حوار: سمر رضوان
يحاول لبنان اليوم النهوض من الظروف الصعبة التي يعاني منها، من خلال الحفاظ على حقوقه ومحاولته الخروج من الضائقة المالية التي تضرب به، والسعي للحد من تأثير الأزمات الإقليمية عليه خصوصاً وأنه على عتبة التفاوض على حدوده البحرية في وقت يتطلع فيه إلى سياسة أمريكية جديدة تجاهه بعد لا سيما الضغوط التي مارستها عليه الإدارة السابقة.
عن مفاوضات ترسيم الحدود وسياسة الإدارة الأمريكية الجديدة تجاه لبنان وإمكانية التوجه شرقاً، سأل “مركز سيتا” معالي الدكتور عدنان منصور، وزير الخارجية اللبناني الأسبق، حول هذه الملفات وأبعادها.
تمسُّك وتصلُّب
يتمسك لبنان بحقوقه الكاملة فيما يخص مسألة ترسيم الحدود وذلك وفقاً للقرارات والقوانين والأعراف الدولية وكل ما يرتبط بهذه العملية. فعندما يطالب بحقوقه، لا يطالب لبنان بأكثر من من هو له على إعتبار أن الترسيم، كما أودعه في الأمم المتحدة، يستند إلى المعطيات الجغرافية والقوانين الدولية أيضاً.
أما عن مدى تواجب إسرائيل مع ما يطلبه لبنان، فهي بكل تأكيد تريد تقاسم المنطقة المتنازع عليها، في البلوكين /8/ و/9/ بالتحديد، في وقت يطالب به لبنان بحصة مقدارها 860 كلم مربع، وذلك بحسب الترسيم المقدم من جانبهم. ولكن عندما أتى الوسيط الأمريكي إلى لبنان فريدريك هوف، وضع خطاً، سمي بـ “خط هوف”، بين الطرفين بنسبة 60% للبنان، أي 500 كلم مربع، و40% لإسرائيل، أي 360 كلم مربع. من هنا، إن تنازل لبنان عن أي جزء من حقه، سيعتبر تنازلاً عن حقه الكامل، فالمسألة لا تقاس بعدد الكيلومترات إنما بالحقوق.
أما بالنسبة إلى المفاوضات الجارية، فإنني أتوقع أن يتصلب الجانب الإسرائيلي بمطالبه، فلهذا الترسيم أبعاده المرتبطة بالداخل اللبناني والمقاومة، إذ لربما كان يريد المضي بعملية إبتزاز ما. وعلى الرغم من وجود وسيط أمريكي، إلا أنه دائماً ما يقف في الصف الإسرائيلي ومطالبه، فنحن لا ننتظر منه الوقوف إلى جانبنا مطلقاً.
برأيي، إن مسألة الترسيم لن تنتهي بسرعة، فمسارها طويل وربما تنتهي بالفشل. كل ما علينا فعله هو الإنتظار لأن لبنان ينطلق من مبدأ واحد وهو الحصول على حقوقه خصوصاً اليوم لأنه يقف على المحك، إذ لا يستطيع التنازل عن أي جزء من المنطقة الإقتصادية الخالصة العائدة له.
تغييرات محتملة
بالعموم، إن السياسة الأمريكية لا تتغير بشكل جذري بين رئيس سابق وآخر جديد، فهناك إستراتيجية تتعاطى بها مع دول العالم، وبالذات منطقة الشرق الأوسط والمشرق بما فيما الدول المحيطة بفلسطين. قد يكون الرئيس المنتخب، جو بايدن، أقل حدة من سلفه، دونالد ترامب، لكن في نهاية الأمر هناك مصلحة الولايات المتحدة إذ لديها ثوابت معينة تتعامل بها مع المنطقة. أيضاً، يجب علينا ألا ننسى دور اللوبيات اليهودية والمؤسسات الإسرائيلية في الداخل الأمريكي تأثيرهما على صناعة القرار.
