حسن زنيد
لا يزال إنفجار بيروت يشغل بال العالم، فقد أنجزت وسائل إعلام ألمانية من بينها “شبيغل” و”فيلت” تقارير إستقصائية رصدت الطرق الغامضة التي سلكتها شحنة نترات الأمونيوم للوصول لمرفأ بيروت، وكشفت خيوطاً تقود لحزب الله اللبناني.
لماذا لم يعلن مالك السفينة عن نفسه لحد الآن؟
أظهر بحث استقصائي أجرته مجلة “دير شبيغل” الألمانية بالتعاون مع شبكة الصحفيين OCCRP أن مالك سفينة “روسوس”، سبب إنفجار ميناء بيروت، كانت لديه صلات مباشرة مع بنك يتعامل معه حزب الله. القصة تعود، حسب المجلة الألمانية إلى سبتمبر/أيلول 2013، حين إنطلقت مجموعة من البحارة، ثمانية أوكرانيين وروسي واحد، على متن سفينة شحن “روسوس” من جورجيا، زُعم حينها أنها متجهة إلى موزمبيق. السفينة كانت عبارة عن حطام من الخردة حتى قبل إنطلاقها ومغادرتها مدينة باتومي الجورجية في البحر الأسود، إذ إن نظام الإنذار كان خارج الخدمة كما معدات الإنقاذ. وفي يوليو/تموز 2013، أي قبل أربعة أشهر من رسوها في بيروت، احتجزت سلطات ميناء مدينة أشبيلية الإسبانية السفينة لمدة 13 يوماً بعد اكتشاف العديد من أوجه القصور من بينها تعطل أبواب وتآكل في منطقة السطح وقصور في المحركات المساعدة، حسبما ورد في بيانات الشحن. وأظهرت البيانات أن السفينة استأنفت طريقها بعد أن أصدرت شركة التفتيش، ماريتايم لويد، لها شهادة سلامة سمحت لها بالإبحار من جديد.
ومنذ الإنفجار الهائل الذي دمر العاصمة اللبنانية، والأسئلة تتوارد بشأن هذه السفينة وملكيتها والطريقة التي وصلت بها إلى ميناء بيروت. فالسفينة التي تحمل علم مولدوفا وحطت الرحال بمرفأ المدينة، قبل سبعة أعوام، وعلى متنها نترات الأمونيوم الشديدة الإنفجار، لا بد وأن تكون هوية مالكها معروفة، أو على الأقل هذا ما يفرضه العقل والقواعد الدولية للملاحة البحرية، خصوصاً وأن للأمر علاقة مباشرة بشروط التأمين شديدة التعقيد، غير أن الشيء الأكيد هو أن لا أحد تقدم لحد الآن للإعلان عن ملكيته للسفينة. وبهذا الشأن، كتب كل من ماكسيميليان بوب، كريستوف رويتر، وفريتز شاب في “شبيغل أونلاين”، 21 أغسطس/آب 2020، أن “السفينة تحمل شحنة قدرها 2750 طناً من نترات الأمونيوم عالي التركيز، وهو نفسه المستخدم في تصنيع المتفجرات، بمستوى تخصيب بالنيتروجين أقل بقليل من 35%.”
خيوط الإستقصاء تقود لقبرص بدلاً من روسيا
تحقيق “دير شبيغل” كشف أن “روسوس” مملوكة لرجل أعمال قبرصي وليست كما كان يُفترض في البداية، لرجل أعمال روسي. وأظهرت سجلات قانونية أن الرجل حصل على قرض بمليون دولار من بنك FBME التنزاني، بنك اتهمه مكتب التحقيقات الفدرالي الأمريكي بالعمل كآلة لغسل أموال حزب الله اللبناني. ووفق رواية “دير شبيغل” الألمانية واستناداً إلى أقوال أحد المحققين، فإن للبنك التنزاني سمعة سيئة، لأنه يجبر، على سبيل المثال، المدينين المتعثرين على تقديم خدمات لعملاء مثل حزب الله. أما رجل الأعمال الروسي إيغور غريتشوشكين، المالك السابق لسفينة الشحن، فلم يقم سوى بإستئجارها.
كما أن مقابلات وعمليات بحث عن وثائق أجرتها وكالة “رويترز” في عشر دول، سعياً لمعرفة المالك الأصلي لهذه الشحنة، كشفت عن قصة معقدة تشمل وثائق مفقودة وأنشطة سرية وشبكة شركات صغيرة مغمورة تنتشر في أرجاء العالم.
