طوني فرنسيس*

لم يرحب الإيرانيون مرة بالتحرك الفرنسي تجاه لبنان. وفي التحليلات القليلة التي تناولت هذا التحرك تحدثوا عن “مؤامرة” ومحاولة لفرض التطبيع مع إسرائيل، عبر دعم قيام صيغة حكومية جديدة في هذا البلد. الفرنسيون تحدثوا عن اتصالاتهم مع الإيرانيين بشأن لبنان، منذ الحديث الهاتفي بين الرئيسين الفرنسي، إيمانويل ماكرون، والإيراني، حسن روحاني، قبل أكثر من شهر، والمصادر الروسية ألمحت إلى فحوى حديث مساعد وزير الخارجية، ميخائيل بوغدانوف، مع السفير الإيراني في موسكو، وقالت إنه تناول الوضع في لبنان من دون نتيجة. في المقابل، لم يُعلن الإيرانيون موقفاً، واكتفوا بوضع تلك الإتصالات في خانة متابعة العقوبات الأميركية والملف النووي والوضع في سوريا. لم ينتبهوا إلى أوضاع لبنان، ولا إلى رغبة الفرنسيين بإحداث خرق في جمود الأزمة التي يعانيه، وتعاملوا معه بخفة عَكسها سلوك ممثليهم في بيروت، ما أسفر بالنتيجة عن إرتباك ثم انحسار موجة التفاؤل التي أثارها الفرنسيون عبر مبادرتهم اللبنانية.

والحقيقة أن إصرار ممثلي إيران في لبنان على إفشال المبادرة الفرنسية يتخطى حدود المنطق، ويكشف مرة أخرى مدى تبعية هؤلاء للقيادة الخمينية وتنفيذهم لأوامرها، ومدى ابتعادهم عن كل ما هو مصالح لبنان الوطنية كشعب ووطن.

فالرئيس ماكرون قدم لحزب الله كل ما يرغبه على حساب آراء ومواقف طوائف وشرائح واسعة من اللبنانيين، مُعاكساً موقف حلفائه الأميركيين والأوروبيين الذين يصنفون الحزب تنظيماً إرهابياً. بينما اعتبر هو الحزب كياناً سياسياً أساسياً منتخباً، فلم يطرح مسألة امتلاكه السلاح والصواريخ خارج سلطة الدولة، ووافقه في رفض مطلب إجراء انتخابات نيابية مبكرة تطالب بها قوى سياسية عدة، منها خصوصاً، القوى المشاركة في الإنتفاضة اللبنانية. ومقابل ذلك، حض الرئيس ماكرون على حكومة يدعمها حزب الله والآخرون، مهمتها تنفيذ برنامج إنقاذ مالي واقتصادي وإعماري يفتح الطريق أمام إخراج لبنان من الانهيار الذي يعيشه.

تستجيب “مبادرة ماكرون” لحاجات اللبنانيين الأساسية ومطالبهم المرفوعة منذ عام، التي ازدادت إلحاحاً بعد جريمة تفجير مرفأ بيروت والدمار الذي ألحقته بالمدينة، والضحايا الذين أوقعتهم في صفوف مواطنيها. وبقدر ما تتيح تلك المبادرة للبنانيين فسحة تنفس وأمل، بقدر ما تسمح لحزب الله وقوى السلطة المتهمة بالفساد والإهمال بالإستمرار، وربما العودة للإمساك بتلابيب البلد في مرحلة لاحقة عبر انتخابات نيابية في موعدها.

قدم الرئيس ماكرون فرصة إنقاذٍ للبنان، هي في الوقت نفسه فرصة لتحالف الميليشيات والفساد القائم، وتعاملت مختلف القوى بإيجابية وترقب مع هذه الفرصة، إلا أن سلوك حزب الله و”الثنائي”، الذي يقوده تطور في اتجاه نقيض، مثيراً أزمة تتخطى حدود المبادرة الفرنسية طارحاً تغييرات أساسية في طبيعة النظام السياسي اللبناني. الأمر الذي ينقل المبادرة الفرنسية من موقع الإسهام في إيجاد مخارج للوضع القائم، إلى موقع الحرص على حفظ الهدوء، وربما الانسحاب بأقل الخسائر.

حاول الرئيس ماكرون الإسهام في إيجاد علاج لمشكلة لبنان مستنداً إلى حجم الأزمة وعمق المأساة، وأعتقد أن كمية النوايا الحسنة قادرة على صنع المعجزة. غير أن الواقع غير ذلك، فسلطة الفساد متجذرة، والحضور الإيراني لم يعد تفصيلاً بسيطاً في لبنان. وعندما نظمت إيران تدخل ميليشياتها وفي رأسها حزب الله، “درة التاج” بحسب التسمية الإيرانية، في سوريا والعراق واليمن وغيرها من دول العالم، لم تكن تسعى وراء تعزيز دور هذه الميليشيات في أوطانها الأصلية فقط، بل إلى جعلها أذرعاً لحماية نظامها الذي تطمح إلى جعله سيد العالم. واليوم حانت الساعة لتلك الميليشيات لإثبات قدرتها على القيام بالدور الذي أنشئت من أجله.

جاء التشدد في لبنان عبر طرح مطالب تطال البنية الأساسية للنظام ليعطل مسار المبادرة الفرنسية. صحيح أن هذا التشدد مرفوع في وجه القوى والطوائف الأخرى، إلا أنه بالمعنى الأعمق تشدد إيراني في وجه أميركا. وما على ماكرون إذا أراد تعاوناً في لبنان، إلا أن يحصل على تنازلات من الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وليس من رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، سعد الحريري.

ولا تبدو هذه التنازلات متاحة بأي شكل، خصوصاً قبل الإنتخابات الأميركية. ويعرف الإيرانيون ذلك، وهم يواصلون حربهم الإعلامية ضد الأميركيين. وقبل يومين، هدد الحرس الثوري بقتل المشاركين في اغتيال (اللواء) قاسم سليماني، ونشرت وكالة “مهر” الرسمية الإيرانية لائحة بالمدرجة أسماؤهم على لائحة القتل، وفي مقدمتهم الرئيس دونالد ترامب ووزير الخارجية، مايك بومبيو، وآخرين من مختلف مراتب الإدارة.

لن يقدر الرئيس ماكرون على خدمة النظام الإيراني في مثل هذه الظروف، رغم تمايزه مع المجموعة الأوروبية في الملف النووي. والإشارات التي تعطيها واشنطن الداعمة رسمياً لمبادرته اللبنانية، لم تمنع واشنطن من مواصلة سياسة العقوبات، وآخرها ما بدأته، فجر الأحد، عملاً بإنسحابها من إتفاق 2015. وفي الحصيلة لن تتساهل طهران في لبنان، ولن يتاح لأنصارها التمتع بـ “لبننة” محدودة، تجعل المبادرة الفرنسية تخطو خطوة إلى الأمام.

كانت حركة الرئيس ماكرون محاولة وعد بإنقاذ واستجابة للحد الأدنى من طموحات اللبنانيين، وفي الوقت نفسه إنقاذاً، ووقتاً مستقطعاً لسلطة الميليشيات والفساد، إلا أنها الآن مرشحة لأن تصبح ذكرى عابرة، في بلد محكوم بالمشروع الفارسي وأوهام المذاهب.

*إعلامي وكاتب ومحلل سياسي – لبنان.

المصدر: إندبندنت عربية.

مصدر الصورة: الثبات.

موضوع ذا صلة: إيران بدورها.. لا بنفوذها