مركز سيتا

تغيرت لغة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وحكومته بصورة كبيرة في ملف شرقي المتوسط، فطغت الكلمات الدبلوماسية على حديثه بدل التهديد، خاصة تجاه اليونان، وهي السمة الأبرز في أحاديث المسؤولين الأتراك. هذه التصريحات، تبدو غريبة على الرئيس التركي الذي كان يتوعد أثينا قبل أيام، متحدثاً عن قدرة بلاده على “تمزيق خرائط مجحفة”، في تهديد شديد اللهجة ترافق مع التهديد بإجراء أنقرة مناورات عسكرية.

تغيّر الخطاب

يبدو أن أنقرة بدأت تتلمس العزلة الدولية، فلقد صعدت في الآونة الأخيرة كثيراً خاصة تجاه جيرانها، الأمر الذي وصل إلى حد إعلان حرب، إذ تحولت تركيا من “صفر مشاكل” إلى “بلد المشاكل” واضعة نفسها في أكثر من جبهة مفتوحة، الأمر الذي إنعكس سلباً على الداخل ونهج سياستها الخارجية لكونها تحسست نفور كل حلفائها وشركائها الذين كانت تعتمد عليهم وتستمد قوتها منهم.

إن ما قاله الرئيس أردوغان، حول سحب سفينة التنقيب من سواحل المتوسط، يعد فرصة لإعطاء مجال للدبلوماسية، وهو ما رحبت به اليونان، حيث أشار إلى استعداده للقاء المسؤولين اليونانيين ومناقشة الخلاف. هذا الأمر، يبين أسلوب تركيا المعهود عند الشعور بالخطر، فهي تعمل حينها على تلطيف الأجواء مباشرة. لكن ما الأسباب التي دفعت الرئيس التركي إلى “تغيير سلوكه” بعد شهور من “العنتريات” التي لم تسلم ونها لا دولة عربية أو غربية؟!

ناقوس الخطر

تداخلت الملفات الدولية والإقليمية بعضها ببعض، فلم تعد تصرفات أنقرة مقبولة لدى الجميع، لا بل على العكس بدأ الجميع بالتحضير لخطوات توقفها عند حدها، سواءً على صعيد أوروبا أو الولايات المتحدة وحتى روسيا حصوصاً في الملفين السوري والليبي.

من هنا، سارعت الحكومة التركية إلى معالجة هذه الملفات حسب المستطاع، وبدأت أنقرة تغازل القاهرة وتصف الجيش المصري بالقوي، لكنها لم تغازل مصر بدافعٍ منها، إنما بناءً على طلب من المعارضة التركية التي طالبت حكومتها، بجانب مصر، إلى ضرورة التنسيق مع روسيا، كما هو الحال في إدلب. لكن مصر لم تعر هذه التصريحات إهتماماً وإكتفت بالقول “إن النهج التركي يفتقر إلى المصداقية”، فلا يمكن لقطيعة 7 سنوات أن تنتهي بتصريح إيجابي لأنقرة ويعيد ترتيب الخلافات بين الجانبين.

يضاف إلى ذلك التقارب الإماراتي مع مالطا، التي تحالفت مع حكومة الوفاق برئاسة فائز السراج الذي ينوي الإستقالة. هذا الملف، أخل بموازين التدخل التركي في طرابلس الغرب، إذ أدركت أنقرة خطر فقدانها لهذا “الكنز الثمين” الذي بدأ يُسحب منها تدريجياً.

الحليف المتين

كما ذكر أعلاه، بدأت تركيا بقطاف أخطاء سياساتها، فلم يعد بمقدورها معرفة ما إذا كانت تستطيع تلافي الملفات التي أغرفت نفسها بها. وها هي الولايات المتحدة، الشريك الأقوى للرئيس أردوغان، بدأت بسحب أسلحتها وقواتها من قاعدة أنجرليك ونقلها إلى إحدى الجزر اليونانية، بحسب المعلومات، ما يعني زيادة تسليح اليونان؛ وفي حال حدوث أية مواجهة، ستقف واشنطن من صف أثينا، وهذه رسالة واضحة إلى أنقرة.

لم تتوقف الأمور عند هذا الحد، فلقد زار مايك بومبيو، وزير الخارجية الأمريكي، جزيرة قبرص مؤخراً، التي تنتهك أنقرة المياه الإقتصادية الخالصة لها، معلناً رفع حظر السلاح المفروض على الجزيرة العضو في الإتحاد الأوروبي.

“سلاح” أوروبي

لطالما هدد الرئيس التركي دول الإتحاد الأوروبي بملفي الهجرة والغاز. في المقابل، خطت أوروبا خطوات تحذيرية عدة ضد أنقرة، معلنة موقفها الصريح من ملف شرق المتوسط، وملوحة بفرض عقوبات واسعة، سيُعلن عنها في القمة الأوروبية المقبلة في 24 سبتمبر/أيلول الجاري (2020)، ما يعني أن الإقتصاد التركي في دائرة الخطر حيث أنه من المتوقع أن تشمل حزمة العقوبات حظراً على السفن أو غيرها من الأصول المستخدمة في عمليات التنقيب، وحظر إستخدام موانئ ومعدات الإتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى عقوبات واسعة ضد قطاعات الإقتصاد بأكملها.

يضاف إلى ذلك العديد من المناورات العسكرية في المتوسط، وتزويد فرنسا لليونان بـ 18 مقاتلة من طراز “رافال” المتطورة ونشرها، وإيطاليا، قوات عسكرية في شرق المتوسط، ومشاركتها في تدريبات مع اليونان وقبرص ضمن مبادرة التعاون الرباعية.

أخيراً، يمكن القول بأن السحر إنقلب على الساحر، فإما أن يسير الرئيس أردوغان وفق الأجندة الغربية، أو سيلقى “مصيراً أسوداً” وبدأت ملامحه بالظهور عملياً، ما يعني أن خياراته باتت محدودة إذا لم نقل معدومة. فهل تنجح الدبلوماسية الناعمة بعد إظهار القوة المبالغ بها؟ وهل فات الأوان ولم يعد الرئيس أردوغان شريكاً موثوقاً؟ وهل تشكل “سياسة التراجع” الفيصل في عودة تركيا إلى حجمها الطبيعي؟ أسئلة كثيرة قد تظهر بوادر أجوبتها مع إنقعاد القمة الأوروبية.

مصدر الصورة: الإتحاد برس.

موضوع ذا صلة: استعراض تركيا لقوتها في المتوسط لا يتعلق فقط بالغاز