سمر رضوان*

جددت الدول الضامنة لعملية “أستانا” تأكيد التزامها القوي بسيادة واستقلال ووحدة وسلامة أراضي الجمهورية العربية السورية ورفضها الأجندات الإنفصالية، واستمرار التعاون حتى القضاء التام على التنظيمات الإرهابية فيها.

إنطلاقاً من هذه المقدمة، يظن القارئ أن الأمور إتجهت نحو عملية السلام وأن اللاعبين في سوريا، إقتنعوا بضرورة إنهاء مظاهر الإرهاب فيها، وإنسحاب كل القوى غير الشرعية من الجغرافيا السورية، لتبدأ العلمية السياسية وتنتج ثمار الإنتصار بعد أكثر من ثمان سنوات على الإقتتال الذي لم يضر إلا بالشعب السوري.

نظرياً، هذا الأمر كان ليُسعد القراء لو إتجه في هذا الإطار، لا بل يثلج قلوب السوريين ومحبي هذا البلد؛ لكن الحقائق ليست كذلك، فهي بعيدة كلياً عن هذا المنحى، لا بل تنذر بكوارث على الأرض إن تحققت.

رهان خاسر

لقد إستثمرت روسيا حالة “الهيستيريا” التركية وسعيها الدؤوب لتحقيق مكاسب لها على الأرض في ظل تلاطمها مع أمواج القوى العظمى واضعة نفسها في مصفها. فتارة تختلف مع روسيا، وتارةً أخرى تنقلب على الولايات المتحدة.

لكن كما ذكرت يعد ذلك فقط نظرياً. لقد ظن الكيثر منا أنه بصفقة الـ “إس – 400” الروسية، ستصل العلاقات بين أنقرة وواشنطن إلى الحضيض، فكان رد واشنطن بارداً تجاه هذه القضية، على عكس تصريحاتها بما يتعلق بكوريا الشمالية وإيران والصين ومعهم روسيا. من هذا المنطلق، توهم الكثيرون بأن إنجرار تركيا لمحور موسكو سيضع واشنطن في مواقف محرجة خاصة في المسألة السورية، لكن جاءت التوقعات خلافاً للإعتقاد، وسنفند ذلك تدريجياً.

بين القيصر والسلطان

لقد حاول النظام التركي تحقيق مكاسب ميدانية بحجة حماية الأمن القومي التركي من الخطر القابع على الحدود مع سوريا، والأمر نفسه حدث في منطقة بعشيقة، في العراق. لكن في المسألة السورية، استطاع الرئيس، الروسي فلاديمير بوتين، ضبط الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على إيقاع الدبلوماسية الهادئة، رغم إنجراف الأخير في مواضع كثيرة كما في عمليتي “درع الفرات” و”غصن الزيتون” وبتواطؤ أمريكي رغم الخلافات التي تعصف العلاقات الحالية بينهما.

لقد إستطاع الرئيس بوتين أن يستثمر التركي لا العكس، فنشَّطت تجارته بطريقة إلتفاف على العقوبات الأمريكية. لكن المفارقة أنه ورغم كل الخلافات التركية – الأمريكية ورغم التصريحات الأمريكية والتشديد على معاقبة أنقرة، إلا أن شيئاً من ذلك لم يحدث، فلا قضية مقتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، ورطت تركيا ولا حتى قضية القس آندرو برونسون ولا شراء منظومة الدفاع الصاروخي الروسية، وهو ما يجعلنا نتأكد أن حلفاء النسيج الواحد لا ينقلبون على بعضهم بسهولة.

هنا يكمن دور الدول الضامنة الأخرى، أي روسيا وإيران، وموقفهما من الحالة التركية خاصة وأن النظام التركي الحالي يتماهى في تقليده للأمريكي لجهة عدم الإلتزام بتعهداته، وكيف إن كانت هذه التعهدات تتعلق بمصير شعب كامل ينتظر خلاصه بأقرب وقت.

