د. إياد المجالي*
في سياق الصراع الأمريكي – الإيراني المستمر، تبدو أبرز تداعياته إقليمياً في حضور العراق ضمن هذا المشهد وبشكل يجعله ميدان المواجهة بين الطرفين، خاصة في ضوء الإنقسامات المستمرة داخلياً. ومن خلال المسارات السياسة الأمريكية تجاه العراق في إطار الصراع القائم مع النظام الايراني، يمكن القول بأنها تأخذ جانباً من الإزدواجية البراغماتية بين كافة الأطراف الفاعلة في المشهد السياسي، وتعدد محاورها جاءت على شكل تحولات استراتيجية عميقة، شاهدها قرار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بإنهاء اللعبة المزدوجة التي مارسها الأمريكيون والإيرانيون على أرض العراق، أبريل/نيسان 2003 وصولاً إلى مايو/أيار 2018، إضافة إلى قرار الولايات المتحدة الإنسحاب من الإتفاق النووي مع من جانب واحد، منذ يونيو/حزيران 2018، وممارسة الحرب الإقتصادية والعقوبات المشددة ضد إيران التي أثرت بشكل كبير وفرضت على العراق أن يكون حاضراً في سياق هذا الصراع بوصفه طرفاً منفعلاً وليس فاعلاً.
من ثم، فُرض على صانع القرار السياسي في العراق، وهو هنا الفاعل السياسي الشيعي حصراً، أن يتأقلم مع هذه اللعبة المزدوجة، وأن يتخذ موقفاً صريحاً من هذا الصراع إذا ما أراد أن يبقي على الدعم الأمريكي الضروري للعراق، أمنياً وسياسياً واقتصادياً. في المقابل، قامت إيران بإستخدام كل أدواتها في العراق لمنع محاولة إخراجه من تحت عباءتها خاصة وان نتائج المواجهة مع تنظيم “داعش”، ونتائج إنتخابات العام 2018، قد فرضت واقعاً جديداً جعلها تفترض أن تغولها في العراق أصبح أمراً واقعاً لا يمكن تجاوزه.
لا شك أن أبرز عوامل إقحام العراق في معادلة الصراع الأمريكي – الإيراني دعمه فشل الحكومة العراقية في الإيفاء بإلتزاماتها المعلنة بأن يكون العراق على مسافة واحدة بين الطرفين في هذا الصراع. لذلك، إن المؤشرات الموضوعية للتوغل الثنائي ارتبطت بمعرفة جميع الأطراف بأن مسارات الموقف في العراق لا تحددها قواعد اللعبة السياسية فقط، بل يحددها السلاح الموازي المرتبط عضوياً بالفاعل الإيراني الذي يتم التلويح به بشكل علني، لهذه المعطيات ما زال من المبكر الحكم على مخرجات الصراع الأمريكي – الإيراني في سياقه العراقي، ومن السذاجة التفكير بأن هذا الصراع قد يحسم قريباً، وهو ما يعني في النهاية أن بعض عناصر اللعبة المزدوجة ستبقى حاضرة اضطراراً، وإن بقواعد جديدة بما لا يتيح لأي من الطرفين الإنفراد بإدارة اللعبة التي اسمها العراق.
في جانب الممارسات السياسية المزدوجة التي تستخدمها الإدارة الأمريكية في إدارة استراتيجية الضغط والتشدد ضد إيران على المسرح السياسي العراقي، جاءت الإستثناءات الأمريكية للعراق بالسماح له بالتعامل مع إيران في ضوء العقوبات الإقتصادية المشددة التي جاءت اضطرارياً وبسبب الوضع الأمني والسياسي الهش فيه. فقد سمحت لها بالتعامل التجاري مع طهران ووصل إلى حدود الـ 7 مليار دولار، تحديداً في ملفي الغاز والكهرباء، إذ يعد العراق ثاني أكبر مستورد للغاز الإيراني، وهو يعتمد على هذا الغاز في توليد 47% من الكهرباء، فضلاً عن تغاضيها عن التبادل التجاري الواسع بين البلدين، والذي ليصل إلى معدلات كبيرة تزيد عن 7 مليار دولار سنوياً. لكن من الواضح أن ثمة قرار أمريكي بأن يكون هذا الملف جزءاً من أوراق الضغط فيما يتعلق بموقف العراق في الصراع مع إيران، في حين يبدو البعد الأمني قد تمكن بتأثيره على مسارات وتوجهات الإدارة الامريكية في اعقاب المتغيرات الجديدة على مشهد الصراع القائم مع طهران، حيث غرد الرئيس ترامب، على “تويتر”، محذراً بالقول “تؤكد معلومات وحقائق أن إيران أو وكلاءها يخططون لهجوم مباغت على قوات أميركية و/أو منشآت في العراق. إذا حدث ذلك، فإن إيران ستدفع ثمناً باهظاً جداً.”
