د. علوان أمين الدين*

دائماً ما يثار التساؤل حول صعوبة التغيير في لبنان حيث يرى الكثيرون بأنه ربما قد وصل إلى حائط مسدود لا يمكن إختراقه؛ فعند قراءة الوقائع وتحليلها خصوصاً التاريخية منها، يمكن القول بأن في لبنان “دول” حاكمة.. واحدة “عميقة” وثانية “عقيمة” وثالثة “غميقة”.

نعني بـ “الدولة العميقة”، وهو مصطلح معروف عالمياً، مؤسسات الدولة وإداراتها الأساسية التي تديرها على قاعدة الإستمرارية كونها تضم موظفين دائمين لا سياسيين مؤقتين. وهذا شيء ضروري حيث أن وجودها يؤكد على مبدأ السيادة الذي يجب أن تتمتع به كل دولة بوصفها كياناً سياسياً مستقلاً.

لكن عند تفكيك هذا المصطلح، نظرياً، وإسقاطه على لبنان، بجزء كبير منه، يمكن مراقبة أمر مهم جداً وهو أن غالبية الطبقة السياسية أمدت الإدارات بأشخاص محسوبين عليها من دون مراعاة أهم مبادئ الإدارة العامة وهي الكفاءة. وهذا المبدأ لا بد له من الإقتران بمبدأ آخر وهو النزاهة خصوصاً وأن الموظفين العامين ضمن كل القطاعات يتعاملون بالمال العام وخدمة الجمهور ما يحتم توافره فيهم، أو على الأقل الإلتزام به.

إن الحديث المتكرر عن الفساد في الإدارات، وليست الإدارة فاسدة بالتأكيد، جاء نتيجة لغياب هذين المبدأين بشكل رئيسي بحيث يرتبط الموظف، عموماً، بولائه لمن أدخله إلى الوظيفة وليس للوظيفة نفسها، والسبب الأغلب والأعم قد يكون الخوف من فقدانها أو خشية “التنكيل” به إدارياً.

بالتالي، إن مسألة تنظيف هذه “الدولة”، بواقعها الحالي، يتطلب الكثير من الجهد والوقت. هذا الأمر لا يعني الإستسلام للأمر الواقع خصوصاً مع وجود الكثير من الموظفين الذين يتمتعون بالصفات والمناقبيات، في جميع الإدارات، والقادرين على إعادة تصحيحها إذا ما سنحت لهم الفرصة بذلك ضمن وقت لا بأس به لا سيما إذا ما تم تفعيل دور المؤسسات الرقابية بشكل يسمح لها بالمراقبة الحقة والمحاسبة الجدية دون تدخلات سياسية أو شخصية.

إنطلاقاً مما سبق، نصل إلى مفهوم “الدولة العقيمة”. والمقصود بكلمة العقيمة هنا تلك التي لا تستطيع إتخاذ القرارات السياسية، بغض النظر عن الشرعية التي تتمتع بها، سواء لجهة تسيير شؤون الدولة بشكل صحيح حيث كثيراً ما يتغلب مبدأ المحاصصة على المصلحة العامة مما يسبب توقف نشاطها على إتفاق السياسيين.

في هذا الشأن، نستطيع القول بأن هناك الكثير من الملفات يجب البت بها، لا سيما الإدارية منها، لكنها لم تزل مؤجلة، إن لم نقل معلَّقة، بسبب الخلافات بين أغلبية الفرقاء؛ فلكلٍ من هؤلاء حجته والنتيجة في النهاية هي التعطيل.

وما يزيد من أسباب هذا العقم هو ما يراه العديد من المراقبين بوجود إرتباط للكثير منهم مع طبقة “أوليغارشية” مالية بحيث أنهم يقومون بتقديم الخدمات والمنافع المتبادلة بغض النظر عن مدى توافر المصلحة العامة فيها من عدمه. فتلك المصالح تشكل أحدى أهم أسباب هذا العقم السياسي.

أما الكارثة الكبرى فتقع بـ “الدولة الغميقة” الضاربة في جذور التاريخ. هذه “الدولة” التي لم يتم التخلص منها بعد على الرغم من حرب ضروس أوقعت آلاف القتلى والمعوقين والمخطوفين، فأغلب اللبنانيين مصابون بداء نفسي يصعب عليهم التخلص منه بسهولة ألآ وهو الطائفية. ومع أن هذا “الوباء” هو عنصر نفسي، إلا أن تراكمه عبر الأجيال، وعدم علاجه، جعل منه مرضاً عضوياً حيث بات مكوناً مهماً من المكونات الشخصية.

تحت عنوان الطائفية، يتم تخدير العقول من أجل تسهيل حكم الناس والتحكم بهم. فالطائفة دائماً “مستهدفة” من دون لماذا؟ وكيف؟ ومِنْ مَنْ؟ فإذا لم يكن هناك “عدو” حقيقي، وجد هذا العدو بلحظة من الزمن، إذ يبدأ شحن النفوس بالتوازي مع خلق مؤثرات وإيحاءات تؤكد على وجوده.

لكن المشكلة الأساسية تتمثل في أن هذا “العدو” ليس ثابتاً بل متحركاً؛ والهدف المتحرك في قواعد العلوم العسكرية هو هدف صعب الإستهداف. وما هو مجهول – معلوم أن هذا الهدف يتحرك وفق مصالح فردية وشخصية وآنية لا وفق مصلحة الطائفة، كمكون إجتماعي، إذ يتم الإختباء وراءها لتمرير صفقات شخصية.

هنا تجدر الإشارة إلى أمر مهم يتمثل بوجود “درجات” عند الطائفيين خصوصاً لناحية التساوي بالمنفعة، إذ ليسوا كلهم على نفس القدْر بحيث يحتل بعضهم الدرجة الأولى وآخرون الدرجة الثانية وصولاً إلى الطائفيين “المهمشين”، أي الأقل تأثيراً.

من هذا الباب، تتم محاربة قيام الدولة المدنية حيث يتكاتف الطائفيون على إجهاضها خلسة بينما يتظاهرون بإنها خلاص للبنان.

في الختام، ليس هناك من كلمة “مستحيل” في قاموس السياسة. كل شيء ممكن عندما تتوفر الإرادة والنية على التغيير وإصلاح الواقع. فعند تراكم الثقافة والوعي، يمكن إشادة بناء جديد على قاعدة متينة.

*مؤسس ومدير مركز سيتا

مصدر الصورة: فرانس 24.

موضوع ذا صلة: وهل الآخرون فكّروا بلبنان؟