تحول “النفاق البيئي” إلى ظاهرة عالمية شملت الحكومات والشركات والأفراد، إلا أن شرف التفوق في هذا المجال يذهب إلى شركات النفط الأوروبية التي تحاول أن تظهر على أنها خضراء، ولكنها غارقة في الذهب الأسود إلى رقبتها. ولعل تاج “النفاق البيئي” يذهب إلى شركة نورث فيس للملابس الرياضية والرحلات والتزلج، وغيرها من الأنشطة التي تمارس خارج المناطق العمرانية.
فقد قامت شركة خدمات نفطية إسمها إنوفيكس، مقرها هيوستن، بطلب 400 سترة من شركة نورث فيس، وعليها شعار إنوفيكس لإعطائها إلى الموظفين كهدية عيد الميلاد، إلا أن شركة الملابس رفضت ذلك بحجة أن سياساتها البيئة تمنعها من التعامل مع شركة في مجال النفط، تماماً كما ترفض التعامل مع شركات الأفلام الإباحية وشركات التبغ. فقام رئيس شركة إنوفكس، آدم أندرسون، بإرسال رسالة من أربع صفحات إلى قيادة شركة نورث فيس أوضح فيها الدور الإيجابي لصناعة النفط العالمية من نواح عدة، ثم إتهم الشركة بـ “النفاق البيئي”، لأن أغلب منتجاتها تأتي من مواد كيماوية أصلها النفط والغاز. وتضمنت الرسالة كثيراً من الحقائق عن دور النفط والغاز في حياتنا اليومية، وركز على أن إنخفاض تكاليف الطاقة هي التي مكنت شركة فايزر من تخزين لقاح “كورونا”، ونقله بدرجة 70 درجة مئوية تحت الصفر، ومن ثم فإنه أسهم في إنقاذ العالم.
كيف يمكن لقيادة شركة مرموقة، مثل نورث فيس، وكلها من الخريجين الجامعيين، أن تتجاهل أن غالبية منتجات شركتهم تتكون من البوليستر والنايلون، وأن كل ذلك يأتي من النفط والغاز؟ وكيف يمكن لهم أن يقارنوا صناعة النفط بصناعة الأفلام الإباحية، وهم يستخدمون السيارات والطائرات للتنقل بشكل يومي، ويتم نقل منتجاتهم عبر شاحنات تستخدم الديزل؟ إنه “النفاق البيئي”!
وأصبح الموضوع حديث صناعة النفط، في تكساس وأوكلاهوما ولويزيانا، وطالب كثيرون بمنع بيع المنتجات النفطية للشركة، التي ستتوقف أعمالها بالكامل لو تم ذلك.
الحكومة النرويجية وشركة النفط النرويجية “إكوينور”
من أكثر الحكومات ممارسة للنفاق البيئي الحكومة النرويجية، وبين الشركات شركة النفط النرويجية، إكوينور. فالأولى، تملك أكبر صندوق سيادي في العالم، والذي قرر عدم الإستثمار في قطاع النفط الكندي لأسباب بيئية، كما إنسحب من الإستثمار في شركات نفطية أخرى للسبب ذاته، وأعطت إعانات ضخمة لكل من يريد أن يشتري سيارة كهربائية، لدرجة أنه أصبح من المغري أن يكون لدى الشخص سيارتان. أما الأخيرة، فغيرت إسمها من ستات أويل إلى إكوينور ليعكس هويتها الجديدة، التي تركز على الطاقة المتجددة الصديقة للبيئة.
أين النفاق البيئي؟ أموال الصندوق السيادي تأتي كلها من النفط، وما زالت تأتي من النفط، وستستمر الإيرادات من النفط، فالحكومة النرويجية التي تدعم الطاقة الخضراء والسيارات الكهربائية بحجة حماية البيئة، هي نفسها التي فتحت 136 مربعاً في الدائرة القطبية للتنقيب عن النفط والغاز خلال الشهر الماضي، وإكوينور تشارك في عمليات التنقيب، ولديها أكبر حقول النفط في بحر الشمال، وبه أحد أكبر الحقول الذي تم تطويره حديثاً. ومع ذوبان الجليد في سيبيريا والدائرة القطبية “نتيجة التغير المناخي”، تزيد الشركة الطين بلة من طريق زيادة إستثماراتها وتوسيع إنتاجها في المنطقة من “النفط الثقيل”. إنه “النفاق البيئي”!
شركة “شل”
دخلت شركة شل مشاريع الطاقة المتجددة ومحطات شحن السيارات الكهربائية من أوسع أبوابها، وتنبأت ببلوغ الطلب على النفط ذروته؛ بالتالي، أعلنت بداية أفول عصره. ومنذ نحو أسبوع، إستقال عدد من كبار المسؤولين من قسم الطاقة المتجددة في الشركة إحتجاجاً على تباطؤ الشركة بالتحرك نحو الطاقة المتجددة، ونقلت بعض وسائل الإعلام تصريحات لبعض من لهم إطلاع على الموضوع، بأن هناك شكوكاً حول نية شل التوسع بالطاقة الخضراء كما أعلنت خلال الشهور الماضية.
