د. عبدالله الأشعل*

يقصد بإقتصاديات الشيء منافعه ومزاياه وهو معنى إيجابي؛ أما “إقتصاديات التخلف”، فلها معنى آخر ويقصد بها في هذا المقام الخسائر والأعباء المقترنة بحالة التخلف والتي تزيد منها ومن أعباءها سوء.

للتخلف عدد من الأعباء المالية والإجتماعية والنفسية المترتبة وبعيدة المدى. ومع محاولتي لإيجاد تعريف موضوعي دقيق للتخلف، عدت إلى ما قرره عميدنا الأشهر المرحوم زكي شافعي، الذي وقف في مثل هذا اليوم من خمسين عاماً لكي يعرِّف التخلف تمهيداً للحديث عن التنمية التي تؤدي إلى التقدم. فأخذ يستعرض معايير التخلف وأمارات التقدم كي يصل في النهاية إلى إستبعاد كافة المعايير، وأن ينتهي إلى ما إنتهيت إليه بعد الكثير من التأمل والدراسة بأن التخلف هو التخلف.

لكن التخلف والتقدم صفتان للدولة تصل إليهما بطرق مختلفة. فقد إخترعت التنمية لكي تؤدي إلى أن تقف الدولة في صفوف الدول المتقدمة، والتي أُطلق عليها حتى بداية عصر المعلومات عبارة “الدول الصناعية”. ومنذ ذلك الوقت، أصبحت هناك دول متقدمة، لم ترتد إلى الوراء، ودول متخلفة حاولت أن تتقدم أطلق عليها، خلال هذه المحاولة، عبارة “الدول النامية” حيث أكمل القليل مرحلة مهمة من نموه ولكنه ليس معدوداً من ضمن المتقدمين. وأما البعض الآخر، فقد إنقلب على عقبيه وإنهارت آماله بالتنمية إذ أصبح لدينا اليوم تصنيف جديد هو الدول المتقدمة، وكلها دول أوروبية، والدول النامية، وعددها قليل من العالم الثالث على رأسها تركيا والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا أي معظم دول منظمة البريكس، وأما المرتبة الثالثة فهي “الدول الريعية” التي تعيش على ريع المورد، كالبترول، وتنفق دخلها لتحسين الحياة دون أن تأمل في أن تنضم إلى الدول المتقدمة، ثم هناك أخيراً “الدول المرتدة”، وهى التي تسرع إلى الوراء في جميع المجالات.

ليس عيباً أن نقول بأن مصر قد إنضمت إلى هذه الدول، والدليل على ذلك تراجعها في جميع المؤشرات الدولية بلا إستثناء ومن لديه عكس ذلك فليدلني عليه. هناك أكثر من ثلاثين مؤشراً تحتل فيه مصر مراتب متقدمة، أي تقترب من القاع، كان آخرها ترتيب الفريق القومي لكرة القدم في إطار الفيفا، حيث تحتل مصر المرتبة الستين وتقع في المربع الأخير من الدول الكروية.

بالمناسبة، لا بد أن يدعونا هذا للبحث عن أسباب الإنهيار حتى يمكن أن نوقفه، ثم نبحث عن أسباب التقدم. لكننا حتى الآن، نخادع أنفسنا. فلقد تبين لي مؤخراً أن التقدم والتخلف صفتان ترتبطان إرتباطاً وثيقاً بالإدارة والنظام، وإلا كيف نفسر أن دولة متخلفة، مثل تركيا، أصبحت في عداد الدول المتقدمة بعد نجاح تجربة التنمية فيها وهي تنمية إقتصادية وإجتماعية وثقافية وتعليمية ونفسية شاملة.

ليس صحيحاً أن التخلف يلحق بالشعوب لأنها، كما رأينا، لا تستطيع أن تسهم في التقدم إذا كان هناك نظام يحتويها ويحدد لها مساراتها، والأدلة على ذلك لا تحصى ولكن تكفي الإشارة إلى مثالين إثنين؛ المثال الأول هو لماذا يبرع أبناء العالم الثالث عندما يعملون في دول أخرى لديها نظام أو يتفوقون في دراساتهم ويبزون أقرانهم في الجامعات الغربية؟ والمثل الثاني، هو ما لاحظته خلال زيارات لعدد من الجامعات الأمريكية عندما كنت زائراً دولياً للولايات المتحدة العام 1992، وهذا المقال كتب منذ ثلاثين عاماً ومع ذلك تؤكد الإحداث نتائجه ومعطياته وهو أن معظم الشعب الأمريكي ينتمي إلى العالم الثالث ومع ذلك لا يتصرفون في الشارع تصرفاً متخلفاً وإنما يضبطهم النظام.

