيان عيزر وايزمان في قضية الحصول على رشوة من رجل أعمال وتم الإتفاق معه، في العام 2000، على أن يستقيل مقابل التنازل عن محاكمته. وتورط الرئيس الذي تلاه، موشيه قصاب، في قضية اغتصاب واعتداءات جنسية على موظفاته، فإضطر إلى الإستقالة وحوكم وفرض عليه السجن 7 سنوات، أمضى منها خمس سنوات.

أما رؤساء الحكومات، فقد كان أول المتورطين فيهم إسحق رابين. فخلال دورته الأولى في سنة 1977، تم الكشف عن وجود حساب بنكي سري لزوجته رصيده 2000 دولار، وكان القانون الإسرائيلي يحظر فتح حساب كهذا. فإستقال رابين من رئاسة الحكومة وحوكم وزوجته وفرضت عليهما غرامة، وعلى إثر ذلك تم تبكير موعد الإنتخابات ووصل اليمين الإسرائيلي إلى الحكم لأول مرة بزعامة مناحم بيغن.

أما رئيس حكومة الإحتلال الثاني الذي تورط هو إيهود باراك (1999 – 2001) الذي جرى التحقيق معه تحت التحذير للإشتباه بأنه حصل على أموال زائدة لتمويل حملته الحزبية. لكن النيابة أغلقت الملف ضده لعدم وجود أدلة كافية، وقد حصل الأمر نفسه مع آرييل شارون، الذي تلا باراك، إذ جرى التحقيق معه بشبهات الحصول على جزيرة يونانية كرشوة من أحد رجال الأعمال، وهذا الملف أيضاً أغلق لعدم وجود أدلة كافية. وعلى الرغم من إغلاق الملفين، فقد التصقت تهمة الفساد بكل منهما على طول حياتهما.

أما رئيس الحكومة الأول الذي وجهت إليه لائحة اتهام فكان إيهود أولمرت، الذي خلف شارون (2005 – 2009)، وقد وجهت إليه لائحة اتهام مضخمة تستحق حكماً بالسجن 20 عاماً، بشبهات الفساد الكثيرة: خيانة الأمانة، والسرقة، وتلقي الرشوة، وتشويش مسار التحقيق، ومحاولة التأثير على شاهد، وقد اختزلت هذه الاتهامات وتمت تبرئة أولمرت من معظم التهم وحكم عليه بالسجن 18 شهراً، أمضى منها 16 شهراً.

لكن “بطل” الشبهات حالياً هو بنيامين نتنياهو الذي تعرض للتحقيق تحت التحذير في دورته الأولى في الحكم (1996 – 1999)، وذلك في ملفين؛ الأول، اشتبه به الحصول على رشى. والثاني، اشتبه بأنه عين مستشاراً قضائياً للحكومة مشبوهاً بالإرتشاء لكي يمنع محاكمة الوزير اريه درعي. وقد أغلق الملفان لعدم وجود أدلة كافية، في حينه، لكنه في الدورات الثلاث الأخيرة من الحكم يواجه خطر محاكمة جدياً.

ملفات ثقيلة

في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني 2018، كشفت صحيفة “معاريف” أن شرطة الإحتلال ستحيل ملف اتهام رئيس الوزراء بالرشوة إلى النيابة في قضية رقم 4000، بتهمة منح امتيازات ضريبية لشركة الاتصالات “بيزيك” مقابل أن يحظى بتغطية صحافية إيجابية في الموقع الإخباري “واللا”، الذي تمتلكه الشركة بهدف رفع شعبيته لدى المستوطنين.

وقالت الصحيفة إن الشرطة نقلت ملف فساد نتنياهو للنيابة بعدما أثبتت الرشوة من رجل الأعمال الصهيوني “تشيلىالوفيتش” الذي قرر نتنياهو تكليف وزارة المالية بمنحه اعفاءات ضريبية كبيرة تقدر بمئات الآلاف من الشيكلات.

