د. عبدالله الأشعل*

في الخمسينات، لم تقبل مصر إلا بحل واحد للقضية الفلسطينية وهو عودة اليهود إلى أوطانهم وترك فلسطين لأهلها. لا شك أن هذا الموقف من نظام حاكم خلط بين العدل والمنطق، من ناحية، وبين تعقيدات المسائل الدولية، من ناحية أخرى، فإتسم بالسذاجة لكونه لم يستعد لتنفيذ هذا الحل بل غرق في الكذب على شعبه ورسم صورة مغايرة تماماً للواقع ولإسرائيل معتبراً أن رحيلها، سلماً أو حرباً، هو من المسلمات حتى إستفقنا على كارثة 1967.

لقد إصطادت إسرائيل أكبر الحالمين العرب أي مصر، التي بشرتنا بفتح عظيم، و”صوت العرب”، حتى بعد إنتهاء كل شيء بأيام، كان لا يزال يبث أكاذيبه علينا مبشراً العرب بأن جيش مصر المظفر دخل بالفعل تل أبيب. وفي مساء نفس اليوم، أعلن الرئيس المصري الراحل، جمال عبد الناصر، تحمل المسؤولية وإستعداده للتخلي عن الحكم، وكانت تلك “مسرحية متدنية” من تأليف وسيناريو وإخراج الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل، “فيلسوف” النكبات.

وعندما جاء الرئيس أنور السادات، أراد أن يبني مجده الضائع على جثة مصر، وليقارن بينه وبين الرئيس عبد الناصر. فزار إسرائيل وأبرم معها أول وأهم صفقة، في “كامب ديفيد”، ثم صفقة السلام بعدها بشهور حيث كانت مبرراته “أكاذيب” مفضوحة انطلت على السذج من الشعب، الذي حرم من العقل والحرية ومن الفئة الباحثة عن مصالحها. أما الذين اعترضوا على كارثة “كامب ديفيد” ومنهم أصدقاء، فقد زج بهم في السجون وإستصدر من برلمانه قانون العيب الذي يجرم به كل من يعارض ويشكك في “رب الأسرة” المصرية وكبيرها، وأشاع برلمانه وأجهزته أن الصفقة “فتح عظيم” على مصر والمنطقة وأنها ستحل القضية لصالح فلسطين ويسود السلام وتنقذ الأرواح، مع توفير أموال الحروب للتوجه نحو التنمية والإزدهار.

ولكن، لو كان الرئيس السادات صادقاً وواثقاً لأتاح للمعارضين فرصة إنقاذ الوطن من “سرطان” أشد فتكاً من قيام إسرائيل وهذا هو الإختراق الحقيقي والإنكسار الفعلي لمصر والمنطقة معها، إذ قال “المطبلون” لو لم تتم هذه الصفقة لما إنسحبت إسرائيل من سيناء ولضمت الأخيرة إلى فلسطين والجولان التي إبتُلعت، كما صور السفهاء الرئيس السادات أنه “بطل الحرب والسلام”، وتمسك قطاع من المثقفين المنتفعين بضرورة الإسراع في التطبيع مع إسرائيل.

ولما كانت الصفقة “دجلاً” ظاهراً ومحطة أساسية من محطات تقدم المشروع الصهيوني، فقد إعتبرت إسرائيل أن سيناء هي كل الأراضي العربية، متهمة مصر بأنها، قبل إبرام الصفقة، كانت تقود المنطقة في حملة الكراهية ضدها. والحمد لله صار الجميع في حب إسرائيل، فإزدادت مصر بؤساً وتراجعت مواقفها الدولية، وإزداد المشروع الصهيوني تغولاً واقترب من غايته انطلاقاً من هذه المحطة.

فعندما أبرمت مصر الرسمية الصفقة، بررتها بأمور خمسة؛ الأمر الأول، أنها تسترد أرضها أما بقية الأراضي المحتلة فلها رب يردها مشيعة أنها تركز على مصالحها ولا علاقة لها بغيرها في صيغة أوحت بها إسرائيل إلى العرب مفادها “مصر أولاً”، حيث زاد الرئيس السادات، ومن خلفه “أبواق” ثقافية، التشكك بعروبة البلاد ما لقي هوى عند الطوائف الناقمة على عروبة مصر وإسلامها كلٌ لأسبابه، تلك العروبة التي روج لها الرئيس عبد الناصر التي تقوم على أساس إلتزم مصر بدعم فلسطين، وبأن على كل دولة حل مشاكلها مع اسرائيل بمفردها. الأمر الثاني، أن الحروب تزيد مصر شقاء بينما تنعم بخيرات البترول دول لخليج التي تعطي مصر تعطفاً ومناً. أما الأمر الثالث، إن القضية نفسية عند اليهود؛ فإذا أمنوا، إتجهوا إلى التسوية. والأمر الرابع، الإستفادة من تفوق اليهود والتعاون في التنمية والتعمير. والأمر الخامس والأخير، وقف مسلسل الدماء والعيش المشترك بأمان.

