جمهورية نشأت بأعجوبة وأكذوبة.. بتسويات وصفقات.. بدهاء ورياء.. لبنان. هذه البقعة الجغرافية الصغيرة المعتبرة “Boutique country” فيها شيء من كل شيء، غير أن جمالها تشوه بنظامه الطائفي العنصري المحاصصاتي الأكثري “ولاَّد الأزمات”، وفساد زعمائها الذين عاثوا في الأرض موتاً ودماراً. ترعرعنا في ظلال الوطن المتنوع، وبعد مئة عام اكتشفنا حقيقته.. هو فعلياً ليس إلا كياناً ولد ليتم إنتزاعه عن محيطه العربي، وإعطائه هوية ممزوجة بين الشرق والغرب، ويكون رديفاً للكيانات التي قامت بالتوازي مع قيامه. لربما ندفع اليوم ثمن ما حيك لنا من مخططات على مدى مئة عام، ومنها الطائفية وتعدد الولاءات الخارجية التي زرعوها وقتلوا كل من حاربها وأخص هنا بالذكر المفكر الثائر أنطون سعاده الذي إتهموه بالإنقلاب على إقطاعهم ومزارعهم الطائفية.
هذا النظام الطائفي الفاسد المتحكم بكافة مفاصل البلد، من بلديات إلى وزرارات إلى قضاء إلى مؤسسات العامة، بات من المستحيل إصلاحه أو تغييره.. بالمعنى الفصيح، يبدأ الفساد من الرأس ليصل إلى الأطراف.
لطالما ترددت على مسامعنا أناشيد ثورية تنبذ كل أنواع الظلم والإستبداد، لكن الشعب اللبناني لم يستطع أن ينزع عنه ثياب العشائرية والقبلية والعائلية التي تنسحب على واقع الأحزاب؛ نسمع بشعار “كلن يعني كلن”، لكن الكل ضد كل الزعماء إلا زعيم الطائفة الذي يعتبرونه منزهاً عن السرقات وخارج منظومة الفساد. إذاً، كيف لوطن أن يبنى على هذه الإستنسابية والعقلية والإعماء الكلي عن المصلحة العامة؟ كيف تبني وطناً وأنت غير قادر حتى على المحاسبة ضمن طائفتك؟
حين يدرك الزعيم أنك ستذهب إلى أقلام الإقتراع ولإنتخابه مجدداً، لن يبذل أي جهد لإظهار أداء مهني أفضل، بل سيتماهى بالجلوس على كرسيه وفي قصره وينتظر قدومك لأداء فروض الطاعة. لا بد هنا من الإشارة إلى أنه ليس المطلوب من المواطن التخلي عن زعيمه، بل تقييم الأمور بعين موضوعية غير عاطفية لإدراك الحقيقة ومن بعدها اتخاذ القرار المناسب. أما إذا ما نظرنا إلى الأحزاب العلمانية، نجد أنها محجمة بشكل كبير لدرجة أن دورها بات شبه معدوم في السلطة لا بل أكثر، فهي مجبرة على إختيار ممثليها وفقاً للتقسيم الطائفي.
أيضاً، بعد شهر ونيف على أكبر نكبة في تاريخ لبنان الحديث، أي تفجير مرفأ بيروت التي كانت ضريبته إستشهاد المئات وإصابة الآلاف ودمار العاصمة وضواحيها، لا تزال التدخلات الدولية لتفجير الوضع في البلد تعمل وبأدوات داخلية لضرب المقاومة شعبياً من خلال إطالة أمد الأزمة وعدم التوصل إلى حلول، حيث يلقي الكل إتهاماته على سلاح المقاومة بوجه العدو الإسرائيلي، في وقت أنطلق فيه قطار التطبيع العربي العلني وينفذ أجندته السياسية والثقافية والتجارية دون مراعاة لا قضية فلسطين المحتلة المنكوبة ولا قضية لبنان المهدد يومياً بعدوان إسرائيلي. بالمناسبة، بوجود السلاح والطيران الحربي ما زال ينتهك سيادتنا يومياً، فكيف هو الحال من دون سلاح وماذا كان سيحل بنا؟!
فيما يخص التفجير، هل سمعتم يوماً عن قضاة في أية دولة ما يتسترون عن كشف الحقائق، أو حصراً في “دولة العجائب” لبنان؟ هل تمكن القضاء من إعلان نتائج تحقيق في قضية قتل أو سرقة أو صفقة أو تفجير لها بُعد سياسي؟ هل لنكبة بحجم تفجير المرفأ أن تقابل بـ “ميوعة” في التحقيق ودخول الحصانة السياسية – الطائفية لحماية رؤساء حكومات سابقين ووزراء ومسؤولين عن المرفأ متورطين بوصول شحنة نيترات الأمونيوم إليه وإبقائها فيه منذ العام 2014؟!