فيما يخص للبنان، تتماشى واشنطن مع إسرائيل بما يتعلق بموقفها من المقاومة ووجود حزب الله؛ بالتالي، نرى كيف أنها، وخلال الفترة الأخيرة، بدأت تتحدث عن هيمنة وسيطرة الحزب على مفاصل الدولة، معلنة رفضها لمشاركته ضمن التشكلية الحكومية، ومطالبتها الدائمة بنزع سلاحه.
واقعاً، هذا الأمر ليس من السهل تحقيقه على إعتبار أن الحياة السياسية اللبنانية الحالية لا تسمح مطلقاً بأن يلغي فريق فريقاً آخراً، فحزب الله يعتبر جزءاً من الحياة والتركيبة السياسية اللبنانية، وله قاعدة شعبية عريضة، ووزن وتأثير كبيرين على الصعيد الداخلي.
إذاً، المطلب الأمريكي صعب التحقيق ولا يمكن أن يتم بأي شكل من الأشكال. فإذا حصل وتم تحييد الحزب أو إلغاء دوره أو عدم مشاركته سياسياً، فهذا من شأنه تفجير الوضع الداخلي؛ بالتالي، إن تفجير الوضع الداخلي لا يفيد أياً من الأفرقاء. لذلك، تلجأ الولايات المتحدة إلى فرض عقوبات إقتصادية وتضغط مالياً لمنع لبنان من الحصول على القروض والمساعدات الدولية قبل أن يحقق الشروط التي تريدها.
اليوم، نرى بأن هذه الضغوطات قد وصلت إلى ذروتها لعلها تستطيع من خلالها إنتزاع قرار رسمي ما، أو أن يحمِّل الشعب اللبناني المقاومة مسؤولية ما يجري من أزمات خصوصاً وأن لتلك العقوبات تأثير على كافة اللبنانيين من دون إستثناء، أو قيام البيئة المحيطة بها بتغيير إتجاهاتها والإنقضاض عليها. برأيي، لن يحدث هذا قطعاً.
من هنا، إذا كان الرئيس بايدن يريد التحفيف من عبء سلفه وإنتهاج سياسة مغايرة عن تلك التي مارسها الرئيس ترامب، من المحتمل أن يعترف بوجود طرف لبناني مهم، أي حزب الله، لا يمكن إختزاله أو فصله عن الدولة خاصة وأنه ممثل داخل الحكومة والبرلمان، وله شعبية واسعة. أما عكس ذلك، فهذا يعني أنه سيستمر بنفس النهج، ما يعني بإن سياسة الولايات المتحدة العامة ستبقى هي نفسها إرضاءً لإسرائيل وتحقيقاً لمطالبها، بكل تأكيد، لا سيما بما يتعلق بمسألة المقاومة، عبر إنهاء حالة حزب الله من أساسها ونزع سلاحه وعزله سياسياً.
بين الفكرة والقدرة
عندما يشعر أي بلد بأن عليه ضغوطاً أو حصاراً، لا بد له من البحث عن خيارات أخرى، إذ لا يمكن له أن يبقى رهينة لطرف يمارس عليه الضغوط. هذا من الناحية النظرية، ولكن من لناحية العملية هناك سؤال مهم: هل يمكن لهذا البلد التوجه إلى مكان غير المكان الذي تعود التواجد فيه؟ على سبيل المثال، نعلم جيداً أن لبنان مرتبط إقتصادياً ومالياً بالغرب. في الوقت الراهن، لا يمكن له أن ينفصل عن الغرب ويتجه نحو الشرق على الرغم من أنه خيار لازم وضروري خاصة في ظل الضغوطات والأزمات التي يعيشها، فهناك الكثير من الفرص أمامه حال “التوجه شرقاً”، لا سيما مع الصين وروسيا واليابان ودول أخرى، تمكنه من تعزيز وضعه وتعطيه نوعاً من التعددية في خياراته.