وعلاوة على هذه القضية، فإن نتنياهو يواجه 3 قضايا أخرى وهي القضية رقم 1000 بتهمة الحصول على هدايا فاخرة، مثل السيجار الكولومبي الفاخر والشمبانيا من بعض الأثرياء ورجال الأعمال الصهاينة مقابل منحهم تأشيرات خاصة للولايات المتحدة الأمريكية، وقد قدرت قيمة هذه الهدايا، حسب وسائل الإعلام الإسرائيلية، بمئات الآلاف من الدولارات.

أما القضية 2000، فتتعلق بإتفاق سري بين نتنياهو ومالك صحيفة “يديعوت أحرنوت” من أجل القيام بتغطية صحافية مؤيدة لرئيس الوزراء مقابل التضييق على صحيفة “يسرائيل اليوم” المنافسة لها، وهي الإتهامات التي نفاها خلال التحقيقات على مدار 6 جلسات متتالية.

أما القضية 3000 المعروفة بقضية الغواصات الألمانية، تتمثل في عملية شراء غواصات تصل قيمتها إلى عشرات المليارات من الدولارات من شركة “Thyssenkrupp” الألمانية حيث اشترت إسرائيل خمس غواصات من الشركة.

بالأدلة والوقائع

بحسب بيان للشرطة، فإن هناك أدلة كافية لإدانة نتنياهو بتهم الإحتيال والرشوة وخرق الثقة، بالإضافة لأدلة تدين زوجته، سارة نتنياهو، بالإحتيال والحصول على رشاوى والتدخل في تحقيق. وتعد القضية، المعروفة بإسم “قضية 4000″، واحدة من أكبر القضايا التي تواجهه مع دائرته الداخلية والتي تخص العلاقة بين وزارة الاتصالات.

يقول المحققون إن نتنياهو قدم مزايا تصل قيمتها إلى مليار شيكل (حوالي 280 مليون دولار) لصديقه شاؤول إلوفيتش، وهو المساهم المسيطر في شركة “بيزك” للإتصالات، بينما يقول المدعون العامون إن إلوفتيش منح نتنياهو تغطية إخبارية مميزة في موقع “واللا” الإخباري المملوك له. وتقول الشرطة إن لديها أدلة على اتهاماتها لإيلوفيتش بالرشوة والتدخل في التحقيق والجرائم المالية، فيما نفى كل من نتنياهو وايلوفيتش ارتكاب أي مخالفات.

وفي رد له، قال نتنياهو “توصيات الشرطة ضدي وزوجتي لا تفاجئ أحداً، لقد حددت التوصيات وسربت قبل أن يبدأ التحقيق، وليس لها وضع قانوني”، مضيفاً “لم يكن هناك شيء لأنه لا يوجد شيء”. فيما ردت الشرطة بأن هناك أدلة كافية لإدانة نتنياهو بتهم الاحتيال والرشوة وخرق الثقة في قضيتين منفصلتين، والقرار النهائي بمقاضاته من مسؤولية النائب العام حالياً.

رد عنيف

شن نتنياهو هجوماً شرساً على الشرطة وقائدها العام، روني أل شيخ الذي أنهى ولايته، زاعماً بوجود مخطط للإطاحة به من منصبه، تديره الشرطة وقائدها، مكرراً هجومه الذي شنه قبل نحو 10 أشهر حينما أوصت الشرطة بمحاكمته في ملفين آخرين من قضايا الفساد التي تلاحقه.

