بعد حوالي عقدين على أحداث 11/9 في الولايات المتحدة، تمضي إدارة الرئيس دونالد ترامب في قرارها بسحب القوات الأمريكية من عدد من المواقع في الشرق الأوسط: العراق، وسوريا وأفغانستان. القرار يستخدمه الرئيس ترامب حالياً في حملته الإنتخابية لإقناع الأمريكيين بأنه جاد في تقليص مشاركة الولايات المتحدة في الحروب بالعالم. تماماً كما يوظف لذلك حفل توقيع إتفاق التطبيع التاريخي بين إسرائيل والإمارات، الذي يرعاه الثلاثاء المقبل في واشنطن، وقبله إتفاق تاريخي آخر وقع هذا العام مع حركة طالبان في أفغانستان.
وكما استخدم الرئيس السابق، باراك أوباما، عملية القوات الخاصة الأمريكية لقتل أسامة بن لادن زعيم تنظيم “القاعدة” في حملة إعادة انتخابه لولاية ثانية، يفعل ذلك الرئيس ترامب بعملية قتل زعيم تنظيم الدولة الإسلامية – “داعش”، أبو بكر البغدادي.
وفي خضم قرارها بسحب جانب من القوات الأمريكية في ألمانيا، تواصل إدارة الرئيس ترامب مساعيها لنقل مقر القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا، المعروفة اختصاراً بـ “أفريكوم” والذي يوجد مقره بشتوتغارت جنوب ألمانيا، إلى إحدى بلدان شمال أفريقيا، التي تمتنع تاريخياً عن إقامة قواعد عسكرية أجنبية على أراضيها.
وناهيك عن مظاهر الفوضى الأمنية في مناطق وبؤر الأزمات التي تنسحب منها القوات الأمريكية في الشرق الأوسط، يبدو أن الأوضاع الأمنية في جنوب البحر الأبيض المتوسط وأفريقيا، باتت تؤرق صانعي القرار الأمريكي، إذ تكشف مؤشرات عديدة تردداً واضحاً في السياسة الأمنية والخارجية الأمريكية إزاء التطورات المتسارعة بدءاً من التوتر في شرق البحر الأبيض المتوسط، والأزمة الليبية، وصولاً إلى الإضطرابات والمشاكل الأمنية في منطقتي الساحل والصحراء والقرن الأفريقي.
وبقدر ما تحدث تقلبات السياسة الأمريكية بهذه المناطق في ظل إدارة الرئيس ترامب، ارتباكاً في استراتيجيات الشركاء الأوروبيين وخصوصاً على مستوى حلف الناتو، فإن الوضع يبدو أعقد بالنسبة لبلدان شمال أفريقيا: الدول المغاربية ومصر، وهو ما يفسر تغييرات عديدة في صلب جيوش دول المنطقة وفي إستراتيجياتها.
منطقة إضطرابات
إن الحملات العسكرية التي نفذتها قوات التحالف ضد “داعش” في سوريا والعراق، وقبلها ضد تنظيم القاعدة، أنهكت التنظيمين الإرهابيين لكنها لم تقضِ عليهما، كما يؤكد خبراء أمنيون. ولكن العنصر الأكثر إثارة للقلق بالنسبة لبلدان شمال أفريقيا يكمن في انتقال خطر تلك الجماعات المتشددة إلى منطقة الساحل والصحراء حيث تشكل تحالف بين “القاعدة” و”داعش” بموازاة جماعة “بوكو حرام”، وإلى القرن الأفريقي حيث ينشط تنظيم “حركة الشباب” الصومالي.
وتعتبر التطورات الأمنية والعسكرية في كل من ليبيا ومالي، أكبر تحد سواء لدول المنطقة أو لصانعي الإستراتيجيات الأمنية في العواصم الأوروبية والولايات المتحدة. إذ تكشف الحالتان الليبية والمالية، كيف تستغل الجماعات الإرهابية الفقر وضعف الدولة وفساد مؤسساتها، وكيف لا يتردد العسكر في الدوس على الفرص الجنينية لإقامة الديمقراطية.
وبعيداً عن أجواء حملة الإنتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة ووعود الرئيس ترامب، يكثف مسؤولون عسكريون أمريكيون لقاءاتهم وتحركاتهم في عواصم مغاربية وأفريقية، بحثا عن تنسيق الجهود مع دول المنطقة في مواجهة تحديات يلخصها الميجر جنرال دايغفين أندرسون، قائد القوات الجوية في أفريكوم بشتوتغارت، قائلاً “يشكل خطر الجماعات المتطرفة العنيفة سبباً رئيسياً لنشر قوات أمريكية في أفريقيا”، وجاء كلامه خلال لقاء له هذا الأسبوع بمعهد المشروع الأمريكي لأبحاث السياسة العامة بواشنطن.