“فيلت” الألمانية تكشف معلومات سرية تورط حزب الله
رغم أن السيد حسن نصر الله، زعيم حزب الله، نفى بشدة أن تكون لحزبه أية علاقة بشحنة نترات الأمونيوم، فإن “فيلت” كشفت، 19 أغسطس/آب 2020، عن معلومات استقتها من وكالات إستخباراتية غربية، تؤكد تلقى الحزب شحنات كبيرة من نترات الأمونيوم، لها علاقة وثيقة بإنفجار ميناء بيروت. ووفقاً لتلك المعلومات، فقد كان لدى حزب الله كميات كبيرة من نترات الأمونيوم تم تسليمها إلى لبنان. ويقال إن وحدة القدس، التابعة للحرس الثوري الإيراني، كانت مسؤولة عن النقل بإشراف من الجنرال قاسم سليماني، الذي قتل في غارة أمريكية في يناير/كانون الثاني 2020.
وبهذا الصدد، كتب دانييل ديلان ـ بومر “في صفقة أولى تمت في 16 يوليو/تموز 2013، كان من المفترض أن يتم تسليم ما مجموعه 270 طناً من نترات الأمونيوم من إيران إلى لبنان، بتكلفة تقدر بـ 179.399 يورو. وفي 23 أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام، تم تسليم 270 طن إضافية من نفس المادة، هذه المرة بقيمة 140.693 يورو. وفي عملية تسليم ثالثة، تبقى كمية نترات الأمونيوم غير مؤكدة بالتدقيق، ولكن يمكن تقديرها بناءً على التكاليف.”
الصحيفة الألمانية كشفت أيضاً أنه تم دفع مليار ريال إيراني، 4 أبريل/نيسان 2014 وهو ما يعادل 61.438 يورو، مقابل الشحنة. وبالقياس على قيمة الشحنتين الأخريين، يمكن تقدير الشحنة بين 90 و130 طناً. إجمالاً، تم تسليم ثلاث كميات من 630 إلى 670 طناً من نترات الأمونيوم، حسب “فيلت”.
حزب الله تسلم نترات الأمونيوم بالجو والبر والبحر
معلومات “فيلت” أكدت أن الشحنة، في أكتوبر/تشرين الأول 2013، تم نقلها ضمن حاويات عبر الجو بواسطة إحدى شركات الطيران الإيرانية التي يستعملها الحرس الثوري، من بينها شركة “ماهان إير” التي تم منعها منذ العام 2019 من استعمال المطارات الألمانية بسبب علاقتها بأنشطة الحرس الثوري. كما تم تسليم شحنات أخرى عبر البحر والبر على حد سواء. برياً، كان النقل يتم عبر الحدود السورية. ويذكر أن حزب الله من الحلفاء الرئيسيين للرئيس السوري، بشار الأسد. وبهذا الصدد كتب كيرستن كنيب في موقع DW، 21 أغسطس /آب 2020، أنه “إذا كانت المعلومات الإستخباراتية التي نشرتها فيلت صحيحة، فسيكون ذلك مؤشراً إضافياً على العلاقات الوثيقة بين حزب الله وإيران (في هذه القضية) ويمكن أن يضع الميليشيات الشيعية في لبنان تحت ضغط شعبي إضافي.”
أما الرواية الرسمية لرحلة “روسوس”، فتصف سلسلة من الأحداث المشؤومة، السجلات الملاحية أظهرت أنه بعد تحميل السفينة بنترات الأمونيوم في جورجيا، سبتمبر/أيلول 2013، كان من المفترض تسليمها إلى شركة لصناعة المتفجرات في موزمبيق. بيد أن قبطان السفينة واثنين من أفراد الطاقم يقولون إن تعليمات صدرت إليهم قبل أن تغادر السفينة البحر المتوسط من رجل الأعمال الروسي، إيغور غريشوشكين، الذي كانوا يعتبرونه المالك الفعلي للسفينة، بالتوقف على غير ما كان مقرراً في بيروت وتحميل شحنة إضافية. ووصلت “روسوس” في نهاية المطاف إلى بيروت، نوفمبر/تشرين الثاني 2013، لكنها لم تغادر قط، حيث علقت في نزاع قانوني بشأن رسوم غير مدفوعة للميناء وعيوب في السفينة. وتقول الرواية الرسمية إن دائنين اتهموا المالك القانوني للسفينة بالتخلي عنها، وتم تفريغ الشحنة لاحقاً ووضعها في مستودع على رصيف الميناء.
خيوط السفينة تقود للثلاثي حزب الله – إيران – سوريا
ذكر تحقيق لوكالة “رويترز” أنه بموجب إتفاقيات الملاحة الدولية، يجب أن تمتلك السفن التجارية تأميناً لتغطية حوادث مثل الأضرار البيئية أو الإصابات الناجمة عن الغرق أو التسرب أو التصادم أو حتى حالات فقدان الحياة. ورغم ذلك، ليس هناك ما يثبت وجود تأمين على “روسوس”. وقال قبطان السفينة الروسي، بوريس بروكوشيف، من منزله في سوتشي في روسيا، إنه رأى وثيقة تأمين لكنه لا يستطيع تأكيد صحتها.