لا شك بأن هناك خلاف منظم يقوده الفريق السياسي الموالي للولايات المتحدة، فهو يعرقل ومن ثم يضع حزب الله في مواجهة المبادر الفرنسي ليُظهر أنه سبب التعقيد علماً أن لقاء عين التينة طرح فكرة إما اللجوء إلى الدولة المدنية أو رفض حرب الإلغاء بحق الثنائي الشيعي. وهنا، يكمن الحل بالممارسة لا بالنظرية؛ فإن كان الحل هو الدولة المدنية، فلماذا لا يقبل به الكل علماً أن جميع الأطراف السياسية غير جدية بمسألة الدولة المدنية؟! أم أن هناك شبه توافق ضمني للإبقاء على النظام الطائفي كونه يشكل غطاء لعمليات الفساد؟
على الجانب الآخر، جاء الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بإستعراض تام لحبه وحرصه على لبنان، وعقد المؤتمر الدولي لدعم البلد المنكوب شرط عدم تحويل المال إلى مؤسسات الدولة بل للمنظمات غير الحكومية، فكانت المحصلة حجب الأخيرة للكثير مما وصل إليها عن أهالي بيروت وأصحاب المباني المتضررة. ولقد عبَّر السفير المفوض لمنظمة “هيومان ريتس واتش” في لبنان، رومانس رعد، بالقول “نرى اليوم عدد كبير من منتحلي صفات جمعيات أهلية وأسماء جمعيات مجتمع مدني وغيرها يستغلون وجع الناس من أجل تنفيذ أهداف خاصة أخرى كالإحتيال والسرقة”.
وهنا نسأل: من يراقب عمل تلك الجمعيات وآلية صرفها للمساعدات؟ وعلى أية قاعدة تم تسجيلها وتلقيها للمال؟ وما الدور الذي تؤديه؟ وإذا كانت مشكلة المجتمع الدولي مع الحكومة اللبنانية إفتقادها للشفافية وإنغماسها بالفساد، فما الذي يجعل الجمعيات تعمل خارج هذا الإطار وتستولي على المساعدات لأهدافها الخاصة إن لم تخضع للرقابة؟!
من خلال ملاحظتنا، نرى أن مصير المساعدات، سواء تلقتها الدولة اللبنانية أو الأحزاب أو الجمعيات، هو الهدر لأن الفساد هو هو، وهذه الآفة باتت متجذرة في العقلية اللبنانية بإستثناء أقلية غير فاسدة من الشعب، وخاصة من فئة الشباب، تجد صعوبة مطلقة في التأقلم معها والعيش في كنفها، ما يدفعها للهجرة.
بكل أسف، من الواضح بأن لبنان “محتل” من قِبل نظام أمني وأجهزة مافياوية تدعي تنفيذها للقانون، فيما تستقوي على الفقير الذي لا سند له وتغطي أصحاب السلطة وأتباعهم والمتمولين والتجار لأنها تعتمد على سياسة الرشاوى والعمولات والسمسرات لتسير مصالحها الخاصة عوضاً عن تأدية دورها بحماية المواطن، ناهيك عن اهتراء الكثير من المؤسسات والإدارات العامة، التي لم تعتمد التحديث والمكننة ومعيار الكفاءة بعد وتسيطر عليها “البطالة المقنعة” نظراً لفائض عدد الموظفين في ظل غياب دورهم الوظيفي.
ختاماً، أضحت “الدولة” سلطة مستبدة على كل المستويات.. قتلت آمال وإرادة الشعب وزرعت فيهم الخوف والتبعية والإذلال، ما أفقدها هيبتها وحصرتها ضمن بوطقة الأحزاب الطائفية، التي تسمي ممثليها بالسلطة ووظائف المؤسسات العامة مقصية ما يزيد على الـ 50% من الشعب المنتفض عليها، الأمر الذي يجعل الحلول أكثر تعقيداً ما لم يتم تغيير المنظومة الحاكمة بشكل كامل من خلال قانون إنتخابي عصري على قاعدة لبنان دائرة إنتخابية واحدة خارج القيد الطائفي على قاعدة النسبية، وهو ما سيحد من سطوة المذاهب والطوائف، ويرسخ الهوية الوطنية، وينقل البلاد من إقتصاد ريعي إلى اقتصاد حقيقي منتج، ويحرر القضاة من قبضة الزعماء، ويحسِّن النظام الضريبي، وغيرها من الإصلاحات الإقتصادية والمالية والتربوية والمجتمعية التي يتمناها كل مواطن.
*إعلامية وناشطة سياسية – لبنان
مصدر الصور: العرب – العربي الجديد.
موضوع ذا صلة: إنتصر الفساد على الوزير.. فإستقال