نفاق تركي

اعتمدت مقدمة هذا المقال على ما جاء في بيان مشترك للدول الضامنة في “أستانا” حول سوريا، والتأكيد القوي على وحدتها وإستقلالها، لتأتي التصريحات التركية خلافاً لما جاء في اجتماعات “أستانا”، خاصة لجهة تكرارها الحديث عن عملية عسكرية في شرق الفرات وبمباركة أمريكية. هذا الإصرار التركي، يشير إلى أن العلاقة الأمريكية – التركية قد تكون أقوى من السابق، حيث من الممكن ان تتم هذه العملية من خلال تسليم العديد من المناطق بعمليات محدودة عبر إستخدام وكلاء تركيا، من الجيش السوري الحر الذي لم ينصاع ويقبل بالتهدئة على عكس هيئة تحرير الشام، خصوصاً وأن كثيرين باتوا على علم بما يجري من منطقة التنف من تدريب عسكري لعناصر سيتم إستخدامهم جنوباً وشمالاً أو حتى شرقاً، فلا أحد يعلم النوايا الأمريكية إلى الآن.

ما تجدر الإشارة له هنا، ما رود في صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية من أن وفداً رفيع المستوى من البنتاغون وصل إلى أنقرة لتطمين الأتراك بعدم القلق من الكرد في شرق الفرات، بمقابل إشتراك واشنطن بالعملية العسكرية لتأمين المنطقة الحدودية بين سوريا وتركيا بطول نحو مئة وأربعين كلم وعمق خمسة عشر كلم.

من هنا، نتأكد أن الكرد سيرضخون للإملاءات الأمريكية وسيتكرر سيناريو عفرين، في شرق الفرات، ظناً منهم بأن ذلك سيبقي على فكرة الإنفصال كمشروع قائم. فعلى الرغم من الخسارة السورية، البشر والحجر، إلا أن خسارة الكرد ستكون أكبر بكثير، فهم خسروا الوطن الذي يأويهم، وخسروا ثقة الشعب السوري، وخسروا إستثماراتهم طيلة سنوات الحرب.

الإستقواء بالغير

إن التصريحات التركية، الصادرة عن شخص رئيسها أم من مسؤولي النظام فيها، ما كانت لتظهر علانية لولا أن هناك دعماً خفياً بمباركة عمليتهم العسكرية المزعومة. فعلى ما يبدو، إن الولايات المتحدة قد “باعت” الكرد، أو على أقل تقدير ستتركهم لمصيرهم في مواجهة التركي. أما الموقف الروسي، سيكون حيادياً لكون المنطقة غير خاضعة لسيادة الدولة السورية، بل حتى انها مسألة مؤجلة حالياً لأن الشمال السوري بات أمر حسمه واقعاً لا مهرب منه بعدما أكدت القيادة العامة للجيش السوري إستئناف العمليات العسكرية في إدلب ومحيطها، على خلفية عدم إلتزام المجموعات الإرهابية المسلحة، الموالية لتركيا، بخفض التصعيد إذ من المرجح أن يكون هذا الأمر غاية تركية للإستفراد بشرق الفرات.

في هذا الخصوص، يذكر أن السفير الأميركي السابق في سوريا، روبرت فورد، قد خاطب المعارضين السوريين، قبل فترة، مطالباً إياهم بعدم انتظار الكثير من الولايات المتحدة التي تربطها علاقة خاصة مع الكرد ووحدات حماية الشعب الكردية، لكنها وبإعتقاده علاقة مؤقتة ولن تكون طويلة الأمد، وهذا تماماً ما نقصده من أن الخاسر الأكبر هم الكرد. لكن في هذه المعادلة ميزان الربح للتركي أو غيره آني ووقتي وليس دائم.

في المحصلة، إن العملية التركية على شرق الفرات تبدو أمراً محتوماً وستفتح فصلاً جديداً في تلك المنطقة، وهو زيادة أوراق محور واشنطن للمساومة على مستقبل سوريا، إن كان في اللجنة الدستورية أو شكل الحكم أو المرحلة الإنتقالية. تلك المصطلحات إعتاد السوريون على سماعها، وعدم الإكتراث لها، لأن الأرض سورية وستبقى للسوريين، وستبذل الدولة السورية كل الجهود لإستعادة كامل الجغرافيا من براثن الطامعين فيها بإذن الله.

 

*المدير التنفيذي في مركز سيتا

مصدر الصور: معهد واشنطن – الميادين.