د. فايز الشهري*

كانت انتخابات الرئاسة الأميركية العام 2016 أول كشاف أوضح عمق أزمة النخبة الأميركية وانكشافها أمام معظم الأميركيين. كان انتخاب “دونالد ترامب” القادم من عالم الأعمال والمغامرات آنذاك وهو يجلجل بخطابه الصاخب دليلاً واضحاً على انقسام النخبة المؤثرة في المجتمع الأميركي وتضاؤل تأثيرها. وقد زادت هذه الفجوة وباتت أكثر وضوحاً مع “سيرك” الانتخابات الحالية (2020) ورأى العالم كيف بات الأنموذج الأميركي (الديموقراطي) على المحك بين خطابين يكتبان السياسة بلغة الشارع ومزاجه.

تاريخياً كانت الطبقة السياسية الأميركية حتى بداية الألفية الثانية تقريباً تتشكّل وفق الأطر الأميركية التقليدية التي تفرزها العائلات السياسية الكبرى وأقطاب الصناعة والمرموقون من خريجي كلّيات وجامعات النخبة. وكانت هذه النخبة تتبادل المواقع مع انضباط وظائف التوجيه السياسي المبني على مصالح أميركا أولاً وبشكل ذكي محسوب. وكان الحزبان الرئيسان (الديموقراطي والجمهوري) عنواني هذه المبادلات يتباريان في التكتيكات والسياسات التي تخدم الاستراتيجيات الكبرى التي لم تكن حولها خلافات كثيرة.

ولكن هذه النخبة السياسية (التقليدية) كما يبدو فقدت بعض أدوارها المهمة مع ثورة وفورة الأجيال الجديدة التي لم تعد (كما الأجيال السابقة) ثمرة الثقافة الأميركية وحدها. ومن جانب آخر فإن هذه الطبقة السياسية بمرجعياتها التقليدية تبدو وكأنها قد تعرّضت للتجريف مع موجة الأثرياء الجدد الذين فرضتهم الصناعات والخدمات التقنيّة الحديثة وفرضت اتجاهاتهم الشديدة التعقيد. ويكفي أن نعرف أن حوالي ثلثي قائمة العشرين شركة الأكثر نشاطاً في مجال الأعمال هي شركات تقنية واتصالات (وبعضها تجاوزت في رأسمالها التريليون دولار للمرة الأولى في التاريخ) تقدّم خدماتها وتطبيقاتها إلى كل سكان الأرض.

وهكذا ظهرت النخب الجديدة وهي تحمل ثقافة عالمية وبيدها أدوات التأثير وأمام عينها العالم كلّه. ولهذا لم يكن غريباً أن يقف مؤسس فيس بوك أو تويتر أمام المؤسسة الأميركية الرسمية ويضعان شروط النشر وقواعد الإفصاح مدعومين بجيش عالمي ضخم من المستهلكين لخدماتهما المدمنين على استعمالها صباح مساء.

ربما بدأ فساد النخبة السياسية مع الأموال الضخمة جداً التي بدأت تتدفق لخدمة المصالح الانتخابية؛ كونها من جهة قد تحمل وتجمّل أسماء لا تستحق أو تهيئ للمال السياسي وضع أحمال الشروط الصعبة على ظهر المرشح سواء كان للرئاسة أو للمجالس المنتخبة. ولهذا فإن هذا الحيص بيص في فرز نتائج الانتخابات الرئاسية للعام 2020 وترديد التخوف من مآلات إعلانها ما هو إلا مؤشر فقدان النخبة لأدوات السيطرة على “الفلتان” المتوقّع.

قال ومضى .. من إحترم الحقيقة لن يضل طريقه.

*كاتب وأكاديمي – السعودية.

المصدر: جريدة الرياض.

مصدر الصور: أرشيف سيتا.

موضوع ذا صلة: بايدن “النائم”.. وترامب “جرو بوتين”