ما تحتاجه مصر هو وضع نظام فيها يقوم أساسه بالقضاء على الشخصانية والإحتكام إلى القانون في كل جوانب الحياة، فيظهر القانون أمامنا ويتوارى الأشخاص. هذه البيئة هي التي صنعت التقدم من عناصر تنتمي إلى عوالم التخلف، وأنني أدعو المركز القومي للبحوث الإجتماعية والجنائية ومراكز الأبحاث المصرية إلى إجراء دراسة لهذه النقطة مستقصية سلوك المصريين مثلاً في الولايات المتحدة، فلا نكاد نلحظ مصرياً واحداً خرج على النظام أو إنتهك القانون وإنما وفر له القانون البيئة الصالحة للأمان والحرية والإستقرار والإزدهار.

نعلم جيداً بأن لكل وضع إقتصادياته، لكننا لا نلاحظ حديثاً عن إقتصاديات التقدم لأنه في ذاته يعتبر نتيجة للإرادة والقيادة وهو عملية تراكمية، كالغني الذي يزداد غنى والعالم الذي يزداد علماً على خلاف المقابلات في هذه النقطة؛ لذلك، من الضرورة بمكان أن تهتم مراكز البحوث بدراسة إقتصاديات التخلف، أي التبعات والآثار والخسائر المترتبة عليه.

في هذه المقالة، سنقدم بعض الإضاءات التي تحتاج إلى إحصائيات ودراسات. ففي مجال الإقتصاد، هناك الكثير من الجوانب الخاصة بتركيبته، كالمؤشرات الإقتصادية والعمالة والبطالة والإنتاجية ومستوى الجودة والتنافسية والقدرة على التصدير والإكتفاء والوفاء بالحاجات والتطوير والإبتكار والبحث العلمي ضمن مجال الشراكات الإقتصادية ووضعه ضمن الإقتصاديات الدولية وأوضاع العملة وعلاقتها بسواها من العملات الأخرى وغير ذلك الكثير، قس على ذلك في مختلف المجالات التي تعكسها المؤشرات.

ما يهمني هنا هو الإشارة، بصفة خاصة، إلى تكاليف التخلف في مجال الجهل الطبي والصحي والدوائي، والتخلف في مجال عدم الوعي بقواعد المرور وإحترامها. بهذه المناسبة، إن المقارنة بين ضحايا الطرق والنقل في مصر مثلاً يتجاوز الـ 100 ألف ضحية إضافة إلى أضعاف هذا العدد من المصابين الذين يحتاجون إلى علاج ما يؤثر جدياً على عملية الإنتاج إذا كانوا من ضمن طبقة العاملين. فبين دولة متقدمة تُحترم فيها قواعد المرور وتُطبق القواعد على الجميع، نرى بأن الحوادث لا تقع إلا نادراً ومن أشخاص لديهم مشاكل نفسية.

في هذا الشأن بالذات، يمكن القول بأن حالة الإكتئاب القومي، التي تصيب الشعب عادة بسبب تدهور الأوضاع، تؤثر تأثيراً فادحاً على إنتاج المواطنين وإقبالهم على العمل. أما في مجال الصحة، فإن التخلف يعني نوعية هابطة من الأطباء وغش في الأدوية وإنحدار على مستوى الخدمات الحكومية وإنتشار الأمراض الضعيفة إنتشاراً وبائياً وقلة الإمكانيات المادية المخصصة للصحة ما يؤدي إلى المزيد من الإنهيار. لكن إذا ما تمت إدارة قطاع الصحة بالوعي والتعليم والإخلاص والرقابة والدقة، فإنها تصنع التقدم حتى في بيئة متخلفة.