من جهتها، ذكرت “فيلت” أن شخصين مشاركين مزعومين في عمليات تسليم الشحنات هما ضمن قوائم العقوبات الأمريكية بينهم بهنام شهرياري، وتتهمه واشنطن منذ عام 2011 بدعم حزب الله، الذي تعتبره كما عدد من الدول الأوروبية (ضمن) منظمة إرهابية. ويبدو أنه يعمل كرئيس لشركة النقل الإيرانية، لينر كيش ترانسبورت، التي تكلفت على ما يبدو بتسليم نترات الأمونيوم إلى حزب الله. ومن جهة حزب الله، أكدت “فيلت” أن استلام الشحنة تكلف بها محمد قصير، وهو مدرج بدوره على قائمة العقوبات الأمريكية الخاصة بوقف تمويل حزب الله منذ العام 2018. قصير تعتبره وكالات الإستخبارات الغربية “همزة وصل” رئيسية مع سوريا وإيران، وتقول الوثائق التي حصلت عليها “فيلت” إن قصير يعتبر مسؤولاً رئيسياً على الخدمات اللوجستية لحزب الله لمدة تزيد عن عشرين عاماً، وكان مسؤولاً أيضاً عن دفع تكاليف تسليم نترات الأمونيوم.
“فيلت” ذكرت أيضاً أن محمد قصير هو شقيق أحمد قصير، الذي قاد أول هجوم لحزب الله في نوفمبر/تشرين الثاني 1982 خلال الحرب الأهلية، حين قاد شاحنة صوب مقر الجيش الإسرائيلي في صور وقتل ما لا يقل عن 75 جندياً إسرائيلياً و14 من أسراهم العرب، وكانت المادة المتفجرة التي استعملت في ذلك الهجوم هي نترات الأمونيوم.
خبير غربي: بصمات حزب الله واضحة!
ذكر خبير أمني غربي لـ “فيلت” أن المعلومات المتوفرة حالياً تتطابق مع تعامل حزب الله مع نترات الأمونيوم. ورغم أن المادة تباع بشكل مفتوح في الأسواق، إلا أن الحرس الثوري الإيراني قد يكون اختار أن يزود بها حزب الله بشكل سري حتى لا يثير الشبهات، لأن الأمر يتعلق بكمية ضخمة جداً، وكان من شأنها أن تثير الشكوك. وذكر الخبير سببين محتملين لتزويد حزب الله بهذه الكميات من نترات الأمونيوم في ذلك الوقت بالذات. ففي تلك الفترة الحرجة، 2013 – 2014، شارك الحزب في العمليات القتالية إلى جانب نظام الأسد الذي كان مهدداً بالانهيار، ما قد يفسر رغبة الحزب في تعزيز ترسانته من تلك المادة شديدة الإنفجار. أما السبب الثاني المحتمل، فقد تكون له علاقة بتعزيز القوة القتالية للحزب في مواجهة إسرائيل، حيث كان الحزب حينها يبني شبكة أنفاق على الحدود مع إسرائيل، ومن غير المستبعد أن يكون الهدف شن هجمات على الدولة العبرية بإستخدام نترات الأمونيوم.
قناة “أرتي” الألمانية – الفرنسية خصصت برنامجا وثائقيا، 8 أغسطس/آب 2020، بمناسبة انفجار بيروت تحت عنوان “لبنان ـ البلد الرهينة”، أكدت فيه أن حزب الله بات يسيطر على كامل نواحي الحياة السياسية والإجتماعية والإقتصادية في لبنان، وأنه لا يمكن لأي قرار أن يتخذ هناك دون موافقة الحزب. ففي البلد المتعدد العقائد والأديان، تم وضع نظام دقيق يضمن التوازن بين مختلف الطوائف بعد الحرب الأهلية. غير أن هذا التوازن مال بشكل كامل للحزب الذي بات أقوى حتى من الجيش اللبناني، إذ يملك ما لا يقل عن 25 ألف مقاتل و120 ألف صاروخ حسب تقديرات متطابقة.
ويذكر أن الحكومة الألمانية أعلنت حظر كل نشاطات حزب الله فوق أراضيها، حظر كان في الماضي يشمل فقط نشاطات الجناح العسكري للحزب، الذي تعتبره دول الإتحاد الأوروبي حركة إرهابية. وتقدر السلطات الألمانية مناصري حزب الله في ألمانيا بحوالي ألف شخص. وتتهمهم الإستخبارات الداخلية الألمانية بجمع تبرعات وتجنيد مؤيدين وتنظيم تظاهرات تدعو إلى تدمير إسرائيل.
المصدر: دي دبليو.
مصدر الصور: ZDF – العربية.
موضوع ذا صلة: قراءة أولية في إنفجار مرفأ بيروت