لو كانت الميثاقية مُصانة لما اقترحنا اللامركزيّة. ولو كان الولاء مرفوعاً للبنان فقط لما عرضنا الفدراليّة. ولو كان النأي بالنفسِ ملزِماً لما طرحنا الحياد. ولو كان الدستور مهاباً لما صدرت القرارات الدولية. ولو كانت الهدنةُ محترَمة لما قبِلنا القوّات الدوليّة. ولو كان الحلّ الداخليّ ممكناً لما طلبنا نجدةَ المجتمعِ الدولـيّ. حين تخرج الشعوب عن حمى أوطانها تصبح الحلول البديلةُ سبيل الخلاص. منذ سنة 1958 واللبنانيّون يعيشون على الحلول البديلة لإنقاذ الحلَّين الأصيلَين: لبنان الكبير والاستقلال.
أن يستظل البعض دولة لبنان ويرمي الوطن في النار سلوك انتهى. خذوا علما. بعد اليوم يتعذر على أي مكون التلاعب بمصير المكونات الأخرى وبمصير الوطن. قواعد اللعبة تغيرت قبل تغيير موازين القوى. الحياد المعروض هو آخر الحلول الدستورية في إطار وحدة لبنان قبل الحلول الجغرافية التي لا يعرف أحد إلى أين تؤدي. أيهما تختارون؟ جميع الحلول والخيارات حلال إلا البقاء في حال الإذعان والتمزق والانهيار والانحطاط والهيمنة التي نعيشها. هذه الحال القائمة اليوم تناسب شعبا قرر أن ينقلب على نفسه ويتجه نحو الانفصال والتقسيم. أهذا هو المراد؟
تعالوا لنجلس ونبوح بتقاسيم القلوب وجزئيات العقول من دون خجل. فالخجل أهون من العار الذي يحوم فوق رؤوسنا. كنا مثال الشعب الناجح فصرنا مثال الشعب الفاشل. إذا كان ثمن الوحدة الصورية بقاء السلاح فلا وحدة مع السلاح. وإذا كان ثمن الاستقرار الخضوع للسلاح فلا استقرار مع السلاح. وإذا كان ثمن رئاسة الجمهورية هيمنة السلاح فلا جمهورية مع السلاح. لا قيمة لتحرير الأرض من دون تحرير الدولة، إذ لا قيمة للأرض ما لم تكن مساحة حكم القانون وتعايش الشعوب. وليست أرض لبنان اليوم مربع القانون والتعايش.
أجدادنا وآباؤنا اعتمدوا الحلول الدستورية التي تحفظ وحدة الأمة اللبنانية وآثروها على الحلول الجغرافية التي تـمزقها. سنة 1920 ناضلت البطريركية المارونية وأصدقاؤها لإنشاء دولة “لبنان الكبير” لأنها اكتشفت أن مشروع سايكس/بيكو الأساسي لا يلحظ دولة لبنانية مستقلة بحدودها الحالية. وسنة 1943 انتهز القادة اللبنانيون الصراع الفرنسي/الإنكليزي لينتزعوا الاستقلال لأنهم علموا أن فرنسا تطمح إلى تجديد انتدابها على لبنان مع نهاية الحرب العالمية الثانية. وسنة 2020 التقط البطريرك بشارة الراعي اللحظة التاريخية ليقترح إعلان حياد لبنان لأنه أدرك أن سياسة الانحياز ستؤدي إلى إطاحة إنجازي 1920 و1943 أي الكيان والاستقلال، وحتى إنجاز 2000، أي تحرير الجنوب.
نجح الأجداد والآباء سنتي 1920 و1943 رغم الصعوبات وغياب الوفاق والإجماع. القرار التاريخي يتعدى اللعبة البرلمانية إلى مصير الوطن. إن نصف اللبنانيين كانوا ضد دولة “لبنان الكبير”، وضد إعلان الاستقلال، وضد “اتفاق الطائف”، وضد دخول الجيش السوري سنة 1976 وخروجه سنة 2005. لو بقي المؤسسون والاستقلاليون ينتظرون الإجماع لما كان لبنان موجودا بحدوده الحالية، ولا كان خرج من الانتداب الفرنسي ثم من الاحتلال السوري.