الغريب في ذلك أيضاً أن الرئيس الراحل محمد حسني مبارك، الذي وصف في إسرائيل بأنه “كنز” إستراتيجي، كان أنصاره يصورون فضائل الصفقة بأنها قد أنهت الحروب بين مصر وإسرائيل وهي مغالطة وتدليس لثلاثة أسباب؛ السبب الأول، أن مصر إستسلمت للمشروع الصهيوني وتحولت من عقبة إلى مساند له في المنطقة فإخترقها كيفما شاء، كما أن لها الفضل في العديد من المحطات الأخرى، كإنفراط العقد العربي وتسيد الخليج حيث تراجعت إلى الصف الأخير.

السبب الثاني، أنه لم تقع حروب بين مصر وإسرائيل وإنما كانت، وفي كل مرة، هي من يغزو مصر ويقهرها. حدث ذلك العام 1956 وإستيلائها على سيناء ووضع شروط لإنسحابها، ثم عام 1967 حين دمرت سلاح الطيران والمطارات في ساعات بينما “صوت العرب” يردد أمجاد يا عرب أمجاد، إذ إشترطت إسرائيل إنسحابها من سيناء في مقابل الإستيلاء على إرادة مصر كاملة، وصارت هي الرقم الأصعب والحاسم في الشؤون الداخلية ومعظم الخارجية المصرية. لقد فتحت صفقة “كامب ديفيد” الطريق إلى “إتفاق أوسلو” ثم إتفاق “وادي عـربة”، وهي المسؤولة عن “صفقة القرن” وإقدام الإمارات، ومعظم الخليج والسودان خلال شهور، على إتباع الخطوة نفسها. فإذا كانت معاهدات السلام الثلاثة الأولى بمقابل من إسرائيل ولو لم تفي بوعودها، فإن الإمارات والسودان وما يستجد سيكون بمقابل ضمان نظم الحكم في هذه الدول. ولكن الأخطر هو بناء قواعد عسكرية في الخليج لإصطياد إيران، حيث أتوقع أن تتم إبادة الخليج وبتروله عن الخريطة، خلال الشهور القادمة، إلا أنني أدعو الله أن يحفظ الخليج وأهله ويمحو الباطل وأهله مؤكداً على أن مصر هي البداية والنهاية.

أما السبب الثالث هو أن “كامب ديفيد” نصَّبت واشنطن حامياً للمشروع الصهيوني بمواقة عربية وجعلت لواشنطن الكلمة العليا والتحكم في نظم الحكم.

إن تمكن إسرائيل من الخليج في معركتها، ضد إيران والمقاومة، هو “لعب بالنار” فهو لن يزيد أسهم الأطراف الخليجية عند واشنطن وإسرائيل دائماً بل سيكون وبالاً على حكامهم، وهو خير دليل على أن بعض الحكام العرب لا تهمهم الأوطان ولكن ما يهمهم هي كراسيهم بأي ثمن. أرجو الله أن يعترض أحد على هذه القائمة بالأمثلة، وأنا أحذر من البداية اللهم قد بلغت اللهم فإشهد.

من هنا أقول، لا بد أن تعود مصر قلعة للعروبة، وأن يتوقف دورها في الترويج للمشروع، وأن تفصل مصر الرسمية بين حسابات الحكم المؤقتة ومصالحه ومصالح الأوطان الدائمة، فالحكام إلى زوال والباقي هو الله والشعب والوطن.

ختاماً، لقد ساق كل المشاركين، في خيانة الأمة وبيع العروبة والإتحاق بقطار الصهيونية، الأكاذيب حول السلام والتسامح ومصلحة فلسطين والإزدهار والإستقرار، بينما هم يدركون جيداً أنهم يسهمون في إقامة “سلام المقابر” للفلسطينيين. بقي أن نؤكد على أن كلمة السلام تعني المشروع الصهيوني وأن البداية كانت في إنكسار مصر 1967 الذي زعم الرئيس السادات أنه يعالجه بـ “كامب ديفيد”، في حين لم يتوقف أحد من حكام مصر لكي يبدأ بداية صحيحة، بل ركب جميعهم الموجه، فتحملت مصر ما جرى. والسؤال هنا: هل أدرك الحكام العرب أوهام السلام الذي مكنوا إسرائيل من فلسطين تحت ستارها؟!

*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.

مصدر الصور: إندبندنت عربية.

موضوع ذا صلة: التطبيع بين الدين والسياسة