وقال نتنياهو إن نشر الشرطة توصياتها في الملف 4000، في اليوم الأخير للقائد العام للشرطة، يؤكد أن ذلك خطة مسبقة أعدت للإطاحة به، مشيراً إلى أنه لم يتفاجأ من التوصيات ولا من توقيت نشرها، مدعياً أن “حملة الملاحقات ضدنا مستمرة، ومنذ اليوم الأول من التحقيقات كان واضحاً أن الشرطة ستقدم توصيات، فما الجديد؟”

هنا تجدر الإشارة إلى أنه وبموجب القانون، فإن نتنياهو ليس ملزماً بالإستقالة من منصبه في حال مثل أمام المحكمة، إلا أن أجواء الرأي العام لن تهدأ في هذه الحالة وستطالب بتجميد منصبه أو استقالته إلى حين انتهاء المحاكمة، وهذا ما يريد نتنياهو تجنبه. ولكن الأهم أن صدور قرارات نهائية تقضي بمثوله أمام المحكمة بتهم فساد ستضعف مكانته في الإنتخابات، على الرغم من أنه يواصل حصوله على النسبة الأعلى من دون منافس، بحسب استطلاعات الرأي.

نتنياهو قلق

في رده على نتنياهو، قال يائير لبيد، زعيم حزب “يش عتيد” واحد أقطاب المعارضة، إن السجن سيكون بإنتظاره بعد أن يتخلى عن السلطة، فيما طالب قادة آخرين من المعارضة نتنياهو بالإستقالة من منصبه فوراً، وعدم انتظار قرار المستشار القضائي للحكومة، الذي لم يصدر بعد قراره بشأن التوصية السابقة.

إضافة إلى ذلك، يرى المحلل يوعز هندل، في مقال له في صحيفة “يديعوت أحرنوت”، أن وجود “ثلاثة ملفات، وفي ثلاثتهم يشتبه رئيس الوزراء بمخالفات جسيمة، هي سبب وجيه بما يكفي للتخلص من الإعتداد بالنفس. قد يكون نتنياهو يدعي بأنه غير قلق، ولكنه غيَّر فريقاً كاملاً من المحامين. هناك حاجة لمعجزة قضائية لأجل تفسير كل الهدايا، الصفقات والهواتف التي كادت ترن في المراحيض. من تلقى بفرح توصيات الشرطة في قضية الغواصات، بسبب حقيقة أن نتنياهو ليس مشبوهاً هناك يجدر به على الأقل أن يفكر بالتوصيات بلائحة اتهام في القضايا الثلاث الأخرى.”

وقال هندل إنه “يجب أن يجرى بحث جماهيري عميق عن ولاية رئيس وزراء مع لائحة اتهام. في نظري، رغم أن القانون يسمح بذلك، فهذا غير معقول. بالضبط مثلما لا يمكن لرئيس وزراء غير صهيوني أن يتولى منصب رئيس دولة اليهود رغم أن القانون يسمح بذلك. ولاية نتنياهو ستنتهي في نهاية المطاف. أما المعايير الأخلاقية التي تتقرر اليوم في الحياة الإسرائيلية العامة فهي التي ستقرر كيف سيبدو لنا الغد.”

من العصابة إلى “الدولة”

إن كيان تأسس على أيدي عصابات، من البالماخ والهاشومير إلى الهاغاناه مروراً بالأرغون، لا يمكن أن يتوقع منه غير ذلك، أقول؛ أرض لا تملك فيها سندات ملكية لبيوتها وفداناتها ولا ترتبط تلك الأوراق بأي شهود عدول أو دلائل مطبعية موثوقة لا يمكن أن تضبط فيها حساباً بنكياً.

ربما كانت مقولة اشكول “لا تمنع الثور عن دراسه”، التي اقتبسها من التوراة القديمة والتي تعني: لا تمنع الثور من أن يأكل شيئاً بسيطاً من الحمولة التي على ظهره، قد يشكل تبريراً دينياً جيداً لدراسية وتقنين الفساد “الجميل بالنسبة لنا”، بل ربما قد أكل هذا الثور الكثير من حمولته أو حمولته كلها.

مصدر الأخبار: وكالات.

مصدر الصور: جلوبال نيوز – العربي الجديد.