محمد أبو ريا*

أخذ الذهب مكانته بين جميع المعادن الأخرى منذ قديم العصور، بدءاً من الحضارة الفرعونية والمعابد الهندية والإمبراطوريات الصينية المتعاقبة وصولاً ليومنا هذا، وعلى إثره اشتعلت حروب وتوسعت ممالك وحضارات على حساب أخرى، ودوماً ما يبرر الهوس العالمي بهذا المعدن بكونه نادراً ومخزوناته محدودة جداً، وهي الأسباب التي تكسبه قيمة وهيبة اقتصادية.

لكن الندرة من عدمها ليست محركاً أساسياً في هذا المحور، فإذا أعدنا التفكير بكم الأشياء النادرة من حولنا، سنجد على سبيل المثال أن الماء العذب نادر أيضاً، وثمة ملايين البشر لا يملكون مصادر مياه صالحة للشرب، يضاف إلى ذلك القلق العالمي من الجفاف ونفاد الموارد المائية ككل، وهي المشكلة التي تؤرق قادة العالم وتنذر باحتمالية اندلاع حرب مستقبلية، ومع ذلك لم تزد هذه الحقائق من قيمة الماء الإقتصادية ولم تضمه إلى خانة الاستثمارات كما فعلت مع الذهب.

فضلاً عن ذلك، إن كل ما يدخل في استخداماته الصناعية لا يتجاوز الـ 10% من إجمالي المعروض منه في وقتنا الراهن، أي أنه ليس بتلك الندرة التي نتصورها، على مستوى الاستخدامات العملية والمفيدة على الأقل.

هل الذهب فعلًا من أفضل الاستثمارات؟

اكتسب الذهب لقب “الملاذ الآمن” على اعتبار أنه أحد الاستثمارات الآمنة على المدى البعيد، لكن إذا قورن بالاستثمارات التقليدية سنجد أنه لا يعود بأية أرباح فعلية على مالكه، فلا عائد إيجاري متوقع كما في الاستثمارات العقارية ولا أرباح شهرية نتيجة مبيعات خدمات أو سلع استهلاكية، فهو كما قال عنه الملياردير والمستثمر المعروف وارن بافيت “لا يفعل أي شيء، لكنه فقط يجلس مكانه وينظر إليك”، إذن، لماذا اكتسب الذهب هذا الصيت؟

بالنسبة للكثير من الناس، فإن الذهب أكثر واقعية من سوق الأسهم المتذبذب أو العملات الورقية، مثل الدولار التي تفقد من قيمتها بفعل التضخم أو الاضطرابات السياسية كما حصل في العديد من الدول أو نتيجة قرار حكومي يلزم بخفض قيمة عملتها تحفيزاً للاقتصاد أو أي سبب آخر.

لذلك، تكونت قناعة لدى الناس أن الذهب أداة تحوط مالية آمنة في وقت الأزمات، وعلى هذا الأساس ترتفع أسعار الذهب تحديداً في تلك الأوقات، مثلما حدث خلال الأزمة المالية العام 2008، حين ارتفعت أسعار الذهب من 865 دولاراً للأونصة لتصل، مع شهر أغسطس/آب 2011، إلى ذروة تاريخية بلغت 206.5 دولار للأونصة (قد يكون الرقم الصحيح 2065 دولاراً).

وبشكل مشابه، فمنذ بداية أزمة كورونا، واصلت أسعار الذهب الارتفاع لتصل إلى ذروة جديدة بـ 206.7 دولار للأونصة (قد يكون الرقم الصحيح 2067 دولاراً) خلال نفس الشهر العام 2020، ما عاد على المستثمرين فيه قبل شهور قليلة بأرباح مجزية جداً. وقد يبدو في هذه الحالة أنه أكثر ربحية من الاستثمارات الأخرى خصوصاً إذا نظرنا إلى سعره خلال الشهور التي سبقت الأزمة وسعره حالياً، لكن ماذا عن المدى الأبعد قليلًا؟

