د. فيصل مصلح*

لقد دخلنا عصر الذكاء الإصطناعي – Artificial Intelligence الذي سيشكل ثورة عالمية وتتغير معه حياة البشرية جمعاء حيث ستطال هذه الثورة جميع نواحي الحياة الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والأمنية وكل النشاطات البشرية دون إستثناء من بُنية الأسرة إلى العمر المتوقع للبشر إلى الإنجاب ونوع الجنين وحتى تدجين الموت وبرمجة الدماغ وإختفاء المرض التقليدي. في هذا المقال، سنتناول تأثير الذكاء الإصطناعي – AI على المستوى السياسي وإرتدادات هذه الثورة التكنولوجية الحديثة على الديمقراطية بشكل مباشر.

لا شك أن الديمقراطية التي نشأت في اليونان، مع السياسي بركلس في القرن الخامس قبل الميلاد، وصلت إلى حالة الجمود ولم تعد قادرة على تطوير نفسها، وهذا ما حذا بالغرب اليوم إلى طرح الأسئلة عن جدوى الديمقراطية ومدى قدرتها على تنظيم العالم الجديد. هنا، يأتي الذكاء الإصطناعي ليزيد الأمور تعقيداً وتشابكاً.

مع الذكاء الإصطناعي، ستتمكن الدول الدكتاتورية من إحكام قبضتها أكثر على شعوبها لأن السلطة القمعية التي تقمع شعوبها عبر عدة الوسائل القهرية والمراقبة المشددة لمعارضيها وجيش الإستخبارات التابع لها ستجعل الأمور أكثر سهولة لها في حال إمتلكت تقنيات الذكاء الإصطناعي، الذي سيسهل لها مراقبة الأنفاس داخل المنازل وعلى الطرقات وفي كل مكان، وسيكون أيضاً قادراً على جمع “الهوية النووية” لكل إنسان عبر “داتا” هائلة عن الحمض النووي الذي سيسهل الإختراق البيولوجي؛ بالتالي، الإختراق النفسي وما يتبعه من تحكم بالقرار السياسي لكل مواطن إذ سيصبح حينها الشعب مجرد “دمى متحركة” بيد السلطات القمعية.

بالنسبة إلى الدول الديمقراطية، سيكون للذكاء الإصطناعي فيها اليوم وقع هائل على ديمقراطياتها عبر قدرة المرشحين، في حال تعاملوا مع الذكاء الإصطناعي، من التأثير بشكل كبير على قاعدة ناخبيهم من خلال القدرة التي يوفرها الذكاء الإصطناعي على إستكشاف سريع وهائل لتوجهات الناخبين، ومعرفة مكامن الضعف ونقاط القوة، والمناطق التي تحتاج إلى جهد مضاعف، وكم ومادة الدعاية المطلوبة، كل ذلك دون الحاجة إلى وجود المستشارين (حول المرشح اللذين تتحكم بهم في أغلب الأحيان مصالحهم الشخصية) ولا إلى ماكينة إنتخابية كبيرة، حتى أن بإستطاعته إعطاء النتيجة فور إعلان الأسماء المرشحة للإنتخابات وقبل الذهاب إلى العملية الانتخابية لقدرته على إستطلاع الآراء بدقائق معدودة. هنا، نذكر مساهمة “كامبريدج أناليتكا”، في بريطانيا، عبر إستعمالها بدائيات الذكاء الإصطناعي على حمل شعوب المملكة المتحدة للتصويت لصالح الإنسحاب من الإتحاد الأوروبي من خلال جمع البيانات الهائلة وتحليلها.

بالإضافة إلى ما سبق، إن للذكاء الإصطناعي قدرة كبيرة على إختلاق مقاطع الفيديو والأخبار المزورة، وإكتشاف الفضائح المخفية وإستعمالها يوم الإنتخاب، حيث ستتمكن هذه التقنية من دمج الصوت والصورة بطريقة مذهلة يصعب فيها على الناخب إكتشاف التزوير في اللحظات الأخيرة.

من الجدير ذكره هنا أنه ومن بين الأسئلة التي طُرحت خلال لقاء المفوضية الأوروبية مع ممثلي الشركات التكنولوجية العملاقة السؤال التالي: ما هي الضمانات التي يمكن أن تقدمها هذه الشركات لتفادي الوقوع فيما يمكن أن ينسف نزاهة الإنتخابات البرلمانية الأوروبية المقبلة؟

بغض النظر عن الجواب العملي لهذه الشركات، إلا أن الجواب الحقيقي هو أن الديمقراطية والمحافظة عليها ستصبح بيد الشركات التكنولوجية الكبرى والمالكين لها.

وعلى فرض أن الدول الديمقراطية اليوم تمكنت من السيطرة على تكنولوجيا الذكاء الإصطناعي عبر السيطرة على الشركات العملاقة والتحكم بها، لكن كيف ستتمكن هذه الدول من السيطرة على الشركات الكبرى في الدول غير الديمقراطية، مثل روسيا والصين، التي تعتبر رائدة في مجال الذكاء الإصطناعي وقادرة بسهولة على إستعماله داخل الدول الغربية ما يهدد الإستقرار الأمني لتلك الدول بشكل مباشر والعكس صحيح أيضاً؟ برأينا، قد تكون عملية إغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده، التي نفذتها كاميرات مراقبة حديثة، وكذلك إنفجار مرفأ بيروت أحد الأمثلة على إستعمال بدائيات الذكاء الإصطناعي.

هنا، قد نعود إلى فكرة الصراع النووي أيام الحرب الباردة حيث كان يعلن الغرب دائماً بأن هذا السلاح “مناقض للشرعة الدولية، ولكننا ملزمون على تقوية ترسانتنا وتطوير سلاحنا النووي لأن روسيا والصين يمتلكان هذا السلاح ولا نعرف ماذا يخططون”؛ بالتالي، إن الذكاء الإصطناعي وتطويره يشبه سباق التسلح النووي سابقاً إلى حد كبير لا بل أنه سيكون أخطر وأسرع بكثير.

أخيراً، إذا كان الحاكم سيحكم شعبه عبر الذكاء الإصطناعي واذا كان الأخير مملوك من قِبل الشركات العملاقة فهذا يعني أنها ومالكيها هي من سيحكم الحاكم والمحكومين معاً خصوصاً إذا ما تم التوصل إلى زرع “الشرائح الذكية” ضمن الجهاز العصبي للإنسان. عندها، سيصبح الانسان أقوى بعشرات المرات من محرك البحث “غوغل”، في مجال العلم والمعلومات، ولكنه سيكون بالمقابل أضعف بعشرات المرات من ما هو عليه الآن لا سيما في مجالات الأمن والحرية والديمقراطية، والله أعلم.

*أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الكندية – لبنان.

مصدر الصورة: العربي الجديد – ميدل إيست أنولاين.

موضوع ذا صلة: الذكاء الإصطناعي سيحرمنا من وظائفنا.. لكنه قد يحررنا