صحيح أن العلاقة بين القطاعات، وخصوصاً التفاعل بينها وقيادة قطاع منها لبقية القطاعات، من المسلمات الإقتصادية في علم الإقتصاد. ولكن يجب دراسة فكرة بأن النهوض في قطاعات معينة يخفف من مظاهر التخلف ويمد المجتمع بعناصر نافعة للقطاعات الأخرى. لا شك أن إرتفاع معدل الإصابات من الحوادث والتلوث يؤديان إلى إرتفاع نسب الإعاقة البشرية داخل المجتمع، حتى أظن أن القهر السياسي والإقتصادي والإجتماعي و”البلاهة” السياسية والعجز عن التغيير وإهدار الكرامة عبر أجيال كثيرة يؤدي إلى “تخلف جيني” لا يبرأ منه المجتمع إلا بعد أجيال من لحظة الوصول إلى الجيل الأول بعد الإصلاح.

إن القهر الأمني وحالات الخوف من الشعب وإهتزاز النظام وإرتفاع أعداد المعتقلين ووتيرة التعذيب في السجون ستكرس مظاهر جديدة للتخلف وتخلق نفوساً سوداء مليئة بالأحقاد وهذا كله له تكاليف وإنعكاسات إقتصادية هائلة. يضاف إلى ذلك، أن الدولة المتخلفة تعاني من الفساد، وقد تم رصده من قِبل منظمة الشفافية الدولية، حيث يمثل في بعض الدول أحياناً معظم ميزانيتها. فلو كانت الدولة مدينة بمبلغ معين، لن يستطيع الإقتصاد أن يفي دينها وخدماته، وسيشكل ذلك نسبة عالية من الناتج القومي الإجمالي ويصبح الدين “حدبه” على ظهر الدولة تؤدي به إلى التقوس والعجز ثم الإفلاس، فمعادلة “نسبة الفساد تفوق معدل الدين” حقيقة علمية ثابتة بالإحصائيات. أيضاً، حتى الموروث الثقافي والعادات والقيم السلبية والتقاليد يترتب عليها تكاليف إقتصادية يصعب حصرها، لكن هذه العادات في مجال الحفلات والأعياد قد تدخل السرور على القلوب إلا أنها تسجل تراجعاً مخيفاً في المجال الإقتصادي .

أخيراً، إن التعليم الهابط والإعلام المتدهور والثقافة السطحية تخرج مجتمعاً يعاني من العاهات الإجتماعية والثقافية وتنتشر فيه القيم السلبية، مثل الخرافات والنصب والإحتيال والمخدرات وكل ما يضر بالصحة، ويعتبر أرضاً صالحة لإزدهار عناصر تتغذى على النفاق والسطحية والخداع ما يؤدي إلى آثار اجتماعية خطيرة وتفكك الأسر وإرتفاع معدل التوترات الإجتماعية ما يثقل كاهل الأجهزة الأمنية والقضائية؛ بالتالي، ستزدهر في هذه البيئة قيم الإستبداد والدكتاتورية والسلوكيات الشكلية المظهرية والأحقاد الطبقية يقابلها إنحسار قيمة القانون.

إنني أرجو أن يهتم المتخصصون بعلوم الإقتصاد والإجتماع والثقافة والأمن والصحة وغيرها ويجرون أبحاث مشتركة حول إقتصاديات التخلف والبحث عن أسباب وسبُل التقدم، لأن خسائر التخلف إذا قورنت بفضائل التقدم ستظهر أن الأخير في ذاته عملية إقتصادية يجب الحرص عليها والسعي لنوالها. أيضاً، يجب الإهتمام بالبحث في العلاقات الإقتصادية الدولية و”خرافة” المعونات الإقتصادية، وفحص مدى صحة ما يتردد من أن أسباب تقدم المتقدمين وهي نفسها الأسباب التي يحرصون على تخلف المتخلفين لأن الفضاء لا يتسع لكل الدول في سلة واحدة، وأن الإنتفاع المتبادل يحتم وجود التخلف والتقدم، ويجب أن يشمل البحث أخيراً خرافة حوار “شمال – جنوب” التي إستمرت عقوداً طويلة وإنخداع العالم الثالث بما يسمى حوار “جنوب – جنوب”. نحن في العالم العربي، إذا صحت هذه المقولة، أولى بالحوار لولا أن دولنا وإقتصادياتنا تتحدد مصائرها وأقدارها بالبيئة الدولية والتي تفرض عليها أن يكون التقدم والتخلف قراراً سياسياً.

*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.

مصدر الصور: النهار – الجمهورية.

موضوع ذا صلة: أزمة مياه النيل أم أزمة الدولة المصرية؟*