على مر الـ 15 عاماً الماضية، مثلا”، سنجد أن الذهب حقق أرباحاً تصل إلى 265.5% مقارنة بـ 147.92% لمؤشر “داو جونز” وهي نسبة مرضية ومجزية، وبالنظر من هذه الزاوية، يعتمد مؤيدو الذهب في مناصرتهم للاستثمار فيه على حساب الأصول الأخرى بإعتباره ليس فقط أكثر أماناً وإنما ربحية أيضاً، لكن إذا وسعنا الهامش الزمني، هل سيبقى الحال لصالح الاستثمار في الذهب؟

إذا نظرنا لحركة أسعار الذهب على مر الـ 30 عاماً الماضية، سنجد أنها ارتفعت بما يعادل 401.88%، وفي المقابل ارتفع مؤشر “داو جونز” بـ 944.2%، ولو ذهبنا لمؤشر “ناسداك” سنرى أرقاماً أكثر إثارة، فقد ارتفع بنسبة 2323.83%، وحتى لو فكرنا في الودائع بمعدل فائدة متوسط 5.25%، سنصل إلى ضعف العائد الذي حققه الذهب خلال تلك الفترة.

ماذا يعني كل ذلك؟

عندما يصف العديد من المستثمرين الذهب كأداة تحوط ضد التضخم في أوقات المخاطر، فإن ذلك يكون صحيحاً في كثير من الحالات وفي إطار زمني محدد، لكن يجب الأخذ بعين الاعتبار العامل الزمني على وجه الخصوص؛ فمثلاً، في الفترة ما بين العامين 1986 – 1990، ارتفع التضخم في أمريكا من 1% إلى 6%، وفي نفس الوقت انخفضت أسعار الذهب من 802 دولار إلى 695 دولاراً، وهذا مثال واضح على أهمية دراسة البعد الزمني قبل القيام بأي استثمار على المدى البعيد.

ماذا عن أن أسعار الذهب أكثر استقراراً وأقل تذبذبًا من الاستثمارات الأخرى؟

هناك اعتقاد سائد أن سوق الأسهم خطير ومتقلب وأن الذهب أكثر أماناً، لكن هذه الفكرة أيضاً غير صحيحة وتحديداً لو أخذنا بعين الاعتبار الهامش الزمني مرة أخرى، إذ سنشهد أنه منذ العام 1975 كان الانحراف المعياري (وهو مقياس يستخدم لقياس التذبذب في أسعار الأصول) أعلى بنسبة 50% من الأسهم، أي أن أسعار الذهب أكثر تقلباً من الأسهم بشكل عام.

المستثمر الذكي يدرك تماماً أهمية تنويع استثماراته، من خلال استهداف أصول مختلفة وغير مترابطة ليتمكن من الوصول إلى محفظة مالية ذات مخاطر تتناسب مع أهدافه وتطلعاته، والذهب يمكن أن يكون واحداً من هذه الأصول، لكن ذلك لا يعني أنه أفضل الخيارات الاستثمارية على الإطلاق، وإنما يعني أنه علينا دوماً التركيز على الحقائق بدلاً من ملاحقة موضة الأسواق، الذي يمكن أن يؤدي بالمتحمسين لتحقيق المكاسب السريعة إلى خسائر طائلة قد تصل إلى حد وقوعهم في براثن الدين.

وكما جرت العادة في الأسواق، ففي الوقت الذي يكثر فيه الحديث عن استثمار ما وبأنه مربح جداً وعليك ألا تفوت الفرصة، يجب عليك أن تكون حذراً بشكل مضاعف في تقصيك عنه إذ غالباً ما يكون قد وصل لمرحلة الفقاعة التي قد تنفجر في أي وقت.

*مستشار مالي.

المصدر: نون بوست.

مصدر الصور: بلومبيرغ – بزينيس إنسايدر.

موضوع ذا صلة: هل فات أوان الإستثمار في البيتكوين؟