صحيح أن واجب اللبنانيين التفكير بمحيطهم حين يطرحون مشروعا مصيريا كالحياد، ولقد فكرنا ووجدنا أنه لمصلحة محيطنا، إلا اللهم إذا كانت لدى دول المحيط نيات توسعية، وفي هذه الحالة تصبح الحاجة إلى الحياد مضاعفة. لكن هل فكرت القيادة الفلسطينية بلبنان حيث يعيش نصف مليون لاجئ فلسطيني حين وافقت سرا على “اتفاق أوسلو” سنة 1991، ثم على حل الدولتين الذي لا يضمن حق العودة؟ هل فكرت القيادة السورية بانعكاس الدخول العسكري الروسي على لبنان وبارتداد وجود مليون ونصف المليون نازح سوري عليه؟ هل فكرت إيران بأمن لبنان واللبنانيين حين “مانت” على حزب الله أن يرسل شبابه للقتال في سوريا والعراق واليمن وغيرها؟ هل وقف فلسطيني واحد أو سوري واحد أو إيراني واحد وفكر بلبنان؟ أكثر من ذلك: هل كان للبنان حق الاعتراض لو أعلنت سوريا وفلسطين والعراق وأي دولة عربية حيادها؟
لماذا يطلب من اللبنانيين التفكير بمصالح الآخرين فيما الآخرون لا يفكرون بمصالح لبنان، علما أن ما نقوم به هو جيد وإيجابي لكل المحيط بينما ما قام به الآخرون ــ ولا يزالون يقومون به ــ هو سيئ وسلبي عليهم وعلى لبنان. تبقى ظاهرة خطيرة تكشف عدم أولوية لبنان لدى أطراف لبنانية: عوض أن يفكر كل لبناني بتأثير الحياد إيجابا على لبنان أولا، فكر البعض أولا بانعكاس الحياد على القضية الفلسطينية وسوريا وعلى ما بعد سوريا، وأخيرا… على لبنان. أليست ردة الفعل هذه دليل نقص في الولاء للبنان لحساب دول أخرى؟ واقع حزين!
خلافا لما يدعي البعض، الحياد اللبناني لا يخرج لبنان من محيطه العربي بل يعيده إليه. اليوم، في ظل الانحياز إلى محور غير عربي، يعيش لبنان خارج المنظومة العربية والمجتمع الدولي. يعيش معزولا ومنعزلا ومنبوذا. يعيش متسولا على قارعة الأمم. “الحياد الناشط” يحيي دور لبنان في المنطقة والعالم ويوفر له فرصة القيام بأدوار إقليمية ودولية من موقع المرجعية الحيادية والأخلاقية. يصبح ضمير الشرق. لا داع للشرح المستفيض كي يقتنع حسنو النية بمنافع الحياد. تكفي المقارنة بين لبنان اليوم، ولبنان الأمس حين كان بين أربعينات وسبعينات القرن المنصرم ينأى بنفسه عن الصراعات والحروب. بالأمس كان نموذج الرقي والتقدم والانفتاح، واليوم أمسى نموذج التخلف والفقر والانحطاط. كنا شعبا صرنا قبائل.
نحن، من جهتنا، قررنا أن نعود شعبا ووطنا ودولة قانون من باب الحياد، وهوذا باب الانضمام مفتوح. المتشائم يخسر المعركة قبل بدئها، ونحن أهل تفاؤل على موعد مع الانتصار. نحن شعب جعل المستحيل ممكنا، والصمود انتصارا، والمقاومة نهجا، والفداء خلاصا، والقيامة إنقاذا، وسنجعل الحياد حلا. سننتصر.
*وزير سابق.
المصدر: النهار.
مصدر الصور: ميدل إيست أونلاين.
موضوع ذا صلة: مواقف لودريان تستبق زيارته إلى لبنان