كثيراً ما يقال، وإن كان بشيء من الدعابة، إن الطب المثالي يهدف إلى الإستغناء عن الطبيب. ومع ذلك، فإن ظهور الذكاء الإصطناعي وزحفه في مجال الطب يضفي على تلك المقولة حقيقة مُرة. فعلى مدى حياتهم المهنية، يمكن لمتخصص في علم الأمراض أن يعاين 100 ألف عينة، ويمكن لمتخصص في الأشعة أن يراجع أكثر من ذلك، في حين يمكن للذكاء الإصطناعي إنجاز هذه المهمة في أيام عوضاً عن عقود.
تصور رحلتك الأخيرة إلى أحد مستشفيات خدمة الصحة الوطنية وسترى أنها كانت تجربة تبعث على الإرتياح أو الاشمئزاز. وربما جربت الزحام والضجيج في الممرات، أو وقت الإنتظار الممض في قسم الطوارئ؛ أو قد شعرت بلمسة تعاطف إنسانية، أو بعدم الرضى من استشارة سريعة، أو استفدت من إحالة سلسة إلى الطبيب، أو تعرضت لتأخير وإلغاء.
خلافاً لذلك، ستكون تجربتنا في المستشفيات في المستقبل سلسة وموحدة. فاللمسة الإنسانية ستُمحى، وتطهر بالكامل لتحل محلها الرقمنة الكاملة. تخيل مستشفى شبه آلي توجد فيه روبوتات تنظيف، وأسرة ذاتية الحركة، وروبوتات طبية. لكن المثل القائل بأن “خيال اليوم هو حقيقة الغد” لن ينطبق على هذه الحالة نظراً إلى أن كل أمثلة الذكاء الاصطناعي المذكورة أعلاه موجودة حالياً بشكل أو بآخر.
لكن ما الذي سيحدث للطبيب البشري العتيد في عالمنا المستقبلي؟ حسناً، يمكن للأطباء مواساة أنفسهم بحقيقة أن بطالتهم ستكون جزءاً من اتجاه عالمي تحل فيه الصناعة محل الصانع. وستقود مكننة القوى العاملة إلى بطالة جماعية. ويحمل هذا القياس الخاص بصديقنا الطبيب دلالات عميقة. فالطب هو الأمل، لأنه يناصر التعاطف الإنساني، وإذا لم يكن الأطباء في مأمن فلن يكون أحد في مأمن، وسيكون الحل هو الإشتراكية.
يبدو التمرد المفتوح ضد الآلات مفهوماً جديداً قد صيغ في أرض مستقبلية بائسة. لكن الحقيقة يمكن العثور عليها في التاريخ، في ثورة “اللوديين”، عمال النسيج، في نوتنغهام شاير. فقد قام أفراد فصيل راديكالي من عمال النسيج المهرة بأعمال شغب دمروا خلالها الآلات، أثناء الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، وذلك لحماية وظائفهم. ويمكن للمرء أن يطلق اليوم المصطلح الساخر “لودي” بشكل أكثر ملاءمة على والده إذا عجز عن فتح هاتف آيفون، بدلاً من عضو في ميليشيا.
فما هي الدروس التي يمكن تعلمها من “اللوديين”؟
الكثير. أولاً، أن المعركة الخيالية من أجل الهيمنة بين الإنسان والآلة هي فقط خيالية. فالمعركة الحقيقية هي بين البشر. كانت معركة “اللوديين” دائماً ضد المُصنِّع، وليس ضد الآلة، وكان تدمير الآلة ببساطة بمثابة تعبير عن التمرد.
ثانياً، يتجلى شعور الحكومة تجاه “اللوديين” من خلال نشرها 12000 جندي بريطاني ضدهم، وهو ما يتجاوز بكثير عدد الجنود الذين نشروا في مواجهة قوات نابليون في شبه الجزيرة الأيبيرية في العام نفسه.
على الرغم من أن لذلك بعض الايحاءات، إلا أن النضال المستقبلي ضد الذكاء الإصطناعي وأصحابه سيكون مختلفاً بشكل ملموس عن صراع “اللوديين” في القرن الثامن عشر. ففي المرة المقبلة، سيكون الصراع شخصياً ومرتبطاً بالروح. وستستبدل أشياء جديدة بقدراتنا الإدراكية العالية، مثل الخبرة التشخيصية للطبيب، وقدرة المدير على اتخاذ القرار، و(إذا كنا محظوظين) الأمور السياسية أيضاً.
سيؤدي احتكار الذكاء الإصطناعي إلى بطالة جماعية، ورعاية جماعية يتردد صداها على مستوى العالم. وستحل كفاءة الذكاء الإصطناعي، وفعاليته محل الإنسان المعرض للخطأ قريباً. وبالتأكيد سيلقى الذكاء الإصطناعي قبولاً اجتماعياً، وسيعاد توزيع وسائل الإنتاج، وهي الذكاء الإصطناعي، أي سيجري إخضاعه للملكية العامة، وربما سيؤدي ذلك إلى ظهور تعاونيات من ذوي الخبرة لتؤدي المهام الإدارية في أماكن العمل السابقة، المؤتمتة حالياً. وبغض النظر عن الهيكل، فإن مثل هذا المشروع سيتطلب التدخل الكامل من الدولة، على أساس أخلاقي لم يشهد مثله صراع “اللوديين”.
في هذا الصدد، لا يمكن الخوف من تصور نظام اقتصادي لعمالة مؤممة مكونة من آلات ذكاء اصطناعي تؤدي أعمالاً شاقة وحيوية. ويوفر هذا النموذج الإقتصادي، وهو نموذج “الوفرة،” منصة لأتم تعبير إبداعي وذوق فني للبشرية. يمكن للبشر أن يتبعوا شغفهم الترفيهي. تخيل الطبيب وهو يقضي أوقاتاً طويلة في ملعب الغولف، والمدير وهو يتابع المواهب الفنية. وماذا عن السياسي؟ حسناً، هذا من شأن أي شخص التخمين به.
إن اقتصاد الوفرة يعتمد على استدامة العيش وليس على الكفاف؛ وهو يمهد لنظام اشتراكي قديم صالح لعصر مستقبلي. فالذكاء الإصطناعي سيحول سوق العمل من خلال تدميرها هي والبنية الإقطاعية المتأصلة فيها.
تبرز هنا أسئلة محفزة للتفكير، منها: ما الذي سيحدث للطموح البشري؟ ماذا سيعني بالضبط أن تكون إنساناً في عالم الذكاء الإصطناعي؟ المفارقة أن ثورة الآلة ربما هي التي ستمنحنا الحل لمشكلاتنا المجتمعية القديمة.
*ناشط في حزب العمال البريطاني
المصدر: إندبندنت عربية.
مصدر الصورة: صحيفة العرب.
موضوع ذا صلة: الجراحة الروبوتية وأهميتها في القطاع العسكري*