هنا، نعود إلى السؤال السابق مجدداً: هل يمكن تحقيق ذلك في هذه ظل الظروف الراهنة؟ إن أخذ هذه القرار يجب أن يكون على مستوى الدولة، ولكن مجدداً: هل هذا مسموح؟ هل القرار اللبناني موحد في هذا الإتجاه؟
توجد بعض الأطراف التي تدعم هذا الخيار، في مقابل أطراف أخرى رافضة. بالإضافة إلى ذلك، إن الضغوط الخارجية تحول دون تحقيق هذا الخيار. في تفسير ذلك، رأينا كيف تحرك الغرب رافضاً هذا التوجه بالكامل عندما تم طرح موضوع التوجه نحو الصين، فهو لن يقبل بأن يكون لبنان ساحة للشرق خاصة بعدما أبدت بكين إستعدادها لتنفيذ الكثير من المشاريع، فالتمدد الصيني نحو المنطقة يقلق الولايات المتحدة وهي ترفضه تماماً، ولقد رأينا كيف تحركت واشنطن وضغطت بشكل كبير على حكومة بغداد بعد توقيعها إتفاقاً مع الصين.
من هنا، لا أتصور بأن يقوم لبنان بهكذا خطوة، على الأقل في الوضع الراهن، فهو بحاجة اليوم إلى مساعدات وقروض مالية من صندوق النقد الدولي؛ بالتالي، إن خيار “التوجه شرقاً” لن يصب في مصلحته لا سيما مع تأثير واشنطن الكبير، على كل من صندوق النقد والبنك الدولي والدول التي تنظيم اللقاءت لمساعدة لبنان، الذي سيؤدي إلى تعطيل أي قرار قد تتخذه تلك المؤسسات أو الدول.
بناء على ما سبق، لا يستطيع لبنان أن يقف في الوسط بين الشرق والغرب، فهو لا يزال مرتبطاً بالغرب ليس فقط إقتصادياً ومالياً بل حتى ثقافياً. إن الظروف لم تنضج بعد لتسمح له بالتوجه نحو الشرق. لكن ذلك لا يمنعه من إستمرار الحفاظ على علاقاته مع الغرب، إذ أننا لا نستطيع إختزال الغرب بالتوجه نحو الشرق، بل بإستطاعته إقامة علاقات متوازنة مع الدول الغربية، إقتصادياً ومالياً، والشرقية، تجارياً وتنموياً.
لكن حتى مع هذا الطرح الأخير، لا أتصور أن الظروف الداخلية ناضجة بحيث تقبل الإدارة الأمريكية بهذا الطرح أو أن يكون لبنان بلداً حيادياً حتى، فهي تريده أن يكون تابعاً لها، إقتصادياً ومالياً، دائماً كي يبقى تأثيرها عليه، لا سيما مع وجود بعض الأطراف الداخلية التي تتماهى بالكامل مع سياسة واشنطن سواء بما يتعلق بالداخل اللبناني، لا سيما فيما يخص المقاومة وسلاحها، أو دول المنطقة، كفك الإرتباط مع سوريا والإبتعاد عن إيران.
من هنا، لن تقبل الولايات المتحدة بأن يكون لغيرها حصة في الداخل اللبناني، خاصة دول الشرق، لأن تلك العلاقات التجارية والمشاريع الإستثمارية ستؤمن لبيروت نوعاً من توزيع النشاطات والخيارات مع الشرق وهو ما لا ترغب به مطلقاً.
ختاماً، يبقى أمر مهم تجب الإشارة إليه وهو أن الضغط الذي تمارسه واشنطن عبر العقوبات، لا يعني بأن على لبنان أن يختنق، فقد تفتح له هذه السياسة خيار التوجه نحو الشرق بالتعاون مع دول عدة، مثل الصين وروسيا واليابان وكوريا، بحيث سيصبح هذا الممر إلزامياً خصوصاً إذ ما أُطبق عليه الحصار بالكامل من جهة الغرب؛ بالتالي، يجب عليه التفتيش عن خيارات أخرى بديلة، وهذا أمر منطقي.
مصدر الصور: دالاتي نهرا – موقع بيروتكم الإلكتروني.
موضوع ذا صلة: التوجه إلى أي “شرق” والعالم كله صار “غرباً”؟