شارك الخبر

رفيق خوري**

لبنان، تقليدياً، بلد “إستيراد” إيديولوجيات وصراعات خارجية، لا بلد “تصدير” نزاعات. بعض أحزابه فروع لأحزاب عربية وأممية شيوعية أو إسلامية، من الحزب الشيوعي إلى حركة القوميين العرب وإنشقاقاتها وحزب البعث العربي الإشتراكي الذي إنقسم إلى “سوري وعراقي” إلى حزب التحرير الإسلامي والجماعة الإسلامية المرتبطة بحركة الإخوان المسلمين.

والإستثناء الوحيد هو الحزب السوري القومي الإجتماعي الذي نشأ في لبنان وصارت له إمتدادات في سوريا والأردن وفلسطين والعراق، ولكن من أجل وحدة “الأمة السورية”. حتى حزب الله، فإن الدور الإقليمي الذي يلعبه في حروب المنطقة وصراعاتها عسكرياً وأمنياً ويؤثر في لبنان وعلاقاته بأشقائه العرب، هو إعادة “تصدير” صراعات “مستوردة”، من حيث نشأ على يد حجة الإسلام والمسلمين محتشمي والحرس الثوري الإيراني مع مجموعة لبنانية كانت في حزب “الدعوة” العراقي أو في حركة “أمل” اللبنانية، التي أنشأها الإمام موسى الصدر.

وليس ذلك لأن لبنان بلد صغير بل بسبب تركيبته الإجتماعية والثقافية، ففي المنطقة بلدان صغيرة مثل قطر اليوم وليبيا أيام (العقيد معمر) القذافي تلعب أدواراً أكبر منها في المنطقة، ولو بالمال وتسليح منظمات متشددة. وهناك بلدان كبيرة مثل مصر لها أصلاً أدوار قيادية كبيرة في العالم العربي، تعود إلى أدوار المصالحات والتسويات بين المختلفين في المنطقة.

ذلك أن أزمات لبنان المتراكمة والخطيرة حالياً هي خليط من أزمات وصراعات محلية فئوية أو شخصية ومن أزمات مرتبطة بصراعات المحاور الإقليمية والدولية. لكنها على العموم، ظواهر على سطح أزمة بنيوية عميقة في النظام الطائفي. بعضها قابل للتسويات الجزئية مع بقاء الأزمة البنيوية. وبعضها الآخر لا حل له من دون الحل الجذري لأزمة النظام.

ونحن عملياً في مأزق تراجيدي :لا حل جذرياً لأزمات لبنان إن لم يصبح دولة مواطنة. وليس في الأفق ما يوحي أن الظروف نضجت لإزالة الحواجز على الطريق إلى الدولة الوطنية المدنية. وثيقة الوفاق الوطني في “إتفاق الطائف” نصت على ما جاء في المادة 95 من الدستور، المعدلة بالقانون الدستوري الصادر في21 سبتمبر/أيلول 1990، من أنه “على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين إتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم إضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية وإجتماعية. مهمة الهيئة دراسة الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلس النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية”. لكن الهيئة بقيت في الغيب ولم يتم تأليفها حتى على الورق.

ومن هنا، كان الإنقسام الحاد في المواقف خلال مناقشة اللجان النيابية المشتركة لمشروع قانون انتخاب جديد مقدم من نائبين ينتميان إلى كتلة رئيس المجلس، نبيه بري. فالمشروع ينص على إجراء الإنتخابات على أساس نظام نسبي في لبنان دائرة واحدة وخارج القيد الطائفي أو أقله خارج القيد المذهبي. والرئيس بري، الذي يصفه الجميع بأنه “داهية”، ليس من النوع الذي يصر من دون هدف على تقديم مشروع يعرف سلفاً أنه لن يمر.

ولا فرق سواء قيل في التوقيت إنه لصرف الإنتباه عن شيء آخر أو قيل في المضمون إنه يمهد لتغيير النظام، أو قال أصحابه إنه الطريق إلى الدولة المدنية. وإذا كان قانون الإنتخاب مفتاح اللعبة السياسية، فإن اللعبة ليست حركة واحدة وانتهى الأمر، بل حركات مستمرة وفصول متتابعة. والكل يعرف أن إجراء الإنتخابات على أساس ما ينص عليه المشروع هو المحطة ما قبل الأخيرة، لا المحطة الأولى، على طريق الدولة المدنية.

والسؤال البسيط هو: ماذا يعني الذهاب، في عز اللعب بالعصبيات الطائفية والمذهبية هنا وفي المنطقة ومن دون تجاوز الطائفية قبل إلغاء الطائفية السياسية التي هي توزيع المناصب على الطوائف إلى إنتخابات في لبنان دائرة واحدة خارج القيد الطائفي أو المذهبي؟ الجواب الواقعي هو الإنتقال من “التعددية الديمقراطية إلى “ديكتاتورية العدد”. وهو ببساطة تركيز “سلطة الغلبة” عبر غلبة طائفة كبيرة على بقية الطوائف. وهذا مشروع يتصرف صاحبه الحقيقي ضمن “الثنائي الشيعي” على أساس أنه محطة على طريق طويل يقود، لا إلى دولة مدنية بل إلى “دولة دينية”.

وهو عملياً هدف مستحيل في بلد من 18 طائفة، بصرف النظر عن التفاوت في الأعداد. وليس غريباً أن يعاد طرح المشروع في مراحل لاحقة، ما دمنا سائرين في الإتجاه المعاكس لما جرى الإتفاق عليه في الطائف: بدل الخروج من الباب الأمامي الذي فتحه الطائف للإرتقاء المتدرج من الطائفية إلى المواطنة والدولة المدنية، نخرج من الباب الخلفي للإنحدار من الطائفية إلى المذهبية.

لكن الجيل الجديد الذي نزل إلى الشارع والعابر للطوائف والمناطق أعاد لنا الأمل، ولو إنحسر المد مؤقتاً، في العودة إلى الخروج من الباب الأمامي إلى الدولة المدنية. والخيار كما قال أحد حكماء لبنان هو “دولة المواهب لا المذاهب”.

*العنوان الأساسي: مسار الغلبة و”الدولة الدينية” تحت عنوان “الدولة المدنية”: أزمات لبنان خليط من أزمات وصراعات محلية وأخرى إقليمية ودولية.

**رئيس تحرير سابق – عضو في مجلس نقابة الصحافة وإتحاد الكتاب اللبناني.

المصدر: إندبندنت عربية.

مصدر الصورة: العربي الجديد.

موضوع ذا صلة: لبنان بين الدويلات “العميقة” و”العقيمة” و”الغميقة”


شارك الخبر
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •