السفير د. عبدالله الأشعل*
رغم أن الحديث عن تنظيم “داعش” قد فرض نفسه على جميع المحافل والتحليلات والدول والمجتمعات لدرجة أن قناة “الميادين” استحدثت برنامجاً أطلقت عليه إسم “عصر داعش”، إلا أن إسرائيل لم تعلق على هذا الحدث الكبير، وهذا قد يعني أحد أمور ثلاثة وهي إما أنها طرف خفي في معادلة التنظيم، أو أنها في مأمن من خطره، أو أنها تفهم جيداً قواعد اللعبة وأنه ما دام يفتك بالدول العربية ومثل أكبر تهديد لإيران وتحرك في المنطقة ضد الرئيس السوري، بشار الأسد، لتدمير كل من سوريا والعراق فهذا يكفيها حتى يعرف الغرب أنها هي “واحة الإستقرار والتقدم والديمقراطية”، وأن العالم العربي يسهل التلاعب به وإثارته ولا يعتمد عليه، ثم أن دماء المسلمين تراق بأيدي المسلمين أنفسهم مما يصرفهم عن إسرائيل والمسجد الأقصى.
لعل موقف إسرائيل المعلن من “داعش” هو صورة مكررة من موقفها من تنظيم “القاعدة”، التي تعلن في كل مناسبة أنها ضد النصارى واليهود، وهذا بالطبع لا علاقة له بالإسلام الذي يتجاور مع الديانتين اليهودية والمسيحية طرقاً إلى السماء. فلو قدِّر لـ “داعش” أن يصيب إسرائيل بأي أذى، لأدى ذلك إلى خلط الأوراق في المنطقة، ولتحولت الشعوب العربية جميعاً إلى “دواعش” ما دامت قد فقدت الثقة في قدرة حكامها على إنصافها من المشروع الصهيوني، الذي يجسِّد سطوة الغرب وجبروته.
من هنا، لفت نظري إمعان إسرائيل في ممارسة قواعد اللعبة والمبالغة في استخفافها بملايين العرب والمليارات من المسلمين، وتحاول أن توظف كل شيء لصالحها، خاصة “داعش” الذي يفزع منها العرب، و”المبادرة العربية للسلام”، التي يفخر بها العرب ويتمسكون بها؛ فإستغلال إسرائيل لتلك المبادرة، له سجل طويل وهي تعلم أنها أُعلنت من حالة الضعف والعجز العربيين، في قمة بيروت العربية العام 2002، في وقت كان فيه الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، محاصراً ببيته ولم يتمكن من المشاركة في القمة، التي تقرر فيها مصير فلسطين بعيداً عن أهلها.
بعدها، جاء رد رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل، آرييل شارون، عليها في اليوم التالي مباشرة، وتحديداً في 29 مارس/آذار، بإجتياحه لمدينة جنين وارتكاب إحدى مجازره فيها، حتى يوم 12 أبريل/نيسان، بعد أن مارس إسرائيل أعلى درجات الكفاءة الدبلوماسية لتغطي أعلى درجات إجرامها في غيبة العرب.
بالتالي، كان طبيعياً، وأمام اصرار العرب على المبادرة، أن تحاول إسرائيل استغلالها إذ طالبت العرب بالإعتراف بها أولاً مقدمة دعوة لوزير الخارجية السعودي، رئيس لجنة الإتصال العربية بشأن المبادرة، لزيارتها والتفاوض حولها. ومن فصول التلاعب بالمبادرة المقال، الذي ظهر في عدد أكتوبر/تشرين الأول العام 2014، ضمن الدورية الشهرية المعروفة الصادرة عن “المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية” في إسرائيل تحت عنوان “عكس الإتجاه” حيث اقترح أن تكون “المبادرة العربية للسلام” جبهة تضم مصر والسعودية وإسرائيل للتحالف ضد كل من حركة “حماس” وتنظيم “داعش”، خاصة وأن الإعلام الإسرائيلي يضع الحركة إلى قائمة مع التنظيم؛ ولما لا، فكلهم مسلمون.
هذه الفكرة لم تأتِ من فراغ، وإنما تم التمهيد لها خلال عملية الإبادة الإسرائيلية لقطاع غزة لأكثر من خمسين يوماً، خلال شهري أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول 2014، إذ لا تزال غزة تلَّعق جراحها، والإعمار فيها تحيطه شكوك كثيرة. وبما أن تنظيم “داعش” عُد منظمة إرهابية بإجماع العالم، فإن حركة “حماس” هي الأخرى منظمة إرهابية، من جانب أصداقاء إسرائيل على الأقل.
أيضاً، يحاول المقال الغمر من قناة تركيا فيتهمها بأنها قريبة من “داعش” وصديقة لـ “حماس”. على أن محاولات التحالف بين العرب وإسرائيل، على عدو مشترك والقفز على حقوق الفلسطينيين، ليست أمراً مستحدثاً. فنحن نذكر أن وزير الخارجية الأمريكي، العام 1981، قد أجرى جولة فى الشرق الأوسط تحت شعار تحالف إسرائيل والعرب ضد الإتحاد السوفيتي من دون أن يقدم شيئاً للفلسطينيين لأنه أراد أن يقنع العرب بأن موسكو هي الخطر الأكبر الذي يهددهم ويهدد إسرائيل، في الوقت الذي كانت فيه العلاقات بين موسكو وتل أبيب أشد ازدهاراً من العلاقات العربية – السوفيتية، ثم أن واشنطن لا تزال، حتى هذه اللحظة، تقنع نفسها بما تريده إسرائيل وهو أن العرب، وأسلحتهم وأموالهم وقيادتهم، حزمة واحدة وعلى إسرائيل التوفق عليها في القوة والقدرة العسكرية.
صحيح أن “داعش” هدد العرب والمسلمين، ولكنه من صُنع العرب والمسلمين وواشنطن، التي اعترفت بذلك، ولا بد أن يكون لإسرائيل يد في نشأته ما دام حقق أهدافها في تمزيق العالم العربي، لاسيما القضاء على سوريا واستزاف إيران وحزب الله. بإعتقادنا، لا نظن بأن إسرائيل توقف علاقتها بالتنظيم لمجرد أن الحظ يبتسم لها، أو أن الله عصمها من أعدائها وأنهم شعب “الله المختار”، الذي لن يتركهم خالقهم في أيدي “وحوش” العرب، وإنما سلط عليهم من يرفع شعارات الإسلام ويريق دماءهم ويستنزف أموالهم.
لذلك، نظن بأن “داعش” و”القاعدة” هما صنيعة كل من إسرائيل والولايات المتحدة وبعض العرب، كلٌ لهدف يريده. فدول الخليج شجعتهما ومولتهما ماداما هدفهما هو إسقاط الرئيس الأسد، في سوريا، ولا ضير أن تتعاون هذه الدول مع إسرائيل لتحقيق هذا “الهدف الأسمى”. بالمناسبة، لم أفهم حتى الآن سبباً واحداً يدعو بعض دول الخليج إلى عداء إلى الرئيس الأسد تماماً، كما لا أفهم دوافع تركيا لهذا العداء المميت رغم الصداقة الشخصية الحميمة بين الرئيس رجب طيب أردوغان والرئيس الأسد، حيث ثار الجناح المعادي للأخير ملكياً أكثر من الملك.
ربما يكمن السبب الظاهر، الذي قد يفسر ولكنه لا يبرر هذا العداء الخليجي للرئيس الأسد، في الرغبة بإستنزاف كل من حزب الله وإيران حتى تضعف شوكتهما في البحرين واليمن والسعودية مع الشيعة. كما نستطيع أن نتفهم أن معاناة السنَّة، في العراق، على يد بعض العصابات الشيعية الإرهابية والتطهير العرقي والطائفي، الذي جرى بمعرفة إسرائيل والولايات المتحدة، وهو النقطة الجامعة بينهما وبين إيران، وهو ما يكون خلف مساندة دول الخليج للسنَّة، وكذلك تركيا، فلعل ذلك يحدث توازناً في الموقف. كما نتفهم أن هيمنة إيران على العراق، بعد هيمنة الشيعة العراقيين بتخطيط أمريكي تحت ستار الديمقراطية الزائفة واضطهاد نظام البعث الذي كان عدواً لدول الخليج، هو الذي أحدث بدايات الخلل للمعادلة الإقليمية.
ولعل القارئ لعنوان المقال عليه أن يلاحظ بأن الصلة بين “داعش” وإسرائيل هي صلة طبيعية وليست مفترضة، فلو كان التنظيم فعلاً ضد إسرائيل، وهي للحق لم تزعم ذلك، لإنقلبت المعادلة بالكامل ولحصلت على دعم جميع الشعوب العربية كما أشرنا.
أما محاولة إقامة حلف، يضم السعودية ومصر وإسرائيل ضد “داعش” و”حماس”، يعد فكرة قاصرة؛ فلو كان التنظيم تهدد السعودية ومصر، نسبياً ونظرياً، إلا أن مثل هذا التحالف، ضد الحركة، سينشر بذور بطلانه لأن الخلاف، بين النظام في مصر وحماس، يرتبط بموقف النظام من “الإخوان المسلمين”، وبالتالي لا بد من إحداث تسوية ما بينهما، آجلاً أو عاجلاً. فلو قدِّر للرئيس المصري الراحل، جمال عبد الناصر، العيش أطول من ذلك لأجرى هذه التسوية. لكن الرئيس الراحل، أنور السادات، لم يفعل ذلك لأنه كان يسير عكس توجهات سلفه إذ قرَّب جماعة الإخوان، والجماعات الدينية الأخرى، على حساب التيارات العلمانية، التي كانت تشكل أساس نظام الرئيس عبد الناصر.
الطريف في الأمر أن الرئيس عبد الناصر، عندما انقلب على جماعة الإخوان كان يعادي أيضاً السعودية، التي آوتهم وخاصة الملك فيصل بن عبد العزيز، فى إطار العداء العام الذي توج خلال حرب اليمن واننهت بهزيمة يونيو/حزيران 1967.
*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.
مصدر الصور: The Independent – PRI.
موضوع ذا صلة: “الإنسحاب العسكري الأمريكي من المشرق: بين الممكن والمستحيل” (1/2)