وبينما تحدث الرئيس ترامب نهاية شهر يوليو/تموز الماضي (2020) صراحة عن قراره بإغلاق مقر أفريكوم في شتوتغارت، تكشف تقارير متواترة بأن البنتاغون الذي فشل في السنوات الماضية في إقناع العواصم المغاربية بنقل مقر أفريكوم إليها، يسعى الآن إلى إقامة قواعد عسكرية في بلدان المنطقة، لإستخدامها في مهمات التدريب وإطلاق طائرات بدون طيار – الدرون، والتي باتت السلاح الأكثر فعالية للقوات الأمريكية في عملياتها ضد العناصر الإرهابية.
“نفذت قوات أفريكوم منذ بداية العام الحالي 46 غارة جوية ضد أهداف في القارة الأفريقية” يؤكد الجنرال ستيفن تاونسند قائد القوات الأميركية في أفريكوم، خلال تصريحات لصحيفة “شتوتغارتر ناخريشتن” الصادرة في شتوتغارت، موضحاً أن معظم العمليات تمت بواسطة طائرات بدون طيار واستهدفت مواقع لجماعة “الشباب” الصومالية. رقم يقارنه الجنرال تاونسند، القائد السابق لقوات التحالف ضد “داعش”، بأنه يعادل عدد العمليات التي كانت القوات تنفذها في اليوم الواحد بسوريا والعراق.
وكان موقع “إنترسبت” قد كشف، استناداً إلى وثائق لقوات أفريكوم، عن وجود 34 قاعدة في شمال وغرب وشرق القارة الأفريقية، وذلك ثلاث مرات أكثر مما يعلن عنه البنتاغون.
وأفاد التقرير بأن ثلاثة من تلك القواعد أو الوحدات توجد بليبيا. وأيا كان عدد تلك القواعد والوحدات العسكرية، فان انتشارها كماً ونوعاً، يتحدد وفق متغيرات إستراتيجيات الدفاع والقيادة التي يقوم بها البنتاغون منذ سنوات بهدف الحفاظ على الموقع القيادي للولايات المتحدة في العالم، في سباق محموم مع القوة الصينية الصاعدة والروسية المنبعثة بعد سنوات من الأفول.
فراغات إستراتيجية.. من يملؤها؟
ثمة تحد من نوع آخر، يمكن رصده سواء في حالتي ليبيا ومالي أو غيرها من الأزمات في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، ويتمثل في ظهور أدوار جديدة منافسة للنفوذ الأمريكي الذي يواجه أصلاً تحدي توسع النفوذ الصيني في القارة الأفريقية. فبينما كان الأمريكيون منشغلون بالإختراق الروسي في ليبيا عبر معدات عسكرية روسية وآلاف من مرتزقة “فاغنر”، فوجئوا ومعهم الأوروبيون المتواجدون عسكرياً في مالي، لمكافحة التنظيمات الجهادية، بإنقلاب عسكري في البلد الواقع جنوب الصحراء. وتحدثت تقارير غربية عن دور روسي محتمل في الإنقلاب.
وفيما يبدو كرد فعل على ما يجري، ألمحت لقيادة العسكرية لأفريكوم، في مايو/أيار الماضي(2020)، إلى دور محتمل لها في ليبيا للحد من التدخل الروسي الداعم لقوات الجنرال خليفة حفتر، بما في ذلك إستخدام لواء مساعد متمركز في تونس. وفي وقت لاحق، قللت القوات الأمريكية من حجمه، وقالت إن الأمر يتعلق بـ “وحدة تدريب صغيرة ضمن برنامج التعاون العسكري ولا ترتبط بأي حال بوحدات عسكرية مقاتلة”.
وهنالك لاعب استراتيجي آخر برز دوره بشكل لافت في الآونة الأخيرة في المنطقة، وهو اللاعب التركي الذي استغل بدوره انشغال شركائه الأوروبيين والأمريكيين داخل حلف الناتو، بالجدل المتواصل فيما بينهم حول الموازنات وحول إعادة تمركز القوات الأمريكية في أوروبا وخارجها. حتى بات الدور العسكري التركي في ليبيا أكثر نفوذاً من القوة العسكرية الأوروبية الأولى، أي فرنسا، وأكثر من إيطاليا الجارة الشمالية والمستعمر السابق لليبيا.
وفي عددها لشهر سبتمبر/أيلول تصف مجلة “فورين أفيرز” الأميركية، المتخصصة في السياسة الخارجية، حصيلة السياسة الخارجية الأمريكية في ظل إدارة الرئيس ترامب، بسنوات الإضطراب بالقول “بعد حوالي أربع سنوات من الإضطراب، أصبح أعداء الولايات المتحدة أقوياء، وأصدقاؤها أضعف، والبلد نفسه معزول بشكل متزايد ومنطوٍ على نفسه، لكن لا مجال للعودة إلى الوراء.”
ويرى خبراء أوروبيون بأنه يتعين إنتظار نتيجة المخاضات داخل مؤسسات صنع السياسة الأمنية والعسكرية الأمريكية، وهي سياسات لا تتغير تقليدياً بشكل دراماتيكي مع الإنتخابات لكنها قد تأخذ أشكالاً جديدة، مع حفاظها على محدداتها الإستراتيجية وعقيدتها، وضمنها الحفاظ على مصالح الأمن القومي الأمريكي ومصادر الطاقة وأمن إسرائيل.
