عبد الوهاب بدرخان*

من بين دلالات كثيرة لجريمة اغتيال الباحث العراقي، هشام الهاشمي، أنها جعلت استعادة الدولة وهيبتها استحقاقاً وطنياً وشعبياً لا مفر منه، وهو ما تعهده رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، ولم يتعهده أي رئيس وزراء قبله، فالذين سبقوه إلى المنصب الأرفع والأكثر صلاحيات في نظام الحكم العراقي الحالي، كانوا حزبيين منشغلين بأجندات متداخلة أو متماهية مع الميليشيات وولاءاتها الخارجية، لذا لم يكونوا واضحين في إعلاء شأن الدولة، بل اهتموا بتوطيد أمنهم داخل المنطقة الخضراء في بغداد، وتركوا خارجها مرتعاً للسلاح المنفلت، وخارج الحرب على تنظيم “داعش”، عامي 2016 و2017، كانت القوات المسلحة بمجمل فروعها تحاول المواءمة بين ما تفرضه عليها واجباتها، وبين سياسات غامضة وزئبقية اتبعتها الحكومات.

خسر الكاظمي بغياب الهاشمي، أحد أبرز مستشاريه وواحد من فريق يفكر ويخطط معه، لكنه لم يخسر مشروعه الوطني بعد، فبين انتفاضة الأول من أكتوبر/تشرين الأول الشعبية، والصعوبات الإقتصادية المتفاقمة والأمن السائب، كان واضحاً أن العراق يحتاج إلى صفحة جديدة. وقبل تسلمه مهمات الحكومة وبعده، كان مدركاً أنه مقبل على مسار صعب وطويل، بل لعله في خطواته الأولى تعرف أكثر إلى العقبات الكأداء التي تنتظره، خصوصاً أن الحكومات السابقة أسست لنهج أتاح للميليشيات التغلغل في مفاصل الإدارات، فباتت متمترسة في الدولة العميقة ومقيمة في المنطقة الخضراء، جنباً إلى جنب مع المقار الحكومية والسفارات، بما فيها “كتائب حزب الله”، التي برزت أخيراً كفصيل معتمد للتوتير الأمني، سواء بإطلاق الصواريخ التي تستهدف القوات الأميركية في القواعد العراقية والمطار والمنطقة الخضراء نفسها، أو بالإغتيالات، أما الميليشيات الأخرى في “الحشد الشعبي” فتساند هذا الفصيل، وتتشارك معه القلق على مصيرها، بعدما فقدت التأييد الشعبي.

كان الهاشمي من الأشخاص الذين نصحوا بالحوار مع “الحشد”، والذهاب بأسلوب التفاهم إلى أقصاه، وعدم اللجوء إلى أي حل أمني إلا عند الضرورة القصوى، لكنه واكب التحرك ضد “كتائب حزب الله”، مسلطاً الضوء على ما سماها “خلايا الكاتيوشا”، ورأت الحكومة أن في الدأب على إطلاق الصواريخ تشويشاً متعمداً على الحوار الإستراتيجي الأميركي – العراقي الدائر منذ منتصف يونيو/حزيران الماضي (2020)، ولا شك أن بدء الإعداد لزيارة الكاظمي إلى واشنطن بدد التوقعات، بأن يفضي الحوار إلى انسحاب أميركي قريب أو وشيك، كما طلبت إيران والميليشيات، والأرجح أن مجريات الحرب المستمرة على الإرهاب، هي التي ستحدد جدولة الإنسحابات بالتشاور بين الجانبين، لذلك ارتأت الميليشيات الإستفزاز فكان الإغتيال.

توعد الكاظمي بملاحقة القتلة ومحاسبتهم، مكرراً تعهده بعدم السماح بعودة الإغتيالات، وكذلك تشديده على حصر السلاح في يد الدولة، وهو ما أعلنه منذ تعيينه وما تعتبره الميليشيات تهديداً وتحدياً لها، وفور الإغتيال تضاعفت الضغوط على رئيس الوزراء، الذي يحثه مؤيدوه على القيام بخطوة كبيرة، قبل أن يفقد قوة الدفع التي مدوه بها، لا شك أن لديه خيارات ولديه القوة الضاربة، لكنه لا يريد أن تنجر حكومته إلى مواجهة تختار الميليشيات توقيتها، وقد تدخل العراق في حرب أخرى مشابهة للحرب على “داعش”، لكن المحك أصبح الآن: إما الدولة وإما الميليشيات، ولن تتخلى هذه الأخيرة عن سلاحها إلا بمواجهة مهما بلغت ضراوتها، فالدولة هي الخيار الوحيد للعراقيين.

*كاتب صحفي ومحلل سياسي – لندن.

المصدر: جريدة الإتحاد الإماراتية

مصدر الصورة: أخبار العراق.

موضوع ذا صلة: الحضور العراقي في سياق الصراع الأمريكي – الإيراني