تأتي تغريدة الرئيس ترامب هذه بعد وصول قائد فيلق القدس الإيراني الجديد، إسماعيل قاآني، إلى بغداد حيث إلتقى عدداً من المسؤولين العراقيين، وهي بمثابة رسالة ايرانية رمزية للولايات المتحدة تؤكد فيها انها لا زالت تدرس طرق الرد والإنتقام على عملية اغتيال الجنرال قاسم سليماني، ومبرراً للمساعي الأمريكية في إبعاد ايران من المسرح السياسي العراقي بشكل نهائي، مسوغها الخطر المتوقع، اضافة الى تقليم اظافر وكلائها من الفصائل والميلشيات المسلحة على ارض العراق. لذلك، أخذت هذه التحذيرات شكل اجراءات عملية عسكرية تمثلت بنشر منظومة صواريخ “باتريوت” للدفاع الجوي، في قاعدة “عين الأسد” وأخرى قاعدة في أربيل، على الرغم التحذير الإيراني من خطر جر الشرق الأوسط إلى “وضع كارثي” في خضم أزمة فيروس “كورونا” المستجد، الا ان واشنطن استثمرت المتغيرات الميدانية لتحقق بذلك بعداً امنياً موازياً للبعد السياسي الإستراتيجي القائم بصنع القرار الأمريكي حول الصراع القائم في المنطقة.
من هنا، اعتقد بأن تحليل جوانب سياق الصراع الأمريكي – الإيراني المستمر وتفسير توجهات ومصالح الأطراف الدولية الفاعلة في المشهد السياسي العراقي لا بد من تسليط الضوء على طبيعة المشكلات البنيوية للوضع السياسي فيه، حيث تقوم العملية السياسية فيه على أسس مركزية جرى الإتفاق عليها بين قوى المعارضة السابقة في “مؤتمر لندن”، العام 2020 برعاية الولايات المتحدة وتمويلها مع موافقة ضمنية من قبل إيران التي تمثلت في المؤتمر من قبل قوى سياسية عراقية تأسست في طهران وعملت لصالحها قبل أن يقدر لها أن تسيطر بعد الغزو الأميركي وبدعم من سلطة الإحتلال على المفاصل الأساسية في الدولة وهياكل السلطة.
وقد تكون الأزمة المتصاعدة بين الولايات المتحدة، وحلفائها من جانب، وإيران، وأذرعها الإقليمية من جانب آخر، واحدة من أخطر التحديات التي تواجه النظام السياسي العراقي منذ تشكيله بعد احتلال العراق في العام 2003، حيث سيكون على قوى سياسية غير متجانسة ومختلفة الولاءات والمرجعيات بأن تتخذ قرارات موحدة تجاه التعامل مع الصراع الراهن الذي يتطور وقد ينحدر نحو حرب شاملة.
إن الظاهر في المشهد السياسي العام يؤكد على دور القيادات العراقية الرسمية، ممثلة برئاسة الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء ورئيس مجلس النواب، التي تركزت كلها في ردود أفعالها وفي خطاباتها الرسمية على ضرورة إبعاد العراق عن أية محاور للصراع الدولي والإقليمي، وبخاصة بين حليفي العملية السياسية، أميركا وإيران. بالنتيجة الحتمية، لقد تسببت هذه الترتيبات بشكل مباشر لجعل العراق رهناً للنفوذ الأميركي والإيراني، وقد مضت هذه الترتيبات بطريقة انسيابية، تارة، وخشنة، تارة أخرى، حسب ما تقتضيه مصالح كل من هذين الطرفين، فيما كان العراق ذاته وعمليته السياسية خارج دائرة الأولويات.
*باحث في العلاقات الدولية والشؤون الإيرانية – جامعة مؤتة، الأردن.
مصدر الصور: رويترز – ميدل إيست أونلاين.
موضوع ذا صلة: نشر منظومة “باتريوت” في العراق: عين على إيران وعين على سوريا