ووقعت الشركة في مأزق كبير منذ نحو شهر عندما وضعت إستبانة في “تويتر”، وسألت عما “تنوي أن تقوم به لمحاربة التغير المناخي”، وكان عدد التصويت قليلاً ولم يتجاوز الـ 200، ولكن إشتهرت الإستبانة بسبب تعليق من عضو الكونغرس، ألكساندرا أوكاسيو أورتيز، المعروفة بمواقفها البيئة المتشددة، التي قالت إن دورها هو محاسبة الشركة على كذبها المستمر المتعلق بالتغير المناخي، تبعتها تغريدة من غريتا، الشابة الإسكندنافية المشهورة، التي إتهمت الشركة بالكذب أيضاً، إضافة إلى مشاهير آخرين. كما أن هناك قضايا عدة في المحاكم الأوروبية والأميركية والأفريقية ضد الشركة بتهمة مخالفات بيئية. وحكمت محكمة نيجيرية، منذ أسبوعين، على شركة شل بدفع غرامة تقارب النصف مليار دولار، بسبب إنسياب النفط في مناطق عدة، الأمر الذي نتجت منه خسائر إقتصادية وبيئية.
قد تكون كل هذه الأمور هي التي دفعت شل لتبني الطاقة الخضراء، إلا أن الواقع أنها أعلنت الشهر الماضي عودتها إلى التنقيب عن النفط في الدائرة القطبية بالقرب من ألاسكا، وأنها ستنقب عن النفط في سيبيريا عبر مشاريع مشتركة مع غاز بروم الروسية، وفي الوقت نفسه إشترت عدداً كبيراً من محطات البنزين في الصين، في وقت أعلن فيه رئيس الشركة أن الطلب العالمي على النفط قد يكون وصل ذروته ولن ينتعش. إنه النفاق البيئي!
اللائحة تطول، ولكن لا بد من ذكر تحول شركة توتال الفرنسية إلى الطاقة المتجددة، وعزفها على وتر التغير المناخي، في وقت تحاول فيه أن تتوسع بشكل كبير في قطاعي النفط الليبي والعراقي، وعينها على إيران. كما أنها تركز على إستثماراتها الضخمة في التنقيب عن النفط في أعالي البحار، بخاصة في سورينام وموزمبيق، وتحاول التوسع في المكسيك.
تجربة “ول مارت”
قررت شركة ول مارت أن تكون خضراء تماشياً مع “الموضة”، فوظفت نائب رئيس للتركيز على جعل محال وول مارت صديقة للبيئة، والمفترض أن يقوم هذا الشخص بتأسيس قسم كامل وتوظيف عشرات الأشخاص، إلا أنه إستقال بعد شهر أو “أُقيل”، بعد أن قدم تقريراً للإدارة ذكر فيه أن محال الشركة “خضراء” منذ زمن طويل، وأنها تتجاوز المعايير البيئية الحكومية؛ وبالتالي، فيمكنها تحقيق وفر من بيع إستمارات الكربون للشركات التي تحتاجها.
كيف حصل هذا؟ كون محال ول مارت كبيرة جداً فهناك فتحات كثيرة بالسقف مغطاة بالزجاج لتسمح للضوء بالدخول لزيادة الإضاءة والإستفادة منها إذا إنقطعت الكهرباء، وتم حساب كميات الكهرباء اللازمة لو لم تكن هذه الفتحات موجودة، بغض النظر عما إذا كان هناك حاجة إليها أم لا، فكانت النتيجة وفراً ضخماً وإمتثالاً بيئياً، وبعدها بدأت الشركة بالترويج لنفسها على أنها صديقة للبيئة. إنه النفاق البيئي!
إن موضوع “التغير المناخي” والعداء لصناعة النفط أصبحا “موضة” من دون أي أسس منطقية، الأمر الذي نتج منه مفهوم “النفاق البيئي”، وهنا تكمن مشكلتان؛ الأولى، أن البعض أصبح بوقاً بيئياً كون الأمر أصبح موضة، كما فعلت شركة نورث فيس. وما يحصل في الغرب يحصل في العالم العربي أيضاً، إذ إن هناك أبواقاً بيئية “على الموضة”، تظن أن قراءة مقالة أو مشاهدة برنامج تلفزيوني يؤهلها لإبداء الرأي في الموضوع، وتصبح ملكية أكثر من الملك، من دون أن تدرك حقيقة النفاق البيئي. والثانية، وهي الأهم، أن توقعات إنحسار الطلب على النفط أو إنتاجه مبالغ فيها، لأن الشركات تقول شيئاً وتفعل شيئاً آخر، بسبب النفاق البيئي.
خلاصة الأمر أن ثمن “النفاق البيئي” سيكون باهظاً، ومن أحد منتجاته إرتفاع أسعار النفط، لإعتقاد كثيرين في ظل النفاق البيئي أن الطلب على النفط سيبلغ ذروته، ومن ثم فإن أسعاره ستنخفض، وفي وقت يركز فيه الناس على السيارة الكهربائية، ينسون أن يسألوا إذا كانت هذ السيارة هي نهاية المطاف، فلماذا كل هذه التركيز على سيارات الهيدروجين؟ وماذا لو كانت شركات السيارات تعمل على سيارة هجينة تسير بأنواع وقود مختلفة؟ بعبارة أخرى، هل تنطبق قوانين منع بيع السيارات العاملة بالبنزين أو الديزل على السيارات التي تسير بالهيدروجين والبنزين أو الإيثانول والبنزين؟ وهل تذكرون ما قامت بها شركة فولكس واغن كي تتلاعب بالقوانين البيئية في سيارات الديزل التي تنتجها؟ الآن تدعي الشركة تحولها إلى السيارات الكهربائية لمحاربة التغير المناخي الذي كان أحد أسبابه تلاعبها بمعدل الإنبعاثات من عادم السيارات. إنه النفاق البيئي!
*إقتصادي متخصص في مجال الطاقة.
المصدر: إندبندنت عربية.
مصدر الصور: رواد الأعمال – العربية نت.
موضوع ذا صلة: مَن يهمس في أُذن جو بايدن حول سياسة المناخ؟