“حرْجُ” جيوش دول شمال أفريقيا
ليس وحده تراجع الدور الأمريكي أو الأوروبي في المنطقة، بل وبالخصوص دخول لاعبين إقليميين، مثل تركيا، ما يثير حرجاً كبيراً لدى دول شمال أفريقيا وخصوصاً منها ذات الجيوش الأكبر، مصر والجزائر والمغرب.
وفيما يستمر إعتماد دول المنطقة على اتفاقيات التعاون الأمني والعسكري بشكل متفاوت مع شركائها في حلف الناتو، سواء عبر برامج تدريب أو مناورات مشتركة، أظهرت التحديات الأمنية والعسكرية الجديدة في دول شمال أفريقيا حاجة مؤسساتها العسكرية وجيوشها لتغييرات في مستويات عديدة، وبأن صفقات التسلح التي تقتنيها دول المنطقة، وسط مناخ لا يخلو من المنافسة فيما بينها، لا تسد الثغرات والإختلالات الإستراتيجية القائمة أصلاً بسبب ضعف التنسيق الأمني والعسكري وغيابه أحياناً.
فقد أقدمت القاهرة على إحياء التعاون العسكري مع روسيا، الذي تجمد منذ حرب 1973 ضد إسرائيل. وكشفت تقارير بأن مصر عززت ترسانتها العسكرية التي تعتمد تقليدياً على الصناعات العسكرية الأمريكية والفرنسية وحتى الألمانية، من خلال اقتناء أسلحة روسية متطورة في الفترة الأخيرة، وأشار تقرير روسي إلى أن مناورات أجرتها قوات مصرية حديثاً كشفت عن احتمال امتلاك الجيش المصري لمقاتلات “ميغ – 29” ومروحيات “كاموف – 52” إضافة إلى منظومة الدفاع الجوي “إس – 300” الروسية المتطورة.
وكردٍ على التطورات العسكرية في ليبيا بعد طرد قوات الجنرال حفتر من مناطق غرب ليبيا واستعادة قاعدة “الوطية” – غرب ليبيا من طرف القوات الموالية للحكومة الوفاق في طرابلس، والتي أعقبت توقيعها لإتفاقيات تعاون أمني وعسكري مع تركيا، هددت مصر بالتدخل العسكري في ليبيا ومنح البرلمان المصري تفويضاً للجيش بالقيام بعمليات مسلحة خارج البلاد، وصفها الرئيس عبد الفتاح السيسي بمهام “دفاع عن الأمن القومي المصري”، معتبراً أن مدينة سرت وجوارها قاعدة الجفرة “خط أحمر”.
على غرار نظيره المصري الذي تتوزع جهوده بين الحرب على الإرهاب وعقود من الصراع على السلطة، يجري الجيش الجزائري تغييرات أساسية. فالجزائر التي تعتبر ثاني قوة عسكرية في القارة الأفريقية، بعد مصر، يتوفر جيشها على أكبر ميزانية للدفاع. وسجلت تقارير متخصصة، مثل تقرير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، أن الجزائر تتصدر الدول الأفريقية المستوردة للأسلحة، ويصل إنفاقها السنوي على التسلح إلى 10 مليارات دولار، وتعتبر روسيا سوقاً تقليدياً للجزائر.
لكن الجيش الجزائري، الذي ظل منذ استقلال البلاد لاعباً رئيسياً في الحياة السياسية، بدأ فقط في السنوات الأخيرة مشروع الإحترافية لموارده البشرية. وفيما يعتبر تغييراً تاريخياً في عقيدة الجيش الجزائري، صادق البرلمان على تعديل دستوري سيعرض على استفتاء في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل (2020)، وينص على السماح للجيش بالقيام بمهام خارج البلاد إذ “بإمكان الجزائر في إطار الأمم المتحدة، والإتحاد الأفريقي والجامعة العربية وفي ظل الإمتثال التام لمبادئها وأهدافها، أن تشارك في عمليات حفظ واستعادة السلام”، وتنص مادة ثانية على منح رئيس الجمهورية صلاحية الموافقة على إرسال الجيش بشرط تصديق ثلثي أعضاء البرلمان.
أما المغرب، الذي تتميز قواته المسلحة بانضباط احترافي، فقد اكتسبت في العقدين الماضيين خبرة واسعة بمشاركتها في عمليات حفظ السلام الأممية والعمليات الخاصة بالقارة الأفريقية على وجه الخصوص. وأظهر المغرب اهتماما بتطوير تجهيزات قواته الجوية معتمداً على سوقه التقليدية من الصناعات العسكرية الأمريكية لإقتناء طائرات “إف – 16” ومنظومة صواريخ “تاو”، وإجراء مناورات عسكرية مشتركة فوق مياه البحر الأبيض المتوسط.
*خبير بالشؤون المغاربية في مؤسسة دي دبليو الألمانية
المصدر: دي دبليو.
مصدر الصور: المجلة – سبق برس.
موضوع ذا صلة: الشمال الأفريقي وتحديد الأدوار في ليبيا